منذ سنوات ونحن نسمع كل عام عن تدشين مزيد من المهرجانات في هوليوود الشرق ـ مصرـ وينعكس صداها في الصحف ووسائل الإعلام سريعًا. ثم تبدأ الشكوى من ضعف الميزانية وتقليص الدعم إذا ما رصد الإعلام أي جوانب تقصير أو ضعف مهني أو فوضى. بينما تغيب بشكل شبه كلي أخبار المكاسب المادية لهذه المهرجانات على اتساع رقعتها في البلاد.
تحدث هذه الإشكالية في الوقت الذي نتابع عالميًا أخبار المهرجانات وصداها الاقتصادي وأرباحها المذهلة التي تتضاعف سنويا. ويبقى السؤال: “أين المشكلة وكيف نتجاوزها؟”.
المهرجانات الفنية وأثرها الاقتصادي
لا تقام المهرجانات الفنية اعتباطا أو رغبة في الاستعراض الثقافي. بل تهدف دائما إلى تعزيز بيئة مجتمعها وتوليد الثروة وفرص العمل. وتعظيم الدخل الناتج عن مبيعات التذاكر وإنفاق المهرجانات على الأماكن والأدوات والأجور والبنية التحتية.
قوة المهرجانات وانعكاساتها الاقتصادية محل اهتمام كل بلدان العالم المتقدم. بل إن أقوى اقتصاد عالمي ـالولايات المتحدة الأمريكيةـ تفرد سنويا العديد من الإحصائيات للحديث عن هذه الثروة. أهمها النشرات الصادرة عن مكتب التحليل الاقتصادي والصندوق الوطني للفنون.
تؤكد الإحصائيات أن أمريكا تستثمر في مهرجانات الفنون بمختلف ألوانها وتعتبرها مكونًا حيويًا للاقتصاد الأمريكي في الولايات الخمسين. وليس مجرد ولاية أو اثنتين.
تتحدث أرقام ما قبل أزمة فيروس كورونا والحرب الأوكرانية الروسية التي هزت كل شيء في الاقتصاد العالمي وتوضح أن مهرجانات الفنون والثقافة أسهمت في الميزانية الأمريكية بمبلغ 877.8 مليار دولار ـ4.5%ـ من الناتج المحلي الإجمالي للدولة بتقديرات عام 2017. وخلال العام نفس تكفلت الأرباح بدفع أكثر من 5 ملايين أجر من رواتب العاملين في قطاع الفنون والثقافة بإجمالي 405 مليارات دولار.
ولا تتوقف الإيرادات الضخمة على أمريكا فقط. إذ تظهر مؤشرات الأرباح في العديد من البلدان الأوروبية الأقل كثافة في السكان مثل استكتلندا التي لا يزيد عدد أبنائها على 5 ملايين نسمة. ومع ذلك يضيف مهرجان مثل إدنبرة الدولي أكثر من 173 مليون جنيه إسترليني سنويًا.
المهرجانات تربح في الخارج ولا تخسر.. لماذا؟
لأسباب جوهرية أهمها أن البلدان الغربية وحتى الآسيوية التي اقتحمت هذا المضمار باحترافية مذهلة وكذلك بعض الدول في القارة السمراء أصبحت تعرف بعناية كيف تقيس اقتصادها الإبداعي من أجل فهم أفضل للفائدة الاقتصادية.
تضع الدول التي تستثمر في المهرجانات الفنية خريطة متكاملة لأصولها الثقافية والفنية. مع إجراء جرد مستمر لهذه الأصول لمعرفة إسهامات كل بقعة جغرافية داخل حدودها في اقتصاديات الفن والثقافة الذي يجب أن ينعكس مباشرة على اقتصاد الدولة. فالجرد المستمر يمكّنهم من الاحتفاظ ببيانات مهمة للغاية عن مستوى إسهامات الفنون في استراتيجيات التنمية الاقتصادية للبلاد.
بعد توفر المعلومات اللازمة تتبنى الدول المختلفة برامج ومبادرات محددة يتم تصميمها بواسطة خبراء لتعزيز النمو الاقتصادي من خلال الفنون. كما تدعم رواد الأعمال -الأفراد أو الفنانين- وتعتبرهم من أهم عناصر الاقتصاد الثقافي.
تقدم هذه الدول منحًا مادية سخية لتشجيع الأفراد المبدعين ورجال الأعمال والفنانين على تبني إقامة مهرجانات فنية. كما تدعمهم بشراكات مميزة بين القطاعين العام والخاص بهدف تطوير قوة عاملة مبدعة في مجالات التخطيط والتسويق والإدارة. بما يعزز في المستقبل القريب والبعيد النمو الكبير في قطاع الثقافة بالبلاد.
المجهود الذاتي للولايات المحلية
تشجع الدول المختلفة ولاياتها -المحافظات لدينا- على تحليل الأصول الثقافية الخاصة بها واستخدام هذه المعلومات لابتكار الإسهامات الاقتصادية في الصناعات الإبداعية على مستوى الولاية. إذ تحدد مثل هذه الاستراتيجيات فرصًا جديدة وتكشف عن شركاء محتملين لمزيد من التنمية الاقتصادية المدفوعة بالفن في الولاية.
تبدأ رحلة كل ولاية لإقامة مهرجانات ذات خصوصية محلية في البحث عن أصحاب المصالح. وهذا يشمل تحديد الأشخاص المناسبين لقيادة نجاح جهود التخطيط في جعل المهرجانات الفنية إحدى أدوات الولاية لتوفير فرص العمل وتحفيز الاقتصاد المحلي من خلال السياحة الثقافية والمشتريات الاستهلاكية. سواء المأكولات والمشروبات والإقامة وغيرها أو شراء الهدايا ذات الخصوصية المحلية والتراثية وفنونها الفريدة.
تعزيز السياحة الثقافية الداخلية
توليد ثقافة داخلية لحضور المهرجانات من خلال مواطني الدولة ليس بالأمر السهل. بل يحتاج إلى الكثير من الدعم والتخطيط والاسثتمار في تثقيف المواطنين وإلهامهم وتحفيز الإبداع لديهم بداية من المدارس والجامعات.
توافر هذه الثقافة ينعكس على الاقتصاد مباشرة. إذ يسهم تعزيز المناخ الثقافي بالبلدان المتقدمة في اختيارات رجال الأعمال للأماكن التي يريدون إقامة مشاريعهم فيها.
يؤكد ذلك استطلاع أجرته اللجنة التشريعية المشتركة للشئون الثقافية الأمريكية التي كشفت أن 99٪ من الرؤساء التنفيذيين الذين تم استطلاعهم شددوا على ضرورة توافر الأنشطة الثقافية في منطقة ما حتى تدخل في اعتباراتهم لاختيار موقع العمل المطلوب.
تأسيس هذه الثقافة والترويج لها بين النشء والطلاب في المدارس ومن خلال الإعلام يوفر دعما اقتصاديا داخليا ناجحا للمهرجانات المختلفة. وذلك بترويج أسلوب حياة يعتمد السفر بين المناطق المختلفة داخل حدود الدولة لمتابعة هذه الأنشطة ضمن أجندة الحياة المعتمدة للمواطنين.
في دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية لديها أكثر من 92 مليون مسافر ثقافي سنويا يتابعون باهتمام أنشطة المهرجانات الثقافية والفنية التراثية داخل حدود بلادهم ويستهدفهم باستمرار محترفو السياحة لتسويق مجتمعاتهم محليًا.
على مستوى القارة السمراء بدأت جنوب أفريقيا التركيز بشكل متزايد على الصناعات الثقافية والإبداعية كمساهمين محتملين في النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل. وأنشأت الحكومة مؤخرًا المرصد الثقافي الوطني الذي أصبح بمثابة مركز للمعلومات والبحوث حول التأثير الاقتصادي والاجتماعي للصناعات الإبداعية والثقافية.
كما أجرت جنوب أفريقيا أول دراسة لرسم خرائط الصناعات الثقافية والإبداعية عام 2014. على أمل أن تسهم هذه الصناعة بنحو 2.9٪ من الناتج المحلي الإجمالي. واستندت الدراسة إلى مقابلات متنوعة لأكثر من 2000 شخص مشارك في القطاع الثقافي والإبداعي. ما يعني انها دخلت مضمار السباق العالمي في هذا المجال وبشكل متفرد عن جميع جيرانها.
مراعاة البعد الاقتصادي للمواطنين
تدبر العديد من البلدان مهرجانات فنية مجانية لمساعدة مواطنيها على الحضور. ومع ذلك لا تستهين بالأثر الاقتصادي لهذه المهرجانات وتحقق منها الكثير من الأرباح أيضا.
شركة مثل تطوير الفنون في إنجلترا تستخدم تمويلًا من مجلس الفنون في البلاد وتمويلًا أوروبيًا أيضا لإنشاء 3 فعاليات مهرجان في الهواء الطلق مجانا.
تقام هذه المهرجانات في 3 مواقع مختلفة بالمناطق الريفية الرائعة في إنجلترا. وتلعب الشركة على إثارة خيال جمهورها المستهدف بالمناظر الطبيعية الخلابة باعتبارها جزءًا من تجربة السياحة الثقافية. إذ يمكن لكل الزوار حسب خلفياتهم الثقافية والمعرفية صناعة ذكريات لا تُنسى.
وبالتالي من خلال تنشيط الصور الذهنية في حملات التسويق تستقطب الشركات لهذه المهرجانات نحو 120 ألف متفرج سنويا. مع إمكانية زيادة عدد السائحين من الخارج بما يحقق لها أرباحا مذهلة.
القيمة الاقتصادية للمهرجانات الفنية وانعكاساتها على دفع التنمية المستدامة وخلق فرص العمل خلال العقود الماضية دفع منظمة مثل اليونسكو مؤخرا لإنتاج مجموعة جديدة من المبادئ التوجيهية في كيفية قياس وتجميع الإحصاءات حول الإسهام الاقتصادي للصناعات الثقافية. ولن يكون لأي دولة باع في هذه المساحة إلا إذا أحسنت استخدام أدواتها واقتدت بالدول الناجحة في صناعة مهرجانات ذات طبيعة اقتصادية تطوع لها الجغرافيا والتاريخ والإمكانات البشرية لتحقيق أفضل استفادة ممكنة.