في كتابه الشهير “الموجة الثالثة للتحول الديمقراطي”، ذهب المفكر الأمريكي صمويل هنتنجتون إلى أن عملية التحول الديمقراطي تتسم بدرجة كبيرة من التعقيد في كافة دول العالم التي شهدت تحولات سياسية، “تظل نتائج التحول غير واضحة المعالم لفترة طويلة من الزمن، إذ من الوارد أن تنتقل الدولة إلى حكم ديمقراطي أو ديكتاتوري لكن بوجوه جديدة”.
هنتنجتون سرد 5 أسباب قد تدفع الدول إلى التحول في اتجاه المسار الديمقراطي:
أولها: العدوى، فعندما يبدأ شعب دولة معينة في المطالبة بالديمقراطية، تتأثر الدول المجاورة لها، ويبدأ مواطنو تلك الدول بالمطالبة بالإصلاح.
ثانيها: انهيار الحكومة الاستبدادية، فعندما لا يستطع النظام القائم الوفاء بمتطلبات مواطنيه الأساسية ولا صون مؤسسات حكمه، فيبدأ المواطنون في المطالبة بالإصلاح حتى تصل الأمور إلى مرحلة الثورة والدعوة إلى بناء نظام جديد.
ثالثها: النمو الاقتصادي، فمع ارتفاع نسب النمو يزداد نفوذ الطبقة الوسطى، التي بدورها تطالب بمنحها فرص للانخراط في العملية السياسية.
رابعها: تأثير الجهات الفاعلة من الخارج، ففي بعض الأحيان يؤدي ضغط الدول الخارجية والمنظمات الدولية على النظم الاستبدادية إلى بدأ مسار التحول وتغيير أساليب الحكم القائمة.
أخيرا: خيار القادة السياسيين، وهذا السبب وفق هنتنجتون، يعتبر واحدا من مفاتيح التحول الرئيسية، خاصة عندما يُدرك القادة السياسيون أن التحول إلى الديمقراطية هو العلاج الوحيد للحفاظ على أنظمتهم ودولهم، فيشرعون في مسار التحول الديمقراطي الطوعي.
في الحالة المصرية لا يمكن الجزم بالسبب الحقيقي الذي دفع السلطة إلى الإعلان عن شروعها في عملية إصلاح سياسي بعد نحو 7 سنوات من تجفيف منابع العمل السياسي بل والمجال العام بالكامل. قد تكون السلطة مدفوعة ببعض الأسباب التي ذكرها هنتنجتون في كتابه، لكن نتمنى أن يكون السبب الأخير هو الدافع، فإدراك القيادة السياسية أن الديمقراطية هي الحل الوحيد للحفاظ على الدولة والنظام معا يُذلل العقبات ويمهد الأرض ويجهض مقاومة مراكز القوى التي تخشى من أن يقوض التحول لنظام ديمقراطي مصالحها ومكاسبها.
أي كانت النوايا والأسباب، ما يعنينا، أن السلطة تعهدت في أكثر من موضع خلال الشهور الماضية بالبدء في عملية إصلاح سياسي لوضع قواعد الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، ودعت مكونات الوطن السياسية إلى حوار “دون استثناء أو تمييز” وعلى قاعدة “الخلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية”، بحسب ما أعلن رئيس الجمهورية قبل نحو شهر ونصف تقريبا.
دعوة الحوار والتعهد بالمضي قدما في عملية إصلاح سياسي وإن كانت متأخرة، تُحسب لصالح السلطة التي بررت هذا التأخير بأن المرحلة الماضية فرضت تحدياتها وأولوياتها، فدحر الجماعات الإرهابية التي طفت على السطح عقب الإطاحة بحكم جماعة الإخوان في 2013، وإصلاح مرافق الدولة ومشروعات البنية التحتية التي تحولت إلى «كهنة» بفعل الإهمال كان له أولوية مقدمة على إجراءات الإصلاح على ما تعتقد السلطة.
للوهلة الأولى يبدو أن “تقديم الأمن والاستقرار على الإصلاح السياسي في سلم أولويات أي نظام حكم في مراحل الاضطراب” أمر ضروري وله وجاهته، لكن الواقع والتجارب السابقة أثبتت أن حصار السياسة وإغلاق نوافذ التعبير واستبدال الحوار والجدل السياسي بالملاحقات الأمنية يمهد الطريق لظهور جماعات العنف التي لا تنتشر سوى في الظلام، ومع انتشارها وتمددها يتحول الاستقرار الهش إلى فوضى عارمة.
المعادلة الصعبة التي لا ينجح في تحقيق نتائجها سوى الأنظمة الرشيدة المؤمنة بالديمقراطية والقانعة بأداء واجبها خلال فترة ولايتها فقط دون تمديد أو تلاعب بالنصوص الدستورية، هي “كيف تحفظ الأمن وتحقق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي دون المساس بحقوق المواطنين وحرياتهم الأساسية ودون إعاقة المسار السياسي الذي حددته مواد الدستور؟”.
لو تحققت تلك المعادلة تظل مؤشرات الرضا العام عن أنظمة الحكم في معدلاتها الطبيعية، تزيد أو تقل عن النسبة التي اُنتخبت على أساسها، أما لو اختلت فتتراجع معدلات الرضا الشعبي حتى تصل إلى محطة الانهيار، حينها لا يشفع للأنظمة ما قدمت أيا كانت إنجازتها.
كلما انهار الرضا العام وزاد السخط الشعبي، كلما اتسعت شروخ شرعية الأنظمة التي يلجأ بعضها إلى فرض المزيد من القمع كي يُرمم الكسر ويمسك بزمام الأمور، والبعض الآخر يبحث عن وسائل السياسة وأدواتها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وذلك العلاج الأسلم للدولة وللنظام معا.
المفكر السياسي الأمريكي صامويل هنتنجتون يرى في كتابه المشار إليه، أن القيادة السياسية التي تسعى إلى وضع قواعد لمسار التحول الديمقراطي يجب أن تعمل على استيعاب مطالب جماعات المعارضة وتقويض دور مؤسسات وجماعات المصالح القائمة، واتخاذ الإجراءات التي تكفل نجاح عملية التحول، حتى يتحقق لها هدفها من تلك العملية، «إيمانها بأن الديمقراطية هي هدف بحد ذاتها، أو لأنها تؤدي إلى أهداف أخرى، أو لأنها نتيجة لتحقيق أهداف خاصة».
دعوة الحوار السياسي التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي قبل نحو شهر ونصف استقبلت بترحاب من معظم التيارات السياسية وفي القلب منها أحزاب “الحركة المدنية” التي دعت إلى وضع محددات لضمان الوصول إلى حوار جاد وموضوعي.
الحركة وغيرها من القوى والشخصيات السياسية وضعت على رأس تلك المحددات إطلاق سراح المسجونين على ذمة قضايا رأي ممن لم يتورطوا في أعمال عنف بهدف “تهيئة الأجواء وتهدئة القلوب الموجوعة حتى يشعر المواطن أن الحوار المرتقب هو حوار من أجل صون حريته التي نص عليها الدستور”، بحسب كمال أبو عيطة وزير العمل الأسبق.
كما دعت إلى أن فتح المجال العام وظهور الأصوات المعارضة والمستقلة على منصات الإعلام، وطالبت بأن تكون إدارة الحوار واختيار القائمين عليه وتحديد أجندته بالتشاور بين الداعين والمدعوين، “حتى يتحقق مبدأ المشاركة الذي اتفق الطرفان عليه في الجلسات التشاورية”.
استبشر الجميع -من قبلوا بالمشاركة في الدعوة ومن تحفظ عليها- بإعادة تشكيل لجنة العفو الرئاسي وبعمليات الإفراج عن محبوسي الرأي التي بدأت بعد ساعات من إطلاق دعوة الحوار، ألا أن التباطؤ الشديد في تنفيذ الوعد الرئاسي بالإفراج عن دفعات من المحبوسين دفع البعض ومنهم أعضاء بلجنة العفو الرئاسي إلى المجاهرة بالشكوى من “مقاومة بعض الجهات التي ترفض خروج سجناء الرأي وتعمل على عرقلة عمل اللجنة وإفشال مسار الحوار والإصلاح السياسي”، وعليه فهدد بعض أعضاء لجنة العفو بتجميد عضويتهم بها لأن “ماكينة الإفراج لا تعمل”.
الرأي العام اعتبر أن ظهور بعض قادة المعارضة على منصات الإعلام المملوكة للدولة، هو دليل جدية خاصة أن من ظهروا على تلك القنوات عرضوا قناعتهم ووجهات نظرهم ليس في قضية الحوار والإصلاح السياسي فقط بل في العديد من القضايا المثارة والتي أثيرت خلال مرحلة الإغلاق.
أما عن ملف إدارة الحوار والتوافق حول أجندته ومنسقيه والمشاركين فيه، فقد شابها بعض الخلافات، لاسيما بعد صدور بيان من الأكاديمية الوطنية للتدريب المعنية بتنظيم الحوار باختيار ضياء رشوان نقيب الصحفيين ورئيس الهيئة العامة للاستعلامات منسقا عاما ومكلفا بإدارة الحوار على أن يكون المستشار محمود فوزي -الأمين العام للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام- رئيسًا للأمانة الفنية للحوار الوطني.
أحزاب الحركة المدنية أصدرت من جهتها بيانا يرحب باختيار رشوان منسقا عاما للحوار، لكنها تحفظت على عدم اختيار أمين عام متوافق عليه، معتبرة أن بيان الأكاديمية المشار إليه، استبق المشاورات التي كانت قائمة واجتزأ نتائجها، فأعلنت الحركة عدم قبوله.
الخلاف الأخير، مطب آخر في مسار الحوار، لكن يمكن تجاوزه عبر التفاوض، فاختيار رشوان جرى بعد مشاورات بين الطرف الداعي والأطراف التي قبلت الدعوة، وخلصت المشاورات إلى أن نقيب الصحفيين هو الأصلح للقيام بمهمة المنسق العام باعتباره شخصية توافقية، ويحظى بتقدير وثقة السلطة والمعارضة معا.
بعد شهور من ثورة 25 يناير نظم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالتعاون مع الحكومة المصرية حينها منتدى ضم المهتمين في المنطقة العربية لتبادل الآراء والتجارب مع عدد من القادة من مختلف أرجاء العالم الذين بحثوا مباشرة تحديات التحول أو الإصلاح التي تمر بها البلدان العربية.
منتدى “مسارات التحول الديمقراطي.. تجارب دولية”، أتاح الفرصة للمهتمين من الدول العربية للاستماع للتحديات الكبيرة والقرارات الحاسمة التي واجهها قادة عمليات التحول الديمقراطية في عدد من البلدان التي شهدت تحولا ديمقراطيا.
ولخصت الدراسة التي صدرت عن إدارة المنتدى عددا من الدروس والتوصيات، أبرزها أن هناك حاجة إلى بلوغ أرضية مشتركة والبحث عن مواطن وحدة وتجاوز الاختلافات السياسية خلال مراحل التحول الديمقراطي، “لا يجب التركيز في عمليات التفاوض السياسي إلى نتائج بعينها بل يجب التركيز على إزالة مخاوف المشاركين فيها أو المعنين بأمرها، وربما يكون من المفيد أحيانا تجاوز أو إسقاط بعض القضايا محل الخلاف، مع الاتفاق على آلية لحل تلك الخلافات”.
“الإيمان بأن الديمقراطية ليست حلا لكل المشكلات، لكنها طريقة للتعامل مع المشكلات والتوصل إلى حلها، أي أنها أسلوب حياة، وبناء عليه يجب تشجيع جميع الفئات على المشاركة الديمقراطية وانخراطهم في العمل السياسي”، كان ذلك درس آخر من الدروس التي خلصت إليها الدراسة.
لا يعول أحد على أن ينتهي الحوار المرتقب بتحول مصر إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة، فعمليات التحول تراكمية وتأخذ وقتها لحين تهيئة البيئة وتطور الثقافة والمناخ العام، كما أنها مرتبطة بتفاعلات اقتصادية واجتماعية مركبة، مع ذلك قد يكون الحوار بداية طريق يعيد بالتدريج الاعتبار للسياسة ويفتح الباب أمام مراجعة التشريعات والتوجهات والممارسات، لذا على الأطراف المشاركة فيه العمل على تجاوز مطباته والقفز على خلافاته التي تبرز من آن لآخر، وتضييق أجندة ملفاته حتى لا تضيع القضية الرئيسية، عليهم أن يتمسكوا بالفرصة فليس من مصلحة أحد تجميد هذا المسار أو تسييله.