لغة الأرقام دائما كانت تقول إن مصر في خانة استيراد الطاقة بالمنطقة لكنها فجأة تحولت إلى مصدر ومركز إقليمي للطاقة إلى أوروبا.
هذه القفزة في الأرقام كان وراءها استثمار في خبرات مصر المتمثلة في رجال تكنوقراط في مجال الإدارة والطاقة. فقبل أشهر مثلا لم يكن أحد يسمع باسم الدكتور أسامة مبارز خارج قطاع البترول. قبل أن يظهر على الساحة ليتولى الأمانة العامة لمنتدى غاز شرق المتوسط العالمي. كذلك لا يمكن ألا نشير إلى الاستثمار المصري في بناء الثقة عبر دفع مستحقات الشركات العالمية بانتظام.
منتدى غاز المتوسط يضم سبع دول بانتخاب جماعي. وقد صار “مبارز” أحد محركات تطبيق خطط المنتدى الحالية الرامية لتصدير الغاز إلى أوروبا لتعويض أزمة الطاقة التي تعانيها منذ اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية بعد سلسلة العقوبات الغربية على موسكو.
مشروع الطاقة المصري وفكرة منتدى شرق المتوسط
رسميا تولى “مبارز” أمانة المنتدى في يناير الماضي حتى 2025 وسط تطورات كبيرة على مستوى ملف تصدير الغاز المصري الإسرائيلي لأوروبا. والتي تم الإعلان عنها حديثا. وخطط توسعة المنتدى وعلاقاته مع الكيانات والدول حتى اتسعت اللجنة الاستشارية لصناعة الغاز التي أسسها المنتدى من 16 إلى 32 عضوًا. إضافة إلى وضع أسس لإقامة منصة للهيئات التنظيمية للدول الأعضاء.
28 عامًا قضاها “مبارز” في صناعة النفط والغاز داخل وزارة البترول والثروة المعدنية المصرية. إذ كان مسئولا عن الإدارة المركزية للمكتب الفني بدرجة “وكيل وزارة”. ما جعله الذراع اليمنى لوزير البترول المصري طارق الملا منذ توليه الوزارة قبل سبع سنوات فيما يتعلق بالنواحي الفنية.
والمكتب الفني يعتبر العقل المساعد في أي مؤسسة بإبداء الرأي في الموضوعات المحالة إليه من قبل الوزير. وذلك لدراسة وتقييم التقارير والتوصيات والاقتراحات الواردة من القطاعات المختلفة بالوزارة. وكذا إبداء الرأي بشأنها علاوة على دراسة الاتفاقيات وإجراءات المنح والقروض. وسبق لـ”مبارز” شغل منصب مدير عام قطاع بحوث الغاز بين عامي 2008 و2012.
مبارز.. وتوقيع 99 اتفاقية بحرية بترولية
يجمع أسامة مبارز خبرات في مجالي إدارة الأعمال والطاقة. ما أهله للعب دور فيما يتعلق بالاتفاقيات التجارية. فهو حاصل على ماجستير إدارة الأعمال بامتياز من كلية إدنبرة للأعمال جامعة هيريوت وات بالمملكة المتحدة. وأكمل دراساته العليا في اقتصاديات الطاقة في جامعة ريدينج بالمملكة المتحدة.
الخطة التي وضعتها وزارة البترول ركزت على جذب الاستثمار الأجنبي. وذلك بتوقيع 99 اتفاقية بحرية بترولية جديدة مع الشركات العالمية للبحث عن البترول والغاز باستثمارات بلغ حدها الأدنى نحو 17 مليار دولار. ومِنح توقيع تقدر بنحو 1.1 مليار دولار لحفر 384 بئرا خلال الفترة من يوليو 2014 حتى يونيو 2021. وذلك بعد التوقف عن توقيع الاتفاقيات منذ عام 2010 وحتى أكتوبر 2013.
وبلغت جملة الاستثمارات المحققة في قطاع البترول حتى نهاية أبريل 2022 نحو 1.2 تريليون جنيه. منها 778 مليار جنيه مشروعات بدأ تشغيلها و119 مليار جنيه مشروعات جارٍ دراستها و292 مشروعات جارٍ تنفيذها. منها 6 مشروعات تكرير بقيمة نحو 131 مليار جنيه جار تنفيذها لزيادة الطاقة الإنتاجية من المشتقات البترولية ومن ثم تقليل الاستيراد.
تحققت طفرة التعاقدات الخارجية في إنتاج الغاز بمصر باكتشاف شركة “إيني” الإيطالية حقل الغاز الطبيعي “ظهر” في منطقة امتياز شروق في البحر المتوسط في أغسطس 2015. بحجم احتياطيات من الغاز الطبيعي تقدر بنحو 30 تريليون قدم مكعب تعادل 5.5 مليار برميل من البترول المكافئ.
نجاح وزارة البترول في التعامل مع الشركات الأجنبية نابع من إلمام بطبيعة التعامل مع فكر تلك الشركات. فالملا سبق له العمل بشركة شيفرون العالمية لمدة 13 عامًا تدرج بالوظائف المختلفة بالشركة وتولى مسئوليات متعددة بالهندسة والعمليات والتخطيط والمبيعات والتسويق حتى أصبح مديرا إقليميا لمنطقة وسط وجنوب أفريقيا بها وعرف أن مربط الفرس في المستحقات.
“ظهر”.. كلمة السر في تحول مصر من مستورد إلى مصدّر
في عام 2011/2012 كانت مستحقات الشركات الأجنبية العاملة في قطاع البترول في مصر 6.3 مليار دولار. ومعظمها توقف عن العمل وتم وضع خطة للسداد خفضت المبالغ المستحقة إلى 900 مليون دولار بنهاية العام المالي 2018/2019. ما دفع الشركات للعودة والعمل والثقة مجددا.
مع اكتشاف “ظهر” حققت مصر الاكتفاء الذاتي من الغاز في سبتمبر2018. وارتفع مركزها في تصنيف الدول المنتجة لتحتل حاليا المركز الثاني في شمال أفريقيا والشرق الأوسط في إنتاج الغاز الطبيعي. والرابع عشر عالميا بعد أن كان ترتيبها الثامن عشر عالميا في عام 2015. قبل أن تحتل المركز الأول عربيًا خلال الربع الثالث من 2021 فيما يتعلق بحجم صادرات الغاز الطبيعي المسال والمركز الرابع في إنتاج الغاز عموما بنحو 5.6 مليار قدم مكعب يوميًا و11% من إنتاج الدول العربية.
وأصبحت مصر حاليًا من المصدرين الأساسيين لدول أوروبية عدة كتركيا بقيمة 906 ملايين دولار بحصة تعادل 23.28%. وإلى إيطاليا بقيمة 408 ملايين دولار بحصة بلغت 10.48% من السوق الإيطالية. وإسبانيا بقيمة 349 مليون دولار بحصة تصل إلى 9%. وفرنسا بقيمة 314 مليون دولار بحصة في السوق الفرنسية بلغت 8.06%.
وارتفعت صادرات قطاع البترول إلى نحو 13 مليار دولار عن عام 2021 تعادل نحو 208 مليارات جنيه. مقابل 7 مليارات دولار خلال عام 2020. بزيادة نسبتها 3. 84%. وذلك بفضل الغاز الطبيعى والمسال الذي ارتفع بنسبة 770% بعد إعادة تشغيل محطتي إسالة الغاز بدمياط بعد توقف دام 8 سنوات. وكذلك تشغيل مصنع إسالة وتصدير الغاز بإدكو.
وتتوقع المفوضية الأوروبية استيراد 7 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال من مصر في عام 2022. ارتفاعا من 5 مليارات متر مكعب كان مخططا لها في الأصل وسط توقعات بأن يتضاعف ذلك مرة أخرى العام المقبل.
مصر والتحول إلى مركز إقليمي للطاقة
انتقلت مصر من مرحلة الإنتاج إلى فكرة التخطيط للتحول إلى مركز إقليمي للطاقة بتدشين منتدى غاز شرق المتوسط العالمي. والذي كان فكرة مصرية تم عرضها خلال قمة جزيرة كريت بين زعماء مصر وقبرص واليونان في أكتوبر/تشرين الأول 2018. وتم توقيع ميثاق المنتدى في سبتمبر/أيلول 2020. ودخل حيز النفاذ في مارس/آذار 2021. والذي بمقتضاه أصبح منظمة دولية حكومية.
ضمت المنظمة 7 دول أعضاء هي مصر واليونان وقبرص وفلسطين وإسرائيل والأردن وإيطاليا. وانضمت لها فرنسا لاحقا. بينما انضم للمنظمة كمراقبين كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي. وتعد مظلة للتعاون والتكامل الإقليمي لاستغلال موارد الغاز التي تزخر بها منطقة شرق المتوسط لتحقيق أقصى فائدة للمنطقة.
منذ تدشين المنتدى يلعب “مبارز” دورا في التعاون الثنائي مع الدول الأخرى في موضوعات النفط والغاز. فضلا عن التواصل مع المؤسسات المالية ومنظمات النفط والغاز. ويحاول توظيف الخبرات الخارجية التي اكتسبها كممثل مصر في المجلس التنفيذي لمنتدى الدول المصدرة للغاز (GECF) ومنتدى الطاقة الدولي (IEF). بجانب رئاسته اللجنة المنظمة لمؤتمر ومعرض مصر الدولي للبترول “إيجبس 2022”. وهو أكبر معرض للنفط والغاز في أفريقيا وجنوب البحر الأبيض المتوسط. إذ شهد مشاركة ١١ وزيرا للبترول والطاقة من دول عدة و ١٩ من رؤساء كبريات شركات البترول والطاقة العالمية و ٨ قيادات لمنظمات بترولية عالمية ونحو 26 ألف مشارك.
موسم التصدير إلى الشمال
مع توقيع اتفاقية تصدير الغاز المصري الإسرائيلي لأوروبا حديثا على هامش الاجتماع الوزاري السابع لمنتدى غاز شرق المتوسط. والذي أداره المهندس طارق الملا وزير البترول والثروة المعدنية -الرئيس المناوب للمنتدى خلال عام 2022- بحضور أسامة مبارز الأمين العام- ينتقل التعاون بين الوزير ومساعده لمرحلة جديدة تستهدف إعادة تسييل 5 مليارات متر مكعب من غاز إسرائيل. والتي سيتم نقلها عبر خط أنابيب تربط جنوب إسرائيل بشبه جزيرة سيناء لترتفع إلى 6.5 مليار متر مكعب بحلول العام المقبل. بجانب كميات أخرى من الغاز المصري وضخ الجانب الأكبر منها باتجاه الشمال نحو أوروبا.