عندما اعتزم هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، زيارة الشرق الأوسط، عقب وقف إطلاق النار في حرب أكتوبر 1973، طلب من مستشاريه الرأي فيما يخص طبيعة المنطقة، وحكامها، والصراع المحتدم فيها. وقتها، تلقى كيسنجر من معاونيه تقارير عدة، كان أبرزها تقريرًا كتبه باحث شاب بعنوان: “الخيمة والشيخ”، ملخصه أن الزائر للمنطقة سيلتف حوله كثيرون يحاولون إيهامه بأهميتهم. سيخبره أحدهم بأنه نافذ الكلمة عند الحاكم، وسيخبره آخر بأنه المستشار الأساسي للرجل الكبير. وسيحاول ثالث أن يبهره بالمراكز التي تبوأها في الدولة. لكن، نصح التقرير كيسنجر بأن يصرف النظر عن كل هؤلاء.
أوضح التقرير أنه في هذه المنطقة من العالم، لا يوجد سوى خيمة يجلس بها شيخ، هو وحده مناط الحل والعقد. وهو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة. فلا مؤسسات يمكن التفاوض معها أو التأثير فيها. بل يوجد رجل واحد، هو ما أشار إليه التقرير بـ “الشيخ”. الذي يجلس في مقر الحكم “الخيمة”. وهذا الرجل وحده مَن يستحق أن تتوجه إليه الجهود والإغراءات ومحاولات التأثير. ويستحق إقناعه والضغط عليه وتخويفه، أو التلويح له بالمكافآت المنتظرة لو أنه تجاوب وتعاون.
على نفس وتيرة الباحث الشاب الذي ألهم كيسنجر في التعامل مع الرئيس الراحل أنور السادات. وتحت عنوان “مفاتيح المملكة”. كتب ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي. مقالا نشرته منصة Project Syndicate. يُعطي فيه العديد من النصائح للرئيس الذي يزور الشرق الأوسط قريبا، في جولة على رأسها زيارة المملكة العربية السعودية.
هاس، الذي شغل سابقًا منصب مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأمريكية، وكان المبعوث الخاص للرئيس بوش الابن إلى أيرلندا الشمالية ومنسق مستقبل أفغانستان. يرى أن إدارة جو بايدن جاءت إلى السلطة عازمة على معاملة السعودية على أنها “منبوذة”. ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن الولايات المتحدة تعتقد أن ولي العهد محمد بن سلمان، أمر بقتل الصحفي البارز جمال خاشقجي. لكن الآن يبدو أن بايدن يعكس مساره. ويرى هاس أنه “محق في ذلك”.
اقرأ أيضا: ما بعد أمريكا.. البحث عن الفرص والمخاطر في الشرق الأوسط
أمريكا والسعودية.. ثلاثة أرباع قرن من التعاون
كتب هاس يقول: إن العديد من النقاشات المتكررة تحفز السياسة الخارجية، أبسطها هو مقدار السياسة الخارجية التي يجب أن تمتلكها. أو كيفية تحقيق التوازن الصحيح، بين معالجة القضايا والمشاكل المحلية في الخارج. في شكل متطرف من النقاش بين الانعزالية والعالمية. ثم هناك نقاشات حول الأدوات (الدبلوماسية مقابل العقوبات أو القوة العسكرية)، والوسائل (الأحادية مقابل التعددية).
في بعض البلدان، هناك أيضًا نقاشات حول كيفية صنع السياسة الخارجية وتنفيذها. في الولايات المتحدة -على سبيل المثال- يتضمن هذا النقاش دور وسلطات الكونجرس مقابل دور الرئيس والسلطة التنفيذية. لكن بالنسبة للديمقراطيات، هناك نقاش إضافي حول الأهداف.
وتابع: إلى أي مدى ينبغي أن تسعى السياسة الخارجية إلى تشكيل الخصائص الداخلية للدول الأخرى. أي من خلال تعزيز انتشار الديمقراطية وحقوق الإنسان، بدلاً من التركيز على التأثير على السلوك الخارجي للدول الأخرى. في محاولة لتعزيز المصالح الصعبة مثل الأمن والتجارة. نسمي هذا النقاش بين المثالية والواقعية.
هذا نقاش أبدي لقادة وصانعي السياسة الأمريكيين. خذ حالة المملكة العربية السعودية. كانت العلاقات بين البلدين طوال ثلاثة أرباع قرن متعاونة في الغالب، وقبل كل شيء في الأمور المتعلقة بالنفط: في مقابل ضخ السعوديين لكميات وفيرة -وبالتالي تقليل ضغوط الأسعار- كما قدمت الولايات المتحدة الأسلحة المتقدمة والاستخبارات للسعوديين، وهي مطلوبة لأمنهم.
كما تعاون البلدان أيضًا ضد الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة، وعلى الأخص في أفغانستان. غالبًا ما تعوض مثل هذه المصالح المشتركة الخلافات المستمرة حول سجل حقوق الإنسان السيئ للحكومة السعودية وعداء المملكة تجاه إسرائيل.
لماذا احتاج بايدن إلى المملكة الـ “منبوذة”؟
أضاف هاس: جاءت إدارة الرئيس جو بايدن إلى السلطة قبل عام ونصف. وهي مصممة على تغيير هذا النمط، ومعاملة المملكة على أنها “منبوذة”. فقد استنتجت الولايات المتحدة أن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -المعروف على نطاق واسع باسم MBS- وهو الحاكم الفعلي للبلاد والوريث الظاهر للعرش. أمر بقتل جمال خاشقجي، الصحفي البارز والمعارض السعودي المقيم في الولايات المتحدة والذي جرى تصفيته في القنصلية السعودية في إسطنبول عام 2018.
كما عارضت إدارة بايدن بشدة مشاركة السعودية في الحرب الأهلية في اليمن. وهو الصراع المسئول عن معاناة إنسانية هائلة، مع انخفاض أسعار النفط ووفرة الإمدادات -في جزء صغير منه بسبب التوسع الكبير في إنتاج الولايات المتحدة- وعزم بايدن على تقليل البصمة الأمريكية في الشرق الأوسط والتركيز على آسيا. بدا أن القيم لها الأسبقية على المصالح الاقتصادية والأمنية للمرة الأولى منذ تطور العلاقات الأمريكية- السعودية في الأربعينيات.
الآن، ومع ذلك، ورد أن إدارة بايدن تفكر في تغيير المسار. حيث يعتزم بايدن زيارة المملكة، واللقاء مع محمد بن سلمان “تم تحديد زيارة بايدن للسعودية في 15 و16 يوليو/تموز المقبل “. ليس من الصعب معرفة السبب. ارتفعت أسعار الطاقة بشكل كبير، بسبب ارتفاع الطلب المرتبط بالانتعاش الاقتصادي بعد وباء كورونا، والعقوبات المفروضة الآن ضد روسيا وإيران وفنزويلا. وكلها تحد من العرض. تعمل أسعار الطاقة المرتفعة على تغذية التضخم، الذي ظهر باعتباره التحدي الاقتصادي والسياسي الأكبر الذي يواجه إدارة بايدن.
فجأة، أصبحت المملكة العربية السعودية، منتج النفط النادر الذي لديه القدرة على زيادة الإنتاج بسرعة نسبية. شريكًا تشتد الحاجة إليه مرة أخرى.
اقرأ أيضا: سعودية بن سلمان.. كل شيء قابل للتحديث إلا نظام الحكم
عوامل أخرى تقود زيارة بايدن
يضيف رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي في مقاله، أن هناك عوامل أخرى. فقد عقدت العديد من الدول العربية في السنوات الأخيرة -بما في ذلك الإمارات والبحرين- “اتفاقات سلام” مع إسرائيل. إن جلب المملكة العربية السعودية -التي تستضيف أقدس المواقع في العالم الإسلامي- إلى معسكر السلام. سيكون له قيمة رمزية وسياسية كبيرة. كما مهد الطريق لزيارة رئاسية، احتضان السعودية لوقف إطلاق النار في اليمن.
لكن ما يمكن أن يكون السبب الأهم ضمن هذه العوامل الأخرى هو إيران. تجد أمريكا والسعودية نفسيهما يتشاركان قلقًا متزايدًا بشأن برامج إيران النووية والصاروخية. فضلاً عن دعمها للجماعات العنيفة في اليمن وسوريا ولبنان. إنها حالة كلاسيكية لـ “عدو عدوي صديقي”. سيكون التعاون الوثيق بين المملكة والولايات المتحدة ضروريًا إذا فشلت الجهود الدبلوماسية لاستعادة الاتفاق النووي لعام 2015 مع إيران. كما يبدو محتملاً بشكل متزايد. أو الفشل في منع إيران من تحقيق تقدم نووي دون سابق إنذار.
على الرغم من هذه الاعتبارات الجديدة، تسير إدارة بايدن بحذر. فمن المؤكد أنها ستتعرض للهجوم لتغيير موقفها. النبأ السار هو أنه لا يوجد سبب يدعو الولايات المتحدة للتخلي عن التزامها بحقوق الإنسان. يحتاج السعوديون إلى دعم الولايات المتحدة للوقوف في وجه إيران، ونتيجة لذلك، يمكن الضغط عليهم لتحسين معاملتهم لمنتقدي الحكومة والنساء والأقليات الدينية. لن تكون النتيجة مثالية، ولكن يمكن تحقيق المزيد من أجل مجتمع يسعى لأن يكون مفتوحًا.
المصالح فوق القيم
يوجد درس أكبر هنا. لا يمكن لسياسة خارجية ناجحة لقوة عالمية مثل الولايات المتحدة أن تختار القيم على المصالح. النهج الخالص الذي يركز على القيم تجاه المملكة العربية السعودية – أو تجاه الصين أو روسيا أو إيران أو كوريا الشمالية في هذا الصدد – غير مستدام. المقياس الأساسي للسياسة الخارجية هو أنها تعطي الأولوية لأمن الدولة على تفضيلاتها. يجب أن تسود الواقعية على المثالية. يشير التاريخ إلى أن قدرة دولة -حتى ولو كانت قوية مثل الولايات المتحدة- على إحداث إصلاح سياسي في دول أخرى، محدودة.
لكن هذا لا يعني أن على الولايات المتحدة أن تتجاهل الديمقراطية وحقوق الإنسان. يجب أن تعكس السياسة الخارجية قيم الدولة إذا كان لها أن تتمتع بالدعم العام. وأن تقود بمرور الوقت نحو عالم أكثر ديمقراطية، والذي من المرجح أن يكون سلميًا ومزدهرًا ومنفتحًا على التعاون. إنها دائمًا مسألة درجة وتوازن. يبدو أن ما تفكر فيه إدارة بايدن في المملكة العربية السعودية يصحح التوازن.