إهداء: إلى روح الديناصور العظيم علاء حب الله الديب
(أشياء مفقودة)
أعرف صديقا كان يجلس صامتا لأوقات طويلة وهو يتأمل كف يده المبتور، لم ينفع معه كلام الأطباء عن تجاوز المصيبة، والتذكير بأن فقدانه ليده أنقذ حياته نفسها، وفي آخر الليل ينام الصديق بعد تعب التأمل والانتظار العبثي لأمنيات لا تتحقق برغم مرور الزمن، وفي النوم يحلم بأن أصابع يده تنمو كما ينمو الصبار، لتعود في نهاية الحلم كاملة إلى ما كانت عليه.
يقول الجراحون إن الإنسان الذي تعرض للبتر يشعر بالأعضاء المبتورة وكأنها موجودة بالفعل، لكنه سرعان ما يصطدم بالواقع عندما يشرع في استخدام يده
سأترك لكم حرية استكمال مشكلة الصدام بين الفكرة في العقل وبين التعامل معها كواقع، وأحكي لكم عن قصة لحزين آخر من سكان مدن الصمت والتأملات:
مقاتل قديم شارك في حرب أكتوبر والتقى بالموت مرات عدة، صار مع الزمن مجرد “صيدلية متحركة”، كل شيء في صحته مرتبط بالدواء.. هذا للضغط وهذا للسكر وهذا لتنظيم ضربات القلب وهذا للحموضة وهذا للحفاظ على سيولة مناسبة للدم تجنبا للجلطات، ومع ذلك كان يخالف تعليمات الأطباء ويتصرف كالشباب فيتعرض لأزمات صحية نتيجة ممارسة جهد لا تتحمله صحته، وبعد كل أزمة ينزوي وحيدا في غرفة مغلقة يفكر في موعد عودته لشبابه وينتظر “صحة المقاتل”.. كان مقتنعا بذلك تماما، ويرفض أي شك أو نقاش يتحدث عن الشيخوخة وسنة الزمن، كان يرفض فكرة النهاية ويغضب من المواعظ الاستسلامية من نوع “الذي راح لن يعود”، ويؤكد أنه ينام كل ليلة على أمل أن يستيقظ في الصباح ويجد نفسه شابا عفيا كما كان قبل المرض.. (ليه لأ؟.. أليس الله قادرا على كل شيء؟!، كان المقاتل القديم واثقا أن صحته ستعود.. لكنه فقط لا يعرف الموعد الذي سيحدث فيه ذلك
هكذا تتحول الحياة من “طريق” إلى “محطة انتظار”..
(إصابة زمن)
أكتب عن هذه المشاعر وهذه الأمثلة، لأنني أسكن إلى جوار هؤلاء الحزانى المنتظرين في مدينة التأملات، لذلك أتفهمهم وأتذوق مشاعرهم وأنشغل بمصائرهم، لذلك لا أنسى كثيرين منهم، وأتذكر ما كتبته عن موت سعاد حسني قبل موتها، لقد عرفت (أثناء كتابة سلسلة من المقالات عن حياتها) أنها بدأت تفكر في الحياة أكثر مما تعيشها، لقد اختفت سعاد الخفيفة اللاهية، وظهرت سعاد ناضجة تتأمل وتفكر وتتعاطى الحنين وتنتظر ما لن يعود: كان تأثير الزمن عليها أعنف من تأثير الكورتيزون ومن خيانة العمود الفقري ومن رحيل صلاح جاهين مصلوبا بين الحزن والأمل، لقد رحل جاهين لأنه لم يستطع أن يتحمل أعباء انتظار ما لا يجيء، وأظن أنه السبب نفسه الذي أقنع جاهين بالتحرر من زمن جديد يخاصم زمنه الذي راح..
(راح اللي راح/ ما عادش فاضل كتير)
هذه واحدة من الإجابات الخادعة في “مفترق الطريق”.. مش هناخد زمنا وزمن غيرنا، وهو ما قاله الجورنالجي الأشهر في تاريخنا محمد حسين هيكل بصياغته المكثفة: ما تتعبوش نفسكم.. الرحلة انتهت.
(من الذي وضع القمقم تحت بحر الضياع؟)
كانت زوزو هي المثال الذي تتمسك به سعاد حسني وتصر على استعادته، لذلك وضعت الأغنية في نغمة تليفونها ليسمعها كل من يتصل بها باعتبارها “رسالة” و”هدف” في الوقت نفسه، بينما كان زمن عبد الناصر هو المثال المفقود الذي يشعر به جاهين ويتلمسه ككف الصديق، وصحة المقاتل، وصورة زوزو، وبستان الاشتراكية، وفي كل هذه الأحوال كان الحزن حاضرا وغالبا ومسيطرا، وهنا أتذكر رباعية صلاح جاهين المؤلمة: “يا حزين يا قـُـمـقـُم تحت بحر الضياع/ حزين أنا زيـَّك، وإيه مستطاع ؟!/ الحزن ما بقالهوش جلال يا جدع!/ الحزن زي البرد… زي الصداع (عجبي)
عندما أقرأ أو أسمع هذه الرباعية تأخذني التأملات إلى أعماق أبعد من “سطح الحزن”، الذي لم يعد له معنى في زمن الاستهلاك الرخيص لكل شيء، ويشاغلني السؤال: من أصلا الذي غاص في أقماع بحر الضياع ووضع القمقم هناك؟، وهل كان حزينا أيضا؟!
يبدو السؤال عبثيا وبلا معنى، وهذا العبث ليس غريبا عند المتأملين والمنتظرين، وأتذكر أننا في صبيحة صيف صافية كنا نجلس تحت خميلة من الزهور في شرفة هادئة على الساحل الشمالي، كان الأستاذ هيكل يسند العكاز إلى جوار مقعده وأظهر اعتراضا على محاولتي مساعدته في الوقوف أو اعتدال جلسته، وكرر اعتذاره أكثر من مرة على عدم استقبالي واقفا (كعادته مع كل ضيوفه في ترحيب الاستقبال وتقدير الوداع)، ولم تكن لديه رغبة في مناقشة الأوضاع الداخلية في مصر بعد تغيرات أشعرته بالخذلان، ومنها بعض المظاهر التي تتعلق بطبيعة العلاقة (غير المتكافئة) بين مصر والسعودية، وكان هيكل (على غير عادته) قد أدلى بحديث تلقائي لطلال سلمان رئيس تحرير “السفير” تناول إيران والسعودية ومصر بطريقة أغضبت قادة المملكة، تبعها انعكاسات في الداخل المصري، تناقشنا في التفريعات التي أثارها الحوار وبدا واضحا أن غضب هيكل غلب على أسلوبه الدبلوماسي في التعبير عن معارضته لتوجهات معينة لن أخوض فيها الآن، فالمناسب أكثر لموضوع المقال القول بأني شعرت في هذا اللقاء بمشاعر “هيكل الجد” وليس “هيكل الكاتب”، من حيث طغيان الحنين وتكرار القصص التي تستهويه استعادتها من الماضي، والحضور العاطفي لأحمد بهاء الدين في حكايات يتركز مغزاها في إظهار التقدير الإنساني والمحبة الشخصية والإعجاب الخفي بسلوك ما عند بهاء، ليس براعته ككاتب ولا جرأته السياسية مثلا، لكن ربما يكون لذلك السلوك (الذي لم يفصح عه هيكل) علاقة وثيقة بمتلازمة “المثقف والسلطة”
بعد أشهر قليلة كانت الأخبار قد تسربت عن تدهور الحالة الصحية للشيخ الأنيق، وتسرب معها رغبته في عدم معاندة الزمن: (آدي اللي كان/ وآدي القدر/ وآدي المصير)
هل هو الاعتراف بانتهاء زمن الفعالية لشخص ما، والتسليم بانسحاب تكتيكي، يسميه البعض “انتحارا”، ويسميه آخرون “موت رحيم”، ويسميه غيرهم “موتا بيولوجيا يترجم موتا سياسيا أو فكريا.. إلخ”.
لكن في كل هذه الحالات نلحظ ذوبان المسافة بين الحياة والموت، كما نلحظ سيولة النهاية بحيث يتلاشى الحد الفاصل بين الانتحار والرحيل الاضطراري، هناك شبهة دائمة أو دوافع كامنة تعجل بفكرة الرحيل الاختياري، باعتباره راحة من ثمن فادح لانتظار لا يسفر عن تحقق ممكن، لذلك تظل الأسئلة عالقة ومثيرة للجدل: هل قفزت سعاد؟ هل تعاطى جاهين متعمدا جرعة دواء زائدة؟، هل طلب هيكل عدم وصل جسده المنهك بالأجهزة الطبية واعترف بنهاية الرحلة عند هذا الحد، مفضلا عدم الاستمرار في حياة مصطنعة تكرس عجز الذات ووضعها تحت رحمة الأجهزة؟
(قفلة روث ومعنى دولوز)
أعاني في الأشهر الأخيرة من “قفلة كتابة”، وهي حالة كنت أستهين بها مرددا في حماس جسور: طالما المعنى موجود، ما الذي يمنعني من الاستمرار في الكتابة، وعندما أعلن الروائي الأمريكي فيليب روث توقفه عن الكتابة قبل 10 سنوات تقريبا، اعتبرت أن ذلك نوعا من الترف لكاتب يريد الاسترخاء مع حسناوات الهيسبانيك على سواحل فلوريدا، لكن حالة روث ظلت تطاردني كشبح بين الحين والآخر، وعندما اضطررت لتوقف عن الكتابة بعد منع مقالاتي في عام 2015، اتصلت بي مدام جيهان عطية مديرة مكتب هيكل، وأبلغتني أن الأستاذ يرغب في رؤيتي في أقرب وقت قبل سفره، وفي اللقاء دار بيننا حوار ودود عن تصور المستقبل بعد المع من الكتابة، وحكى مشاعره وتجربته بعد أن عزله السادات من “الأهرام”، وعرض مساعدته راجيا أن استمر في الاشتباك، بدلا من الاسترخاء في كتابة الكتب والموضوعات التي تتجنب الصدام مع المرحلة.
لكن حسابات العقل وترتيبات المكاتب المغلقة تتغير في مراحل الاضطراب و”بتر الحرية” من جسد المجال العام، لذلك وجدت نفسي بعد فترة من الزمن أسيرا في فخ جودو، أجلس على رصيف الانتظار أتأمل “الحرية المبتورة”، وأنتظر عودتها حتى أستطيع مواصلة الكتابة التي أرغب فيها، واستدرجني الانتظار إلى السؤال عن المعنى: معنى الكتابة، ومعنى الحرية، ومعنى المقاومة، ومعنى الحياة نفسها، وكنت في لحظات كثيرة أشعر بالعبث وعدم الجدوى، ولهذا نضب حماسي للكتابة، لأنني قيدت نفسي بشروط كتابة معينة لا يتوفر زمانها المناسب في هذه المرحلة.
فتشت عن تفاصيل أكثر في حالة “فيليب روث” المرشح الدائم لنوبل للآداب، الذي تزوج الكتابة واعتبر مؤلفاته هم أولاده، لكن اليأس وصل به إلى القول: “لو كان لي أولاد لحذرتهم من أن يصبحوا كتابا، ووصف الكتابة بأنها لعنة وعقاب للكاتب..!
كان روث يشعر بمرارة تفسد طعم حياته، وفي تلك المرحة التأملية وافق على طلب الصحفية الفرنسية “نيللي كابريليان” لإجراء حوار معه، وفي ختام الحوار سألته نيللي: ماذا تكتب هذه الأيام؟
قال: لا شيء.. لا شيء أبدا
سألته: لماذا؟
قال: الأمر انتهى.. لا داعي لاستمرار بلا معنى.. أعتقد أني انتهيت.
لذلك عندما قال هيكل نفس التعبير (تقريبا)، عادت إلى مخيلتي حالة فيليب روث، وعرفت أنه اعتزل الكتابة العامة للناس والنقاد، بينما كان يستمتع بالكتابة سرا مع إيميليا الصغيرة ابنة صديقته، فكانا يتبادلان الأفكار وكتابة الفقرات على البريد الإليكتروني، وهذا يعني أنه لم يتوقف عن الكتابة كلعبة، لكنه توقف عن النشر والكتابة الاحترافية التي تضعه في قائمة المنتظرين لجائزة نوبل التي لم تأت، كما تضعه تحت رحمة الإعلام والنقاد وانتظار أشياء لا تحدث في هذا العالم!
اقتنع روث من داخله أن الكتابة فقدت معناها في زمن الهوس بالتليفزيون والإنترنت والتلقي السريع الذي يناسب جمهور الوجبات الجاهزة، ولم يكن لديه استعداد ولا مرونة تؤهله لمجاراة جمهور الاستهلاك الرخيص للكتابة والكتاب على وسائل التواصل الاجتماعي أو مواقع المقتطفات، وهذا الاغتراب مع الواقع دفعه إلى التوقف، لأن الاستمرار صار بالنسبة إليه بلا معنى.
ربط التوقف عن الكتابة بضياع المعنى ذكرني بكتابات “جيل دولوز” عن المعنى، وبدأت أفكر فيما قاله دولوز بأن المعنى ليس له معنى، وبتعبير أوضح فإن المعنى ليس شيء واحد مطلق يتفق عليه الجميع، لكنه أمر شخصي، فكل شخص يستطيع أن يستخرج المعنى الذي يخصه من نفس الحدث أو الفعل، وبالتالي فإن الأمل أو اليأس ليس معطى خارجيا نستسلم له، لكنه أمر ذاتي يصنعه كل شخص بنفسه لنفسه، أو كما قال جاهين في رباعية أخرى: “يأسك وصبرك بين إيديك وانت حر/ تيأس ما تيأس الحياة راح تمر/ أنا دقت من ده و ده/ وعجبي لقيت الصبر مر، وبرضه اليأس مر (عجبي).
(وبناء على ما فات)
قبل ثورة يناير استقال الناقد والأديب إدوار الخراط من لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة، وهو الأديب الذي شاع أنه كان حامل حقائب يوسف السباعي تقربا للسطة وفرص العمل، والمفاجأة أن ما لفظه الخراط قبل به الأستاذ علاء الديب، وهو الأديب المستقل الذي اتخذ مسافة من السلطة وكان يشبه نفسه بأنه “ديناصور” أي مثقف في طريقه للانقراض، وقد سجل مرثية ذلك المثقف اليساري عبد الخالق المسيري في “زهر الليمون” وروايات أخرى، وفي يوم فوجئت بمقال للصديق وائل عبد الفتاح بعنوان “المعتزلون” ووضع اسمي ضمن فئة الديب والمسيري، وهي مكانة أحبها، لكنها تكشف عن مساحة الالتباس بين الاعتزال والاعتزاز، فالتوقف الاحتجاجي عن الكتابة، ليس ترفا وليس اختيارا، لكنه في كل الأحوال أزمة، لذلك كتبت مقالا حينها بعنوان “معتزون لا معتزلون” قلت فيه أن التوقف ليس اعترافا بالنهاية ولا الاعتزال، لكنه رفض لنوع محدد من مشاركة التبعية، وإصرار على الحضور بالذات والرؤية، ولهذا وحتى لا أخطئ في صناعة اليأس بدلا من صناعة الأمل، فإنني سأبدأ من المقال القادم في صناعة معنى جديد لا يفضي بالمنتظرين إلى اليأس وإعلان نهاية الرحلة، ولأن المنبر الذي يتحمل كلماتي داخل مصر اسمه “مصر 360″، بما يعبر عنه ذلك الاسم من معنى أوسع يتجاوز زاوية الـ180 التي كنت أقيد نفسي فيها باعتبارها “خط مستقيم”، وأعتقد أن هذا المدخل يدعوني للخروج من “الحارة المزنوقة” إلى كتابة أرحب وأوسع واشمل تتجاوز نقاط الصدام التي تفسد المعنى وتعطل الكتابة والتفاعل، والخلاصة أنني سأبدأ في كتابة مقالات معلوماتية عن قضايا متنوعة، يكفيني مقالات للتعبير عن رأيي، فقد صار رأيي معروفا ومنشورا ولست بحاجة للتكرار والدوران في الدوائر المغلقة.. قضايا الحياة كثيرة، والانطلاق في الأفق الواسع خير من التعفن داخل زنازين العزلة بحثا عن الحرية المبتورة..
(عبرة الختام)
لا تفكر كسجين.. فكر كحر.. فالحرية ألا تعترف بالقيود وألا تقف أمام السدود.. تجاوز… تجاوز.. تجاوز…