مفارقة والله مؤلمة أن نجد نحن الصحفيون في العالم الثالث أنفسنا مع زملائنا في العالم الغربي المتقدم في وضع سيء متقارب لا نحسد عليه جميعًا، لنتواجد معًا في منطقة واحدة متراجعة في حرية الصحافة وانهيار معايير التغطية المستقلة.
فنصبح نحن والغرب كلنا “في الهم شرق”، كما يقول بيت أمير الشعراء أحمد شوقي الذي أصبح معظم شعره حكمة سائرة ومضربًا للأمثال.
ومصدر المفارقة أنه بينما تسمح التشريعات القانونية والنقابات الصحفية القوية لزملائنا الغربيين بدرجة متقدمة للغاية من حرية الصحافة ومن غطاء للحماية عند ممارستها، فإن تشريعات الدول النامية تسحب باليسار ما تعطيه الدساتير باليمين من نصوص تكفل حرية الصحافة بالقوانين المنظمة بتلك العبارة المدمرة «علي النحو الذي ينظمه القانون» وتفرغها من مضمونها وتحويلها لقيود خانقة.
هذه المنطقة “البائسة” المشتركة لحرية الصحافة عالميا، بلورها بجلاء ما حدث بعد حرب أوكرانيا وكان طبيعيًا أن يواجهها أهم لقاء منتظم لأكبر منظمة عالمية متخصصة في حرية وحقوق وسلامة الصحفيين ألا وهو “الكونجرس 31 للاتحاد الدولي للصحفيين” صاحب الـ 96 عامًا، الذي استضافته سلطنة عمان في ملمح -انفتاح إعلامي وسياسي جديد في مرحلة تولي سلطان إصلاحي مقاليد الأمور هو السلطان هيثم بن طارق آل سعيد.
فعلي الرغم من الفجوة المعترف بها في حرية الصحافة بين الدول النامية والدول المتقدمة، فإن المشاركين في الكونجرس الدولي 31 للاتحاد الدولي للصحفيين لاحظوا بقسوة ومرارة إن هذه الفجوة ضاقت إلى حد ملحوظ.
ولم تضق الفجوة -لاسمح الله!!- بسبب تحسن أحوال الحرية في الدول النامية -إذ أن الصحافة للأسف مازالت تترنح وتتلقى إما المزيد من اللكمات والضربات من الحكومات أو الإفساد والاستقطاب من رجال الأعمال المتنفذين – ولكن بسبب النكسة التي أصابت الإعلام الغربي الذي “عرت وجه” الحرب في أوكرانيا عندما أخفق أغلبه في تحقيق الواجب الأول للصحافة والاعلام وهو إخبار الجمهور بالحقيقة واحترام الوقائع كما هي دون تلوين أو تهويل أو تهوين.
باختصار عندما عاد إعلام الغرب القهقرى إلى إعلام الحرب الباردة القديم وصار جهازًا للدعاية أكثر مما هو منصة لمعرفة الحقيقة، وبات من المستحيل أن تقرأ “نيويورك تايمز” أو “الأسوشيتد برس” و”دويتشه فيلله” دون أن تشعر بالمرارة لأن الخطوط الفاصلة بين الخبر والتوجيه السياسي أو الإيديولوجي التي تعلمناه علي يديهم قد ذابت في أتون نار المعركة الأوكرانية كما تذوب الزبد على سكين ساخن.
وبدا واضحًا أن:
1- سنوات من اجتياح تيار تغلغل اليمين الشعبوي كوباء عنصري انعزالي معادي للأجانب والتسامح والتعددية الدينية والثقافية في أمريكا وأوروبا قد قوض قسما مهما من البنية الاجتماعية الثقافية للديمقراطية وحرية التعبير.
2- إن سنوات موازية من هيمنة شبه مطلقة لحكومات اليمين النيوليبرالية قد أفرخت مؤسسات إعلامية من نوعية “فوكس نيوز” في أمريكا أو حولت أساطير إعلامية لـ”الخدمة العامة” مثل “بي بي سي” إلى مؤسسات منحازة للحكومة القائمة.
3- لكن التطور الأخطر تمثل في سيطرة “معسكر الحرب” في الولايات المتحدة على عملية صنع القرار في التسع شهور الأخيرة عندما بدأت عملية العد التنازلي للأزمة الأوكرانية التي تطورت إلى شبه حرب عالمية بالوكالة. إذ سحب معسكر الحرب ترهيبا وترغيبًا معه باقي الحكومات الغربية من أنوفها محاصرًا وسائل الإعلام مرة أخرى في وضع تختفي فيه وعنده حريتها تمامًا ألا وهو وضع “من ليس معنا فهو ضدنا”.
من الطبيعي هنا أننا لم نشر إلى التغطية الإعلامية الروسية “المنحازة” إلى سردية موسكو الرسمية لأن الاعلام الروسي لم يكن على الأقل متبجحًا بالادعاء بحريته ولم يغامر أبدًا بالادعاء بأنه إعلام مستقل عن الدولة الروسية بروحها “البطريركية” سواء التي عمقتها عبر الزمن تقاليد الكنيسة الأرثوذكسية الروسية والتقاليد السوفيتية أو جددتها حديثا كاريزمية وسلطوية بوتين في العقدين الأخيرين.
قليل من الصحفيين الغربيين المشاركين في الكونجرس الذي استضافته جمعية الصحفيين العمانيين من امتلك شجاعة الاعتراف بهذا التطور المحزن في حال الصحافة الدولية الذي انخفض فيه نسبيًا سقف حريتهم في تغطية الحرب الأوكرانية حتى لامس السقف المنخفض أو غير الموجود لحرية الصحافة في دولنا.
لكن بالنسبة لمعظم الصحفيين من العالم العربي وأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية كان هذا التقييم مسيطرًا لدرجة أن البعض دعا الإعلام الغربي -في مناقشات جانبية وتصريحات صحفية أثناء انعقاد الكونجرس- إلى عدم “التنمر” بالإعلام المناضل في الدول النامية والذي يكافح صحفيوها كل يوم من أجل انتزاع هامش أكبر لحريتهم هو متوافر أصلًا ومقنن لزملائهم الغربيين.
بدأ الانهيار بالعنصرية الصريحة في تعليقات بعض الصحفيين الغربيين في “مقاربة” كيف يحدث لبيض في أوكرانيا ما يحدث لسود أو عرب أو مسلمين في حروب وصراعات الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
أما التضليل الاعلامي والأخبار والفيديوهات والصور الكاذبة وصرف الانتباه عن الأحداث الرئيسية بقصص تدين الخصم أو تمنع وصول حقائق الوضع الميداني للجمهور واستخدام المبالغات في التقدم والتقهقر العسكري وإذاعة أنصاف الحقائق أو نزعها من سياقها وإعادة فيديوهات قديمة من حروب سابقة على أنها صور وفيديوهات لمعارك تحدث على الجبهة الأوكرانية الآن فحدث ولا حرج.
لقد تحطم الإنجاز المهني الذي حققته مهنة وصناعة الصحافة الحرة علي مدى قرنين ونصف تقريبا و داست خيول الانحياز والتبعية للحكومات سنابكها على مصداقية التدفق الحر للمعلومات والفصل الدقيق بين الخبر والوقائع من ناحية والتحليل والتعليق من ناحية أخرى.
المصيبة أن هذا الوضع لم يقتصر على الإعلام الجديد ومنصات التواصل الاجتماعي الذي لم يطور بعد تقاليد صارمة في تدقيق المعلومات والاستقلالية وجودة المحتوى ولكنه امتد إلى صحافة الـ “main stream” أو الصحافة التقليدية التي دفع صحفيون أعمارهم من أجل ترسيخ استقلالها وضمان جودتها واحترامها للجمهور العام.
ولكن إذا عدنا إلى مقولة آخرى من القرن 19 تضرب جذورها في فكرة سمو الجنس الأبيض العنصري لشاعر غربي هذه المرة (روديارد كبلنج) أصبحت أيضا مضرب الأمثال إلا وهي “الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيان” سنجد أن الفجوة بين هموم صحفيي العالم النامي وصحفيي الغرب عادت للاتساع في جدول أعمال الاتحاد الدولي للصحفيين في مسقط، فبينما كان تركيز الغربيين على مقترحات قضايا المساواة في النوع والقضاء على وباء التحرش الجنسي في بيئة الصحافة وحماية حقوق المحتوى الصحفي والإعلامي بقوانين أكثر صرامة للملكية الفكرية انشغل المجاهدون من صحفيي الدول النامية بالتركيز على مقترحات إنهاء التشريعات المقيدة لحرية الصحافة والافراج عن الأعداد المتزايدة من الصحفيين المسجونين خلف القضبان ووقف الاعتداءات الخطيرة على الصحفيين التي تصاعدت إلي أرقام قياسية خاصة في مناطق الصراع أو في مناطق التوترات الاجتماعية.
وهنا نجح المنظمون العمانيون الذين قاومت دولتهم ضغوطا مخيفة في الأعوام الثلاثة الأخيرة للانضمام إلى قافلة التطبيع الابراهيمي والسير في ركب سارت فيه للأسف دول المغرب والإمارات والبحرين. ودعم موقف المضيف وفود الدول العربية إلي الكونجرس في جعل قضية “وقف الإفلات من العقاب” على قتل وإصابة الصحفيين قضية مركزية فيه.
إذ احتلت أعمال الكونجرس الـ31 جرائم إسرائيل الوحشية بقتل 100 صحفي فلسطيني على رأسهم الشهيدة شيرين أبو عاقلة. وجرى التأكيد على استمرار التعهد الذي قطعه الاتحاد الدولي يوم استشهادها بملاحقة دولة الفصل العنصري الاحتلالية قضائيًا في محكمة الجنايات الدولية. فكانت بداية الكونجرس بالوقوف دقيقة على روحها الطاهرة، فكانت الدورة بحق هي دورة وردة القدس وأيقونة الصحافة الميدانية العربية شيرين أبو عاقلة.