تغيرت كثير من النظم من ملكية إلى جمهورية، وتحولت نظم جمهورية من برلمانية إلى رئاسية، كما تغيرت النظم الملكية من استبدادية إلى دستورية. وكان معيار التحول والحكم عليها جميعًا ووصفها “بالجديدة” هو التغير الدستوري والقانوني، وليس حجم البناء والإنشاءات أو عدد الكباري وشبكات الطرق. فهي كلها مظاهر يجرى تقييمها على ضوء تحقيقها للتنمية الاقتصادية. ولكن لا يمكن اعتبارها دليلًا على تأسيس جمهورية جديدة؛ لأنها تستلزم وضع منظومة سياسية ودستورية وقانونية جديدة.
وإذا أخذنا تجربة بلد متقدم مثل فرنسا، فسنجد أن الجمهورية الخامسة التي أسسها الجنرال شارل ديجول عام 1958 ولا تزال منظومتها السياسية والقانونية تحكم فرنسا حتى الآن، ارتكزت أساسًا على نقل البلاد من نظام برلماني متعثر إلى نظام رئاسي ديمقراطي ساهم في دعم تقدمها وتحقيق استقلالها الوطني.
وتعد الجمهورية الخامسة هي ثاني أطول نظام سياسي حديث تعرفه فرنسا بعد الجمهورية البرلمانية الثالثة (1870إلى 1940)، بينما شكل استمرار احتلال الجزائر شرارة انهيار الجمهورية الفرنسية الرابعة، حيث كانت فرنسا ما تزال قوة استعمارية في أكثر من مكان سواء في غرب أفريقيا والهند الصينية أو “الجزائر الفرنسية”. وزاد من تعقيد الموقف محاولات المستوطنين الأوربيين البقاء داخل الاتحاد الفرنسي، في حين أطلق الشعب الجزائري حرب تحرير وطنية ضد الاحتلال الفرنسي وحلفائه المستوطنين، فبدا الأمر بالنسبة لقطاع واسع من الفرنسيين وكأنه حرب أهلية. خاصة أن قسما من الجيش أعلن انقسامه ودعم علنًا حركة “الجزائر الفرنسية” التي قادها كثير من المستوطنين الفرنسيين.
وعجزت الأحزاب والائتلافات السياسية عن مواجهة حرب الجزائر والانقسامات المجتمعية العميقة التي خلفتها داخل فرنسا. خاصة أن كثيرا منها عجز عن اتخاذ إجراءات جذرية أو قرارات جريئة لإنهاء الحرب. فقد اعتادوا على الموائمات والمحاصصة الحزبية التي فرضها نظام الجمهورية الرابعة.
وظهر ديجول في صورة “البطل المخلص” الذي اقترح تأسيس نظام “الرؤساء الأقوياء” لمدة سبع سنوات، ووضع دستور جديد أسس للنظام المعروف “بشبه الرئاسي” (جوهره رئاسي)، وفتح الباب لاتخاذ إجراءات جريئة أنهت الحرب في الجزائر، وأعلن عن استقلالها وتأسست الجمهورية الجديدة بدستور ومشروع سياسي جديد.
وكانت فلسفة الجمهورية الخامسة قائمة على بناء سلطة تنفيذية قوية قادرة على اتخاذ إصلاحات سياسية جريئة. وهو لم يعن في أي مرحلة التنازل عن الديمقراطية ودولة القانون. فقد انتخب ديجول مرتين رئيسًا لفرنسا في انتخابات حرة نزيهة، وترك السلطة عقب استفتاء من أجل تطبيق المركزية وإصلاح مجلس الشيوخ،
لم يوفق فيه، فاستقال.
واللافت أن الرئيس الفرنسي الراحل “الديجولي” جاك شيراك قرر وهو في السلطة، على عكس ما يجرى في البلاد غير الديمقراطية، خفض مدة الرئاسة من 7 سنوات إلى خمسة وطبقها على نفسه. حيث أعيد انتخابه لولاية ثانية مدتها فقط خمس سنوات.
الجمهوريات الجديدة لم تكن في أي تجربة واحدة في العالم قائمة على إنشاءات، ولم يعتبر أحد أن بناء عاصمة جديدة في البرازيل أو تركيا أو أي مكان آخر في الكرة الأرضية هو رمز لأي جمهورية جديدة.
فكل الجمهوريات الجديدة من فرنسا إلى دول أمريكا الجنوبية انتهاء بأفريقيا وآسيا، كانت تعكس تحولًا سياسيًا وبناء نظام دستوري جديد. فالانتقال من النظم الاستبدادية والعسكرية في أمريكا الجنوبية إلى النظم المدنية الديمقراطية كان يعني بناء جمهورية جديدة، وإسقاط النظام الملكي في مصر وتأسيس الجمهورية على يد جمال عبد الناصر وقادة ثورة يوليو كان يعني بناء نظام جديد وجمهورية أولى، غيرت جذريًا النظام السياسي والمنظومة التشريعية والقانونية، وليس بسبب بناء آلاف المصانع وتشييد أهم مشروع قومي عرفته مصر في تاريخها الحديث وهو السد العالي.
وحين قامت ثورة يناير حلم الكثيرون بالجمهورية الثانية على اعتبار أن الجمهوريات الثلاثة السابقة على ما بينها من خلاف كبير لم تكن ديمقراطية. وهناك من قال إن جمهورية عبد الناصر هي الجمهورية الأولى وعهدي السادات ومبارك يمثلان الجمهورية الثانية التي خرجت عن مبادئ الأولى، واعتبروا أن ثورة يناير ستؤسس لجمهورية ثالثة. ولتلافي الخلاف حول “الجمهوريات السابقة” توافق الكثيرون على اسم “الجمهورية الجديدة”.
في خضم كل هذا الجدل الذي شهدته البلاد عقب ثورة يناير لم يعتبر أحد من بين هؤلاء المختلفين على “مسمى الجمهورية”: الثانية أو الثالثة أو الجديدة، أن معيار إعلانها انجاز اقتصادي أو شبكة طرق أو عاصمة إدارية، إنما نظام سياسي ودستوري جديد يؤسس لدولة قانون ديمقراطية عادلة.
لا يجب القول إن أي جمهورية جديدة مطلوب أن تكون عرجاء أي تحقق التنمية السياسية ودولة القانون وتفشل في التنمية الاقتصادية والصناعية. فالمطلوب تحقيق الاثنين معًا. ويقينا إنه في النصف قرن الأخير، كانت النظم التي حققت طفرات اقتصادية وتقدما صناعيا، نظمًا ديمقراطية أو نظم أقرب للديمقراطية (ديمقراطية مقيدة). في حين فشلت النظم الاستبدادية المعاصرة في تحقيق الاثنين: التنمية الاقتصادية والديمقراطية.
أما التجارب الشمولية التي حققت ولا تزال تقدمًا مثل الصين فهي تأسست منذ ما يقرب من 75 عامًا عبر ثورات تاريخية عظمي واستثنائية، وحققت تراكمًا ومسارًا خاصًا بها، جعلها في مصاف الدول المتقدمة رغم عدم ديمقراطيتها.
لا يمكن تأسيس جمهوريات جديدة دون منظومة سياسية وقانونية جديدة وعادلة، وإلا سيصبح كلام على السطح لا علاقة له بعمق الواقع.