لم أصادف حتى الآن في كل الآراء المعتبرة لوضع أجندة الحوار الوطني تركيزا كافيا على تناول عملية صنع القرار في مصر، وهي العملية التي تدور حولها السياسة في مصر قديما وحديثا، سواء لأسباب تتعلق بسلطة الدولة النهرية المركزية أو لأسباب تتعلق بمراكمة حكام مصر منذ مينا وحتى يومنا هذا تقاليد سياسية تكاد تحصر هذه العملية في المؤسسة الحاكمة -ملكية كانت أم جمهورية- وتقبض بكلتا يديها على مفاتيحه مهما تغير مضمون مشروعها السياسي وانحيازها الاجتماعي من عصر لآخر.
ومن ثم فإنه إذا كان المحور السياسي أو على الأصح محور الديمقراطية والمشاركة السياسية قد بات متفقا عليه كمحور أساسي سواء من قبل السلطة أو من قبل المعارضة فإن الهدف الأساسي لكل تعديلات مطلوبة تشريعية وعملية في هذا المحور ينبغي أن تكون غايتها النهائية هي توفير عملية مشاركة شعبية كاملة من قوى المجتمع السياسية والطبقية، من الأحزاب والنقابات ووسائل الإعلام، أي لما يسمى في مجموع كل هؤلاء «الرأي العام» في عملية صنع القرار سواء في مرحلة ما قبل اتخاذ القرار أو في مرحلة ما بعد اتخاذه، تأييدا أو تصحيحا أو حتى إلغاءً.
وبشكل صريح فإنه دون تحقيق المشاركة العامة في عملية صنع القرار خاصة في بلورة المدخلات أو العوامل التي يبني عليها الرئيس ونخبته المؤثرة قرارهم بشأن معالجة مشكلة ما فإن الحوار السياسي برمته سيكون قد أخفق في مهمته الأساسية، ألا وهي وضع مصر على أول الطريق إلى دولة مدنية ديمقراطية تبناها دستورها القائم 2014 ولكن لم تفعل حتى الآن .
وبعبارة أوضح فإن التفسير الوحيد للمقولة السائدة والمقبولة أيضا من جميع الأطراف موالاة ومعارضة من أن مصر والمصريين انتقلوا من حالة «تجريف» السياسة في عهد مبارك إلى مرحلة «تجفيف» السياسة بشكل كامل في الوقت الحاضر، هو أن تأثير النقابات والأحزاب والبرلمان والإعلام والرأي العام على عملية صنع القرار في مؤسسة الرئاسة، كان غائبا تماما في السنوات الأخيرة .
إن المقترحات المتوقع أن تطرحها الأحزاب والشخصيات العامة كمهام جوهرية للحوار لتطوير قوانين الانتخابات وهامش حركة الأحزاب والنقابات العمالية والمهنية ومنظمات المجتمع المدني الحقوقي والخيري، من المتوقع أن تضع على عاتقها مهمة أن تحدث هذه التعديلات تغييرا فارقا في البيئة السياسية المحيطة بعملية صنع القرار، بحيث تجعل هذه العملية عملية سياسية مفتوحة وليست مغلقة، عملية سياسية وليست عملية إدارية، عملية يصل فيها صوت كل قوى المجتمع وليس صوت فصيل اجتماعي وثقافي واحد مكنته حالة اختفاء السياسة من ناحية ونفوذه المادي من ناحية آخرى من أن يصبح الصوت الاجتماعي الوحيد القادر على إيصال مصالحه لعملية صنع القرار .
المهمة صعبة وغير سهلة على الإطلاق فجفاف السياسة وإقصاء المشتغلين بها خلق فراغا في فضاء التأثير على نخبة صناع القرار محدودة العدد، فتقدمت لملئه فئات ليس لديها الحساسية ولا الخبرة السياسية وليس من اهتماماتها الأصيلة البحث في تاريخ مصر الحديث والمعاصر وإدراك أصول المسألة المصرية في السياسة والاقتصاد والاجتماع وفي السياسة الخارجية .
تقدمت فئات- بطبعها ومقتضيات مهنتها – لديها تاريخيا كل الشكوك في السياسة وفي المشتغلين بها وتعتمد مناهج مخالفة تماما لمناهج السياسة، فإذا كانت السياسة تؤمن بالحوار الواسع متعدد الآراء فإن هذه الفئات تؤمن بالتشاور المحدود وترى أن غيره إضاعة للوقت. وإذا كانت السياسة تقوم على الانفتاح والإفصاح وتبادل المعلومات، تقوم مناهج وطبيعة عمل هذه الفئات على السرية والحذر والشك وإبقاء المعلومة لأهل الثقة.
لقد تقدمت للتأثير على فضاء صناع القرار في مصر فئات الأمن والبيروقراطية الحكومية وفئات المدراء التنفيذيين والتكنوقراط الذين لديهم جدول زمني لتنفيذ المشاريع وليس جدول أعمال وطني للنقاش العام.
لقد حرمت هذه الفئات دائرة صنع القرار عند تخطيطها لقرار ما يتضمن حلا لإحدى المشكلات المصرية القائمة معرفة تاريخها وأسبابها الهيكلية وحجبت عن هذه الدائرة رؤية الصورة الشاملة للاقتصاد والمجتمع، وأغرقته في لجة الأرقام والتفاصيل، ومنعت عنه بقصد وغير قصد التنوع الحادث في الخريطة الطبقية والسياسية المصرية ومقدار التغيرات العميقة التي لحقت بها في النصف قرن الأخير.
أما المصادر الأخرى لتدفق المعلومات ووجهات النظر والمصالح المتباينة من أسفل لأعلى من شرائح المجتمع والذي ينبغي أن تصل إلى عملية صنع القرار بشأنها فحدث ولا حرج .
فقد تراجع دور البرلمان كأداة رئيسية من أدوات التأثير في صنع القرار مع اختفاء أدواته الرقابية، وبدا وكأنه مجرد جناح تشريعي للحكومة وانعدم دوره كمصدر لتفاعل ديمقراطي وطني ممثل لكل الطبقات والمناطق قادر على تقديم وجهات نظر متكاملة تضغط وتؤثر في صناعة القرار.
أيضا مع حصار الأحزاب المدنية الحقيقية واستبدالها بأحزاب موالاة من شخصيات جاءت من خارج عالم السياسة ومدارسه الرئيسية في مصر غاب أيضا مصدر متعارف عليه ديمقراطيا ألا وهو تدفق برامج ومواقف الأحزاب، وهي الرؤى التي كان بإمكانها التفاعل صعودا ونزولا مع نخبة القرار ومع طريقة تحديد أولويات الدولة المختلف عليها، أو لفت نظرها إلى مشكلات وأزمات كان يمكن تفاديها.. إلخ .
الإعلام لم يلعب أيضا الدور المنوط به في التجارب الديمقراطية، في مد عملية صنع القرار بتدفق حر للمعلومات والآراء والمصالح الاجتماعية المتعارضة والرؤى الفكرية والسياسية المتنافسة، إذ اختفت أو كادت الأسماء ذات التاريخ المهني، وغابت المعارضة وقامات فكرية وسياسية مدنية كانت ملء السمع والبصر من عهد مبارك وصولا إلى 2014.
احتكرت أحزاب الموالاة وشخصياتها الفضاء الإعلامي، وبما أنها تكرر ما تقوله الحكومة ولاجديد لديها فقد انصرف الناس عن إعلامهم الوطني ووجد بعضهم ملاذه في منصات التواصل الاجتماعي ليجد ما يبحث عنه من جدل واحتكاك بين الأفكار. لكن الإعلام المتوحد سياسيا وراء الدولة لم يكن كذلك فيما يتعلق بالاقتصاد فرغم أن الإعلام أصبح معظمه في يد الدولة من الناحية العملية بغض النظر عن شكل الملكية، فإن ولاء بعض رموزه في الاقتصاد كان للقطاع الخاص وبالتحديد لنخبة أغنى 10% من السكان، وتحول إعلام الدولة نظريا إلى ساحة رحبة يمرح فيها عمليا رجال القطاع الخاص.
وهكذا فإن ما وصل من الإعلام لخدمة عملية صنع قرار رشيد يفترض فيه أن يوازن مصالح كل الطبقات، لم يكن فقط نذرا يسيرا ولكن الأخطر أن ما وصل منه كان مغرضا ولخدمة الأعلى صوتا والأكثر نفوذا على حساب الضعفاء اجتماعيا ممن لا صوت لهم.
وهذا يقودنا إلى النقطة الأخطر، ألا وهي أنه مع تجميد الأحزاب والبرلمان والمعارضة والاختطاف الجزئي للإعلام، فإن جماعة الضغط الوحيدة التي تمكنت من الهمس بل وأحيانا الصراخ في أذن نخبة صنع القرار بمصالحها سواء دفعا لصدور قرارات إذا كانت في صالحها أو تجميدها وحتى إلغائها إذا جاءت ضد مصالحها، كانت لشريحة الـ10% من رجال الأعمال الذين يتربعون على القمة منذ النصف الثاني من عهد مبارك وحتى يومنا هذا.
الأمر ليس بهذه السهولة، فجماعة الضغط المتنفذة لا تصعد على المسرح الوطني وحيدة، فهي تأتي ومعها مثقفوها ومدرستها الفكرية وحتى فنانوها، فتطرد بقية الممثلين للفقراء والطبقة الوسطى. وتفرض على الفضاء العام الخالي قسرا من المنافسة «مدرسة فكرية واحدة» تقاوم كل الحلول الاقتصادية الوطنية من تقييد صارم للواردات وتركيز على الصناعة والزراعة وزيادة الصادرات على الواردات ووقف الاستهلاك الترفي وتقليل الاعتماد على مصادر الدخل الريعية ورفع معدل الادخار الوطني.
مدرسة لا تساهم سوى بـ11% من ودائع ومدخرات البنوك فتكافأ بالحصول لوحدها على نحو 40% من ائتمان هذه البنوك المكون أساسا (حوالي 70%) من مدخرات القطاع العائلي للطبقة الوسطى التي يلتهم وحش التضخم مدخراتها، وتستفيد طبقة رجال الأعمال منه ائتمانيا في زيادة ثرواتها.
جماعة ضغط واحدة ومدرسة فكرية واحدة وإعلام واحد نشرت عمدا ضبابا كثيفا من الأرقام والتفاصيل الفرعية حجب الصورة العامة الشاملة عن عملية صنع القرار في مصر خلال الأعوام الأخيرة وقادتنا إلى لحظة الأزمة الراهنة.
ومن دون نجاح الحوار في فتح المجال العام لكل قوى المجتمع الطبقية ولكل تياراته السياسية المدنية الحقيقية ومدارسه الفكرية اليمينية واليسارية وإعادة البرلمان والأحزاب والإعلام إلى الحياة والتنوع والاتفاق والاختلاف ووصول آراء وبرامج كل هذه المؤسسات والشخصيات العامة إلى مركز عملية صنع القرار في مصر والتأثير المتكافئ على عقل وضمير متخذي القرار وتوسيع القاعدة الضيقة لعملية صنع القرار سيكون الحوار فرصة ضائعة أخرى في حياة مصر والمصريين، وستكون عملية إعادة إنتاج الأزمة الاقتصادية السياسية الاجتماعية الدورية التي تجعل من مصر تكرارا مأساويا لأسطورة «سيزيف» الإغريقية فلا تتقدم فترة إلا لتعود إلى نقطة الصفر في فترة أخرى. ويصبح السيناريو المرجح هو إعادة إنتاج الأزمة الاقتصادية -السياسية بدلا من أن تكون نهضتها نهضة في طريق صاعد مستمر ينقلها لما تستحقه من مكانة وهو أن تكون على الأقل ضمن أول عشرين اقتصاد في العالم.