حملة تطهير عرقي مستمرة منذ أكثر من عام ونصف العام تجتاح منطقة اليتجراي الشمالية بإثيوبيا. هنا على أرض التيجراي يجري شحن كبار السن والنساء والأطفال على عربات ليغادروا قراهم وبلداتهم. إذ يتم توجيه الرجال إلى أماكن احتجاز مزدحمة. حيث مات كثير منهم بالجوع والمرض والتعذيب. مئات آلاف من التيجراي تم تهجيرهم قسرًا بسبب عرقهم.
هذه الجرائم -بحسب تقرير لـFOREIN AFFAIRS– نتاج حرب بدأت في نوفمبر/تشرين الثاني 2020. واتحدت فيها القوات الفيدرالية الإثيوبية وحلفاؤها -قوات إريتريا وأمهرة الإثيوبية- ضد قوات جبهة تحرير التيجراي الشعبية. والتي كانت تحكم البلاد في السابق.
قوات الحكومة الإثيوبية سيطرت في بداية الأمر على غرب الإقليم. حيث نفذت -بمشاركة الجيش الإثيوبي- حملة وحشية من التطهير العرقي ضد مجتمعات التيجراي. وتم إخفاء العديد من هذه الانتهاكات عن الأنظار. إذ فرضت حكومة رئيس الوزراء الإثيوبي -أبي أحمد- قيودًا على الاتصالات في جميع أنحاء الإقليم وعرقلت جهود المحققين المستقلين والصحفيين والعاملين في المجال الإنساني. ما يصعب التحقيق في الروايات المتواترة والمتراكمة الواردة من المنطقة.
إغلاق كامل.. اغتصاب وتهجير
في النصف الأول من 2021 ظهرت تقارير مروعة عن عمليات اغتصاب وقتل ونزوح جماعي. ما دفع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين إلى إدانة التطهير العرقي ودعوة القوات الإثيوبية والأمهرة إلى الانسحاب.
مع ذلك أغلقت السلطات الإثيوبية منذ ذلك الحين الإقليم بالكامل. وقطعت عنه الاتصالات السلكية واللا سلكية والخدمات المصرفية.
واستمرت الفظائع في الإقليم بحسب محققي منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش لأكثر من 10 أشهر بعد إدانة “بلينكين” للتطهير العرقي.
ونفذ المسؤولون الإقليميون وقوات الأمن في أمهرة حملة ممنهجة من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. بما في ذلك القتل والسجن غير القانوني والتعذيب والتهجير القسري والعنف الجنسي والإبادة المحتملة وغيرها.
ضغوط دولية بلا جدوى
وضغطت الولايات المتحدة -ودول أخرى- لوقف الأعمال العدائية وسعت إلى التفاوض بشأن وصول المساعدات الإنسانية إلى التيجرانيين. لكنها تجاهلت إلى حد كبير الفظائع في غرب المنطقة. إذ لم يعد بإمكانهم تحمل النظر بعيدًا.
والتيجراي الغربية منطقة خصبة في شمال غرب إثيوبيا على الحدود مع السودان وإريتريا.
وفي أوائل تسعينيات القرن العشرين قامت الحكومة الإثيوبية السابقة -بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي- بدمج المنطقة في دولة “تيجراي” الإقليمية المشكلة حديثًا. ما مهد الطريق لنزاعات استمرت عقودًا حول الحدود والحكم الذاتي والهوية.
واعتبرت بعض عرقية الأمهرة هذه التغييرات على أنها انضمام. معتقدين أن الإقليم كان يجب أن يصبح جزءًا من ولاية أمهرة الإقليمية.
وسعى أمهرة في غرب التيجراي إلى الحصول على قدر أكبر من الاعتراف والتمثيل في الحكومة. وقدموا التماسات إلى المسؤولين الإقليميين والفيدراليين دون جدوى ونظموا احتجاجات تم قمعها بعنف.
وأدى اندلاع الحرب عام 2020 إلى إبراز هذه المظالم التي طال أمدها. وفرض مسؤولون من أمهرة -الذين قاتلت قواتهم إلى جانب القوات الفيدرالية الإثيوبية- سيطرة إدارية على غرب التيجراي.
“أنتم تيجراي.. يجب أن تختفوا”
وسرعان ما بدأت جرائم الحرب والتطهير العرقي. إذ قصفت القوات الفيدرالية الإثيوبية بشكل عشوائي البلدات والقرى. بينما نفذت القوات الخاصة الأمهرية -القوات شبه العسكرية المسئولة أمام حكومة إقليم أمهرة- ومليشيات الأمهرة المتحالفة معها، عمليات إعدام خارج نطاق القضاء في البلدات بجميع أنحاء المنطقة.
وعلى أثر ذلك اضطر عشرات الآلاف من التيجرانيين إلى الفرار. وفي أيام لاحقة استهدفت قوات أمهرة والقوات الفيدرالية الإثيوبية سكان التيجراي في موجة عمليات قتل انتقامية واعتقالات تعسفية وطرد.
في الأشهر التي تلت ذلك نهب المسئولون الجدد في أمهرة وقوات الأمهرة الخاصة والمليشيات المتحالفة معها والقوات الإريترية محاصيل التيجراي وماشيتهم. فيما نهبوا منازلهم واحتلوها.
وتعرّضت نساء وفتيات التيجراي للعنف الجنسي على يد القوات الإثيوبية -بما في ذلك الاغتصاب الجماعي والاستعباد الجنسي. وأفادت صاحبة متجر من بلدة “دانشا” أنها تعرضت للاغتصاب من قبل ستة رجال من مليشيا أمهرة. وتذكر قول مهاجميها: “أنتم تيجراي يجب أن تختفوا من الأرض الواقعة غرب تيكيزي”.
و”تيكيزي” نهر يرسم الحدود بين “التيجراي” الغربية والباقي من المنطقة.
“أنت شرير ونحن نطهر دمك”
وبذلت السلطات والقوات في غرب الإقليم المنكوب جهودًا كبيرة لإجبار السكان على مغادرة قراهم. إذ رفضوا إصدار بطاقات هوية جديدة لأبناء التيجراي وقيّدوا تحركاتهم ووصولهم إلى المساعدة الإنسانية وسعوا إلى ترهيبهم بشكل دائم.
“كل ليلة كانوا يقولون: أيها التيجراي اخرجوا وإما سنقتلكم. تتذكر امرأة من التيجراي فرت إلى السودان.
إنذارات بالطرد
وبدأ مسؤولون محليون خطط إزالة التيجراي في بلدات عدة عُرضت فيها لافتات تأمر سكان التيجراي بالمغادرة. وظهرت كتيبات تعطى للتيجراي إنذارات لمدة 24 ساعة أو 72 ساعة للمغادرة أو القتل.
وقتلت قوات الأمهرة العديد من أهالي التيجراي في الحجز.
ففي 1 يناير 2021 اعتقلت قوات الأمهرة الخاصة وقتلت نحو 60 رجلاً من التيجراي على ضفاف نهر تيكيزي. انتقاما لخسائر قوات الأمهرة في ساحة المعركة.
وبحلول مارس/آذار 2021 تم إبعاد مئات الآلاف من سكان الإقليم قسرًا من المنطقة أو أُجبروا على المغادرة بعد شهور انتهاكات ودون مساعدة إنسانية.
الموت في السجن
لقد استمر الرعب للتيجرانيين الذين ما زالوا مسجونين في التيجراي الغربية. فمنذ يناير/كانون الثاني 2022 احتجزت قوات الأمن في أمهرة المئات -وربما الآلاف- من التيجراي في منشآت مكتظة. حيث تم قتل معتقلين وتعذيب بعضهم وحرمان قسم ثالث من الطعام والرعاية الطبية ومات البعض جوعًا.
شبكة سجون
في بلدة حميرة تشرف مليشيات الأمهرة بمساعدة القوات الفيدرالية الإثيوبية وقوات الأمهرة الخاصة أحيانًا على شبكة من مواقع الاحتجاز الرسمية وغير الرسمية.
ويتذكر السجناء السابقون الظروف المعيشية المروعة.
إذ يحكي محتجز سابق في مستودع يُعرف باسم “إندا يتبارك” في حميرة: “كان الحراس ينتظرون ثلاثة أو أربعة أو خمسة أيام ثم يأخذون الجثث ويرمونها في الوادي. كانوا ينتظرون حتى تظهر رائحة الجثث وتنتفخ. ثم جعلوا السجناء يتخلصون من جثث ذويهم”.
وعن سجن “بيت هينتست” وصف محتجز هرب تجربة مماثلة: “في اليوم الأخير الذي كنت فيه هناك مات أربعة أشخاص واختاروا 12 شخصًا منا للمساعدة في إخراج الجثث ووضعهم في جرّار كان ينتظر بالخارج”.
معاملة القوات الإثيوبية لإقليم التيجراي وسكانه ترتقي إلى حد الإبادة الجماعية. وهي جريمة ضد الإنسانية تم تعريفها في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أنها “تعمد فرض ظروف معيشية من بينها الحرمان من الطعام والدواء. بقصد تدمير جزء من السكان”.
وسط كل ذلك فشل مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في التحرك لمعالجة أزمة التيجراي في إثيوبيا. ما أدى مرة أخرى إلى التشكيك في قدرتهما على حماية السكان المعرضين للخطر ومنع الفظائع الجماعية بحق التيجراي وسكانه. فيما لا يزال العالم يدعو إلى تحقيقات مستقلة موثوقة في الانتهاكات في غرب التيجراي دون أمل في تنفيذ ذلك وسط ظلامية متعمدة من حكومة إثيوبيا بإحداث عزل كامل لها عن الوجود.