تختلف معايير تقييم النظم القائمة وفق اعتبارات توجهها السياسي والاقتصادي. فمثلًا يجرى تقييم كثير من النظم القائمة عبر معايير أيديولوجية، وخاصة في النصف الأخير من القرن الماضي، فتبني التوجهات الاشتراكية كان بالنسبة للبعض دليل النجاح والتقدم والعدل، في حين اعتبر البعض الآخر أن تبني الرأسمالية هو طريق الديمقراطية والحرية والرخاء، واجتهد آخرون من أجل بناء نظم سياسي في “الوسط”، فانحاز البعض للاشتراكية الديمقراطية كخيار وسط بين النظم الشيوعية والرأسمالية تعبر عن “يسار الوسط”، وانحاز البعض الآخر إلى الليبرالية الاجتماعية التي طرحت نظام السوق المطعم ببعد اجتماعي كتعبير عن “يمين الوسط”.
وقد شهد العالم تجارب كثيرة رفعت رايات هذه التوجهات سواء في أوروبا أو أمريكا الجنوبية أو أفريقيا وآسيا، وعرفت بعضها نجاحات مؤكدة وبعضها الآخر إخفاقات واضحة، حتى عاد وركز كثيرون على تقييم هذه التجارب وفق معيار “الإنجاز”.
فمثلًا أمامنا تجربة الصين التي لا يزال ينتقدها الكثيرون بسبب غياب الديمقراطية وعدم احترام حقوق الإنسان وهيمنة نظام الحزب الواحد، إلا إنهم لا يستطيعون تجاهل شرعية إنجازاتها، حتى أصبحت ثاني أكبر قوة اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية على مستوى العالم.
الصينيون يعتبرون أنفسهم حققوا نموًا اقتصاديًا “دون التطفل على اقتصادات الدول الأقل تطورًا، بل بالمنافسة مع اقتصادات أكثر تطورًا تمكنوا من تجاوزها”.
وقد حققت الصين منذ عام 2014 سلسلة من الإنجازات الكبرى وضعتها كثاني أكبر اقتصاد في العالم. وتشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى أن معدل النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي في الصين قد بلغ 7ر6% في عام 2016، مقارنة بنحو 6ر1% للولايات المتحدة الأمريكية. واعتبر كثيرون أن الاقتصاد الصيني عزز مكانته على عرش الاقتصاد العالمي في ظل استقرار مالي ومعدلات تضخم تقل عن 3% قبل جائحة كورونا.
وقد بلغت قيمة الناتج المحلي الإجمالي للصين في عام 2015، نحو 10866 مليار دولار، مقارنة بنحو 17947 مليار دولار للولايات المتحدة عام 2015، وفق تقرير البنك الدولي (World Bank, World Development Indicators database, World Bank, 22 July 2016.).
شرعية الإنجاز التي ناطحت بها الصين القوى الغربية الكبرى ظهرت أيضًا في أنها أصبحت أكبر دولة مصدرة للسلع في العالم منذ عام 2005 وحتى الآن. حيث بلغت قيمة الصادرات السلعية الصينية نحو 4ر2 تريليون دولار أمريكي عام 2014، مقارنة بصادرات سلعية أمريكية قيمتها نحو 5ر1 تريليون دولار في العام نفسه.
وجاء مشروع “الحزام والطريق” كإعلان عن قوة الصين وحضورها الدولي. صحيح أن علاقتها بالدول الأفريقية لم تخلو من كثير من المشاكل. خاصة بعد أن قدمت لكثير منها “مغريات الإقراض” والدعم، وسرعان ما تحولت إلى قيد على عدد منها.
ورغم كثير من السلبيات في الخبرة الصينية إلا أنه لا أحد ينكر ولا يستطيع أن يتجاهل أن الانجاز الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري والاعتماد على الذات والتركيز على الجوهر والمضمون والإيمان بالعلم فرض على أكثر المؤيدين للنظم الليبرالية ألا يتجاهلون قوة الصين وشرعية إنجازاتها.
هناك أيضًا بلد آخر عرف “نموذجًا مكروهًا” سياسيًا وأخلاقيًا، وهو نموذج أوغستو بينوشيه الذي نفذ انقلابًا عسكريًا عام 1973 على الرئيس الاشتراكي المنتخب سيلفادور الليندي، وأسس لديكتاتورية بغيضة ظلت في الحكم حتى عام 1990.
ورغم آلة القمع المرعبة التي استخدمها بينوشيه بحق المعارضين السياسيين والتعذيب الممنهج والاختفاء القسري الذي راح ضحيته آلاف الشيليين، إلا أنه ظل يحسب للرجل مشروع اقتصادي حقق قدر من الإنجاز حتى أن البعض بالغ وأسماه “معجزة شيلي”، وفق تعبير الخبير الاقتصادي ميلتون فريدمان.
فقد جلب الرئيس الديكتاتور علماء وخبراء اقتصاديين دوليين عرفوا باسم مجموعة شيكاغو، حققوا ثلاثة أهداف رئيسية وفق قواعد نظام السوق أو ما عرف بالليبرالية الجديدة: التحرير الاقتصادي، وخصخصة الشركات المملوكة للدولة، واستقرار التضخم.
حتى نظام بينوشيه الديكتاتوري القمعي ذكرت كتب التاريخ غير المؤيدة له أنه أنجز في بعض الجوانب، خاصة الاقتصادية، وأنه اعتمد على علماء وخبراء دوليين وليس على رجاله من حملة المباخر والشعارات.
أما في حالة مصر، فقد عرفت البلاد تجارب الإنجازات المنقوصة، مثل تجربة الوفد قبل ثورة يوليو، وتجربة عبد الناصر بعدها، فيقينا حققت الأولى قدرًا من الليبرالية السياسية وترسيخ الوطنية المصرية والدفاع عن الاستقلال الوطني. بينما شهدت الثانية أهم حركة تصنيع في تاريخ مصر الحديث، وحققت خطتها الخمسية الأولى أعلى معدل للتنمية بين كل دول العالم (6.6%)، وشيدت مشاريع وطنية عملاقة مثل السد العالي الذي أنقذ مصر من جفاف محقق ومن مجاعات مؤكدة. كما حاربت استعمار حقيقي كان يحتل معظم دول العالم الثالث، ولم يكن فيها ادعاء لأعداء وهميين، إنما كان هناك محتلين حقيقيين بصرف النظر عن أخطاء إدارتها لمعاركها.
أما مصر حاليًا، فالمؤكد أنها تشهد انتقادات كثيرة على المستويين المحلي والدولي لملفها في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية ودولة القانون. ويقينا أن التجارب التي نجحت أو صمدت في وجه الضغوط الخارجية هي التي حققت نجاحًا في الملف السياسي والاقتصادي أو على الأقل في أحد الملفين.
ولذا، فإن مراجعة الوضع الاقتصادي والتمسك بالعلم ودراسات الجدوى ضرورة من أجل إعادة ترتيب الأولويات في المشاريع الاقتصادية والتنموية المعتمدة حاليًا، خاصة في ظل تعثر بعضها وطرح تساؤلات عن جدوى بعضها الآخر، ما يعني أن مصر لن تستطيع الوقوف على أقدامها دون “إنجاز ما” سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا