بغض النظر عن المحطة التي يقف فيها مقترح الحوار الوطني المصري حاليا. وبغض النظر عن مآلاته ومدى تحقيقها لإصلاح سياسي واقتصادي له مصداقية. فإن مجرد طرح الفكرة على الصعيد المصري قد وجدت صدى واهتماما إقليميا من أنواع النخب كافة في مجمل دول شرق أفريقيا ودولتي السودان. حيث توالت اتصالات من أصدقاء ومعارف ومراكز للأبحاث من هذه الدول جميعها تسأل وتستفسر عن أبعاد الحوار الوطني المصري وفرص نجاحه. على الأقل في عودة فتح المجال العام. وإعطاء الفرصة لعودة السياسة لمصر -أهم الدول الأفريقية المؤثرة في قارتها وفي الشرق الأوسط .
أسباب الاهتمام الإقليمي بمسارات المعادلات الحاكمة في مصر لها في تقديرنا شقان. الأول أن أي نجاح لحوار وطني في مصر يعني فتح المجال العام المصري نحو آفاق أكثر حرية ورحابة. بما يشكله ذلك من إمكانية حرية طرح الرؤى السياسية والاقتصادية عموما. كما أنه من المؤكد يسمح بحرية عمل للأحزاب السياسية المصرية. وفتح آفاق أمام حرية الصحافة أهم أدوات مكافحة الفساد. وكذلك تقليص إن لم يكن إنهاء حالة اعتقال الأشخاص طبقا لآرائهم. وربما بلورة رؤى مستقبلية بشأن المعادلات التي يتم التفكير فيها حاليا حول الانتخابات الرئاسية المصرية القادمة سنة 2024. وكذلك ترتيب الأجسام التشريعية والنظم الانتخابية المصرية التي قد تتسع لوجود مؤثر للمعارضة على نحو ما.
وطبقا للمنظور الإقليمي الأفريقي على الأقل فإن نجاح مصر في تحقيق هذه الخطوات السياسية من شأنه أن يحفظ الاستقرار السياسي في البلاد ويرفع قدرتها على الاستمرار في تحقيق نجاحات على الصعيد اللوجستي والاقتصادي. وهو ما يعني تقديم نموذج مقبول ومطلوب إقليميا في تحقيق معادلة ضمان الاستقرار السياسي وتحقيق التقدم التنموي. الذي حافظ على تقديم الخدمات بشكل عام. بغض النظر عن أسعارها. وكلها أمور مفقودة مثلا في دولتي السودان، اللتين تعانيان مستويات من عدم الاستقرار السياسي. تعجز فيها الدولة عن تقديم خدمات أساسية كالأمن والتعليم على سبيل المثال لا الحصر. وتبرز فيها حالة دولة السودان في الشمال وهي المتطلعة إلى تحول ديمقراطي قد تكون مصر فيه سندا إذا ما نجح الحوار الوطني فيها. واستطاعت بلورة نموذج سياسي يجد جماهيرية في السودان بدلا من نموذج يوليو الممتد منذ عام 1952 والمتهم تاريخيا في السودان بإسناد النظم العسكرية ومعاداته للتطور الديمقراطي. سواء كان ذلك فعليا أم مجرد صورة نمطية متداولة يحرص على توظيفها واستخدامها أعداء العلاقات المصرية السودانية .
أما على المستوى الأفريقي فإن حالة قمع الحريات العامة وظاهرة الحبس الاحتياطي مع عدم تحجيم فرص الاعتقال بسبب اختلاف الرأي تعد كلها معولا في هدم الصورة العامة لمصر في الذهنية الأفريقية. التي نرصدها في أحيان ليست بالقليلة في المؤتمرات والفعاليات على الأراضي الأفريقية. وقد يكون لذلك أثمان تدفعها مصر في سياقين. الأول بشأن مشروعها الاستراتيجي في تحقيق وزن وفاعلية ونفوذ في السياق الأفريقي. والسياق الثاني هو الصورة السلبية. خاصة في أوساط الشباب والنخب الأفريقية التي تنحاز لمصر فقط حينما تستطيع القاهرة أن تقدم نموذجا للتحرر الوطني أو تقدم تنموي على أسس فيها من الرحابة واتساع الأفق ما يسمح بولادة دولة ديمقراطية مصرية .
على صعيد الاتحاد الأفريقي فإن التطور السياسي المصري سيعد سندا للاتحاد الأفريقي في هذه المرحلة التي يسعي فيها إلى رفع قدراته بشأن توطين الديمقراطية في أفريقيا. خصوصا بعد مؤتمري أكرا بغانا ومالابو بغينيا بشأن التغييرات غير الدستورية في أفريقيا. والتي يجدها الاتحاد تهديدا لاستقرار الدولة الوطنية في القارة ومعولا لهدمها. وهو تقدير قد بلورته النخب الأفريقية الفاعلة على الصعيدين السياسي والاقتصادي. والتي شرفت أن أكون معها في قمة غانا بأكرا. حيث تم اعتبار أن تغيير الدساتير والانقلابات العسكرية -خصوصا في غرب أفريقيا- تهديدا لاستمرار مؤسسة الدولة الأفريقية ذاتها على المستويين المتوسط والطويل.
وبالتوازي مع إمكانية تحقيق انفتاح سياسي مفض إلى تحول ديمقراطي فإن حالة القوات المسلحة المصرية تبرز على الصعيد الإقليمي بما حققته من قدرة على رفع قدراتها التسليحية. وهو الأمر الذي أسهم في حيازة تصنيف عالٍ على المستويين الإقليمي والعالمي. وكذلك بإعادة تموضع إقليمي على الصعيد الأفريقي. خصوصا ما يتعلق بالبحر الأحمر والاتفاقات الثنائية ومتعددة الأطراف لحماية الحدود المباشرة.
هذه المعطيات المصرية حال بلورتها نموذج فاعلية القوة الصلبة وانفتاح النظام السياسي لحد إحرازه تقدم على الصعيدين الديمقراطي والتنموي معا تعد مطلوبة ولها مريدون على الصعيد الأفريقي. الذي تجتاز فيه بنية الدولة الوطنية حاليا امتحانا عسيرا. وتعجز فيه دول كثيرة عن السيطرة على كامل ترابها الوطني. ناهيك بحمايته خصوصا ضد تصاعد المهددات الأمنية في دول غرب أفريقيا بسبب توحش التنظيمات الإرهابية لدرجة أصبحت فيها مسؤولة عن انهيار نظم للحكم كبوركينا فاسو وذلك علي سبيل المثال لا الحصر.
وفي هذا السياق فإنه ينظر للمؤسسة العسكرية المصرية على أنها عامل قد يكون فاعلا في تحقيق الأمن الأفريقي. بعد أن حقق مستوى عاليا من تحجيم ظاهرة الإرهاب في مجمل القطر المصري. حيث لم يبق منها إلا جيوب في سيناء. أما على المستوى الأفريقي فإن جهوده مشهودة فيما يتعلق برفع قدرات المؤسسات العسكرية الأفريقية في مكافحة الإرهاب .
النموذج المصري -حال نجاح الحوار الوطني المصري- بما يملكه من معطيات واعدة قد يفتح آفاقا للتفكير في سيناريوهات جديدة لصيغ جديدة للحكم في المنطقة. خصوصا بعد فترة طويلة من عدم الاستقرار زادت على عقد. وافتقاد النموذج المستقر ما بعد ثورات الربيع العربي والأفريقي معا في ضوء وجود تحدي فصائل الإسلام السياسي في الشرق الأوسط ووادي النيل والتنظيمات الإرهابية في أفريقيا.