إلى تائه يبحث عن صورة: مجلة الكواكب هناك في آخر الطرقة. سهم وسط التراب يقول: إلى الأرشيف ثم آخر يمين اليسار.
لنبدأ سريعًا من تخيل فرضية علينا تناولها في السينما. أمامنا فيضان مفاجئ يدمر بلدة صغيرة. “كيف يمكن أن نتناوله؟”.
كل الأفكار التي يمكن أن نقدم من خلالها تلك المأساة في جوهرها ثنائية متضادة. إمّا أن نعرضها من خلال فيلم مأساة بضحايا الفيضان. أو بنظرة أكثر تفاؤلا لمن أسعدهم الحظ بالنجاة فنصنع من المأساة أملا. ومن ذلك يمكن أن نفهم نوعًا ما أيديولوجية الصانع في كلتا الحالتين.
في حوار تليفزيوني حول معركة كلامية عن المحرقة كان فرانسيس كوبولا يحكي عن المحرقة الهتلرية لليهود. قال بقطعية واضحة -أحبها في أغلب الأحاديث المماثلة- أنه “في المحرقة يموت نحو 6 ملايين شخص. هكذا تكون السينما ليس 150 منهم يتم إنقاذهم”.
مع فاجعة توقف صدور مجلة الكواكب الورقية الأعرق في مخيال الثقافة المصرية على الإطلاق. نعود قليلًا لنطرح تساؤلا تأسيسيا دون بكائيات أو تجاهل: “ماذا يعني هذا الإغلاق مجازًا في سياق تحجيم عام قبل التنظير على المطبوعات الورقية وجدواها ومدى نفعها في بلد لم يعد يقرأ الورقي أو الإلكتروني أو حتى روشتة الطبيب المعالج؟.
توجه رسمي بالإغلاق
الهيئة الوطنية للصحافة في مصر أصدرت قرارها خلال اجتماع عام شديد الغرابة بإيقاف إصدار مجلة “الكواكب”. أشهر وأقدم مجلة فنية محلية. والتي صدر عددها الأول قبل تسعين عاما. في سياق “توجه رسمي نحو رقمنة عامة للصحف ودمج المؤسسات القومية الكبرى” أو هكذا برروا.
انتهى الأمر إلى دمج مجلتي “الكواكب” و”طبيبك الخاص” -طبية صدر عددها الأول عام 1969 في مجلة حواء المتخصصة في شؤون المرأة التي تعود إلى عام 1954. وجميعها تصدر عن مؤسسة دار الهلال. مع إنشاء موقع إلكتروني لكل إصدار. على أن يتم ذلك اعتبارا من العدد الأول لشهر يونيو المقبل.
وأوضحت الهيئة -في بيان- أن العاملين بالإصدارات المشار إليها سيحتفظون بوظائفهم وحقوقهم المالية من أجور ومزايا مالية أخرى. كما وافقت على البدء في الإجراءات الخاصة باستثمار عدد من الأصول غير المستغلة بمؤسسات الأهرام ودار التحرير وروز اليوسف “رسمية”.
الرقمنة والمساء
كل ذلك كان بعد نحو عام من إعلان الهيئة في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الصحافة المصرية تحويل إصدارات مسائية لمؤسسات صحفية قومية لنسخة إلكترونية. فضلا عن إلغاء طبعاتها الورقية التي يعود تاريخ نشأتها إلى منتصف القرن الماضي.
في قلب هذه المجزرة توقفت عن الطبع “الأهرام المسائي” التابعة لمؤسسة الأهرام. و”الأخبار المسائي” الصادرة عن مؤسسة أخبار اليوم. و”المساء” التي تعد أول جريدة مسائية في مصر وكانت صوتا لثورة 23 يوليو/تموز 1952 -أنهت النظام الملكي وأعلنت الجمهورية- والتي تصدر عن مؤسسة دار التحرير للطبع والنشر. بينما تعلمت الدرس سريعًا أغلب الصحف والمواقع الإلتكرونية ورقمنت نفسها بنفسها.
تمثل “الكواكب” أكبر أرشيف للتاريخ الفني والسينمائي والمسرحي المصري الذي يقترب من القرن.
ويعود إصدارها إلى الصحفي اللبناني جورجي زيدان -مؤسس دار الهلال ومر على رئاسة تحريرها مشاهير الإعلام بمصر. منهم محمود سعد وحسن شاه وراجي عنايت ورجاء النقاش.
وفي بدايات عصر السينما الناطقة في ثلاثينيات القرن الماضي حملت المجلة على أكتافها تعريف القراء بأول جيل لنجوم الفن بلا استثناء منذ صدر عددها الأول بـ34 صفحة. تتصدره بطلة أول فيلم عربي ناطق “أنشودة الفؤاد”.
“ماذا يعني كل ذلك؟”
قبل أن نجيب كان علينا أن نضع كل هذا الزخم -فخر إنتاجنا الثقافي- أمام أعين الجميع لتقدير المأساة.
يمكن أن نجيب بالمساحة الأكثر سطحية بأن القائمين على الوضع الثقافي والسياسي لا يمثل لهم أي فارق إغلاق أكبر صرح ثقافي في الدولة. لكننا يمكن أن نغطس أكثر في جدال مع بعض الكتّاب الذي أبدوا استغرابهم من الغضب العارم الذي صدر عمن أزعجهم القرار. على اعتبار أنها أصبحت ابنة للماضي ولا يقرؤها أحد. فلماذا البقاء عليها!
يقدم بعض “التنويريين” الذين لا يمثل لهم القرار أي غضب مساحة عربون محبة لمن أصدروا القرار. أو آخرون يرون فعلًا أن الاعتراض جزئي يخص ماضي المجلة وهو نظرة أكثر سطحية مما قبلها.
إغلاق مجلة “الكواكب” يحمل في قلبه رسالة أكثر قطعية مع الحجب والإغلاق الذي لا يوقفه شيء حتى لو كان مجلة تابعة للوزارة وتملك أكبر أرشيف. حرصًا على اللقيمات التي تصرف عليها. كما تُصبح أكبر مرونة لتسريب أرشيفها لطيور الظلام. ذلك الأرشيف الذي كان يمكن الاستفادة منه محليًا أو حتى الاستفادة المادية.
خوفا على الأرشيف
“الكواكب” مجلة انتشرت وأثبتت تأسيسها للواقع الثقافي-الفني حتى أصبح مُتجاهلها جاهلا عن بعض ما يحدث في الوسط الثقافي الأدبي والسينمائي على حد سواء. ولا أستبعد أبدًا أن دمجها المزعوم خطوة تالية لتسريب بعض أرشيفها الذي لا يكفينا الحديث عنه أن نكتب كل يوم حتى تتوقف قلوبنا.
لم تكن “الكواكب” مجرد أرشيف ثقافي. بل كانت تمثل تاريخا على الجميع أن ينظر إليه ويتعلم من خلاله كيف كنّا وماذا نفعل لنبقى في لحظة تاريخية شديدة الخطورة. لحظة تندثر فيها “الكواكب” فتترك النجوم في حالة رعب أبدي من الإغلاق غير المأسوف عليه أو الحجب الذي يستقبله أصحابه على اعتباره “وسيلة نجاة”.
حدث إغلاق “الكواكب” يجب أن يبقى في الأذهان كعلامة فارقة يمكن التأسيس من خلالها. دعونا لا نستهتر في استقباله كالجهلاء مدعي العلم الذين يمثلون خطورة على الثقافة أخطر ممن لم يحصلوا على محو الأمية.