عندما تهبط طائرة الرئيس الأمريكي جو بايدن في إسرائيل منتصف شهر يوليو/تموز المقبل سيكون في استقباله أسفل سلم الطائرة يائير لابيد وليس نفتالي بينيت كما كان منتظرا. الائتلاف الحكومي الهش في إسرائيل انهار. وبينيت لم يعد رئيسا للوزراء بل شريكه لابيد بشكل مؤقت. وذلك لحين عقد انتخابات جديدة (يُتوقع أنها في أكتوبر/تشرين الأول) هي الخامسة خلال 3 سنوات ونصف تقريبا.
الائتلاف المكوّن من أحزاب متعارضة من الناحية السياسية ومتناقضة من الناحية الفكرية استطاع الحفاظ على تماسكه بصعوبة لمدة عام واحد فقط. قبل أن يضطر كل من بينيت ولابيد لإعلان حلّه تحت ضغوط فقدان الأغلبية البرلمانية وعدم القدرة على تمرير التشريعات في الكنيست.
ما تمر به إسرائيل منذ سنوات من عدم استقرار سياسي وتصارع حزبي هو نتاج مجموعة من السياسات الاستقطابية التي اتبعها رئيس الوزراء الأطول مدة في الخدمة -بنيامين نتنياهو- وأنتجت تأزما واضحا أدى إلى انقسام حاد تمثل في معسكرين: “مع نتنياهو” و”ضد نتنياهو”.
وبين المعسكرين تنافست مجموعة من الأحزاب اليمينية ضد بعضها. واصطف اليسار خلف دعم قوانين استيطانية. بينما اصطفت أحزاب الصهيونية الدينية والحريديم ضد هذه القوانين وكأن الصورة مقلوبة.
ماذا حدث؟
في بداية الشهر الجاري تعرض الائتلاف الحاكم لنكسة بعد رفض تمديد سريان القانون الذي ينص على اعتبار المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة -الذين يبلغ عددهم نصف مليون تقريبا- إسرائيليين لديهم الحقوق نفسها لسكان إسرائيل. وهو ما رفضه كذلك نواب اليمين في المعارضة بحسب وكالة الصحافة الفرنسية.
وكان هذا القانون “قانون الطوارئ في مستوطنات الضفة” يجدَّد تلقائيا كل خمس سنوات. وسقط التجديد في القراءة الأولى. ورفض نتنياهو أيضا دعم الحكومة في تجديد القانون الذي يؤيده حزبه الليكود بقوة بهدف إضعافها وإبراز الانقسامات داخل الائتلاف الذي لم يعد لديه دعم داخلي كاف لتمرير قانون أساسي. وانضم إليه أحزاب الصهيونية الدينية والحريديم.
واتهم نتاياهو (72عاما) الائتلاف الحكومي بـ”الاعتماد على دعم الإرهاب” و”التخلي عن الطابع اليهودي لإسرائيل“. وقال: “من الواضح للجميع أن الحكومة الأفشل في التاريخ أنهت مسارها. هناك غالبية يمينية في الكنيست لكن البعض فضلوا التحالف مع حزب عربي بدلا مني. أنا لا أشكل تحالفا مع منصور عباس” رئيس القائمة العربية الموحدة.
وفي الأسبوع الماضي استقال نير أورباخ -عضو الكنيست عن حزب “يمينا”- من الائتلاف. وقال إنه فشل في مهمته الرئيسية وهي “رفع الروح المعنوية [للإسرائيليين]”. وبهذا أصبح للائتلاف 59 مقعدا فقط في البرلمان (المكوّن من 120 مقعدا) ليخسر أغلبيته التي كانت بفارق مقعد وحيد. وذلك بعدما سبقته النائبة في الحزب نفسه عيديت سيلمان بالاستقالة.
“حل الكنيست” للتصويت
ولعدم قدرته على تمرير القانون أعلن بينيت مساء الإثنين (20 يونيو/حزيران) أن حكومته ستصوّت على حل البرلمان للسماح بتمديد القانون تلقائيًا. وقال -وهو زعيم مستوطنين سابق- إنه كان من الممكن أن تكون هناك “مخاطر أمنية خطيرة وفوضى دستورية” إذا سمح بانتهاء صلاحية القانون في نهاية الشهر. وأوضح “لم أستطع ترك ذلك يحدث”.
وسيتم طرح مشروع قانون حل الكنيست للتصويت. وإذا تم تمريره -كما هو متوقع- فسيفسح بينيت المجال ليائير لابيد “الوسطي” ليصبح رئيس الوزراء المؤقت.
وشكّل الرجلان الائتلاف قبل أكثر من عام بقليل بعد سلسلة من الانتخابات غير الحاسمة التي أطاحت بنتنياهو. وتم تشكيل الائتلاف من ثمانية أحزاب من شتى ألوان الطيف السياسي. ولم يوحّد الائتلاف سوى الرغبة في أن يصبح من المستحيل على نتنياهو تشكيل حكومة.
نتنياهو -الذي يحاكم حاليا بتهم فساد ينفيها- قال إن الإعلان بمثابة “نبأ سار لملايين المواطنين الإسرائيليين”. وأضاف متعهدا بتشكيل “حكومة وطنية واسعة” برئاسة حزبه الليكود. وكانت نتائج استطلاع أجرته القناة 12 في التليفزيون الإسرائيلي الأسبوع الماضي أشارت إلى أن كتلة يقودها نتنياهو ستفوز بمعظم المقاعد حال إجراء انتخابات جديدة. ولكنه لن ينال الأغلبية الكافية لتشكيل الحكومة.
وقد تؤدي هذه النتائج إلى أشهر من المفاوضات الائتلافية المطولة وإعادة دولة الاحتلال إلى الأزمة التي وقعت فيها قبل مغادرة نتنياهو منصبه. عندما افتقرت حكومته إلى التماسك الكافي لتمرير ميزانية وطنية وأجرت البلاد أربع انتخابات في غضون عامين.
مخاوف من التصعيد
صحيفة “يديعوت أحرونوت” الأكثر مبيعًا كتبت في عنوانها الرئيسي “ينبغي أن يكون أحد المحاور الرئيسية للحملة الانتخابية المقبلة ما يلي: اليهود ضد العرب”. وأضافت: “سيقول الليكود إن ضمّ حزب عربي إلى الائتلاف كان خطيئة لا تغتفر وخيانة للبلاد. استطلع الليكود آراء الإسرائيليين اليهود وتبين أن هناك نوعا من الكراهية أو الرغبة في الانتقام من كلّ هذه الأقلية”. التي تشكّل نحو 20% من سكان “إسرائيل”.
وقالت المحللة داليا شيندلين إن هناك درسًا يمكن تعلمه من التحالف الحكومي المتنوع. وهو أنه “في النهاية لا تستطيع أي حكومة تنحية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني جانبا”.
وتابعت: “أعتقد أن منذ البداية كان نتنياهو -وهو سياسي محنك- يعلم أن هناك أشياء كثيرة يمكن أن يتفق عليها الائتلاف. لكن هناك شيئا واحدا كبيرا يقسمه. وهو الاحتلال والصراع. وحاول نكء هذا الجرح”.
بين الحرب وصناديق الاقتراع
“يبدو أنه عندما لا ترسل إسرائيل قوات للحرب فإنها ترسل مواطنيها إلى صناديق الاقتراع”. هكذا عبّرت المحللة -آنا أحرونهيم- في صحيفة “جيروزالم بوست” عن مخاوفها من عدم الاستقرار السياسي في الوقت الذي يتيّقظ فيه “أعداء إسرائيل” ويبحثون عن فرصة لضربهم -وفق تعبيرها.
ومن المرجح أن يستمر أفيف كوخافي -رئيس أركان جيش الحرب الإسرائيلي في منصبه. ولكن حرب خلافة بيني جانتس -وزير الحرب- بدأت بالفعل. وتتوقع ذات الصحيفة في تقرير آخر أن “تزداد شهية حركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى بعد انهيار التحالف. ما يمهد الطريق لمزيد من الهجمات ضد إسرائيل”.
وتعليقًا على أزمة التحالف في إسرائيل قال المتحدث باسم “حماس” حازم قاسم إن إسرائيل تشهد “فراغًا سياسيًا وارتباكًا” منذ حرب العام الماضي. وأضاف أن “المقاومة كشفت هشاشة الكيان الصهيوني ومدى ضعفه. وأثبتت قدرته على العمل والتأثير والنهوض رغم كل المتغيرات حوله. التغييرات هي نتيجة ضعف [إسرائيل] وهشاشتها. يجب أن تكون حالة تفكك الاحتلال بمثابة رسالة حقيقية لجميع الأطراف التي تسعى إلى التطبيع معه”.
بينما قال محلل سياسي فلسطيني في رام الله للصحيفة: “يمكن أن نرى تصعيدًا لكن ليس بالضرورة في قطاع غزة. حماس والفصائل الفلسطينية ليست معنية في هذه المرحلة بجولة أخرى من القتال مع إسرائيل. ومع ذلك فإنهم يرغبون في رؤية مزيد من العنف في الضفة الغربية لأن ذلك سيئ لكل من إسرائيل والسلطة الفلسطينية”.
وترى صحيفة “واشنطن بوست” أن بينيت “أصلح مكانة إسرائيل بين الحزبين [الديمقراطي والجمهوري] في واشنطن”. والتي عانت بعد علاقات نتنياهو الوثيقة مع الرئيس السابق دونالد ترامب.
وأشارت إلى أنه عمّق العلاقات الناشئة مع دول الخليج العربية. وأصلح العلاقات المتوترة مع مصر والأردن. وادعى أنه منع الولايات المتحدة من إحياء اتفاق نووي دولي مع إيران حتى إنه ظهر لفترة وجيزة كوسيط في الحرب الروسية الأوكرانية. ورغم تمسك بايدن بزيارة إسرائيل فإن الصحيفة تؤكد أن حل الحكومة سيلقي بظلاله على الزيارة.
“البيبزم”: حالة صعود الشخصانية
يعتقد المحلل في الشأن الإسرائيلي -صالح النعامي- أن قرار حل البرلمان وإجراء انتخابات هي الخامسة في أقل من 4 أعوام يشي بعجز منظومة الكوابح التي كانت تضمن استقرارا نسبيا للنظام السياسي الإسرائيلي. وذلك نتاج صعود الشخصانية على حساب الأيديولوجية وتعاظم الشعبوية كناظم للحراك السياسي.
إذ إنه لا توجد فروق أيديولوجية ذات قيمة بين الأحزاب التي تحتكر أكثر من 80% من مقاعد البرلمان. فكلها أحزاب يمينية تتبنى موقفا متشددا من الصراع لا يمكن لأي طرف فلسطيني بغض النظر عن هويته أن يقبله -بحسب تعبيره.
ويقول: “إجراء الانتخابات بهذه الوتيرة جاء لأن بعض أحزاب اليمين ترفض الانضمام إلى حكومة يقودها نتنياهو بسبب محاكمته في قضايا فساد. ونتنياهو الذي لا يوجد من ينافسه على زعامة الليكود يصر على بقائه كزعيم للحزب ومرشحه لرئاسة الحكومة ومعني بتوظيف وجوده في الحكومة للتخلص من المحاكمة [بتهم الفساد]”.
نتنياهو هنا يحاول تشكيل حكومة بمشاركة الحركات الدينية الحريدية والخلاصية -والحديث للنعامي- حتى يفلت من المحاكمة. مع إدراكه أن الحركات الخلاصية ستتسبب بضرر سياسي وأمني واقتصادي هائل لإسرائيل. وذلك لأنها ستجرّها إلى مغامرات بناء على “هذيان ديني”. سيما التصعيد ضد المسجد الأقصى على أمل أن تندلع “حرب يأجوج ومأجوج”.
ويذهب الباحث في الشأن الإسرائيلي بمركز القدس للدراسات عماد أبو عواد -في ورقة تحليلة– إلى أن سلوك نتنياهو ويمينه “البيبزم” (اسم يُطلق على مكونات اليمين: الحريديم والصهيونية الدينية والليكود المؤمنون فقط بقيادة نتنياهو ويعملون لعودته بأي ثمن) المغلّف بالقانون والديمقراطية ضد خصومه فتح الباب أمام منافسيه وأعدائه لكسر تقليد تاريخي وركيزة أيديولوجية تتمثل في منع أيٍّ من المعسكرات في “إسرائيل” من ضم حزب فلسطيني إلى الائتلاف الحاكم. بغض النظر عن الموقف الفلسطيني التاريخي الرافض كذلك. وبعيدًا عن جدلية من الذي كسر الحاجز أولا.
ويشير إلى أن التصويت ضدّ تمديد قانون الفصل العنصري في الضفة لم يكن إلا في إطار الحراب الداخلي المُتمثل بالصراع للوصول إلى السلطة. ولكنّه هذه المرة تجاوز حدود عمل المعارضة “البيبزم” ضد الحكومة إلى عمل المعارضة ضد الدولة. وهذه التُهمة وجهها زعيم الصهيونية الدينية بتسلائيل سموتريتش سابقًا إلى الائتلاف الحالي حينما اعتمد على منصور عباس -زعيم القائمة العربية الموحدة- لتمرير الحكومة ونيلها للأغلبية.
ومن هُنا فإن التصويت ضد تمديد القانون يأتي في سياق كسر كل الأعراف والتقاليد وحربا على الدولة وليس تصويتا ضد الحكومة.
تعطيل سير الحكم في إسرائيل
“إسرائيل فعّلت منظومة تدمير ذاتي”. بهذه الكلمات وصف تامير باردو -رئيس الموساد الأسبق- الواقع حاليًّا في دولة الاحتلال، في إطار تعليقه على سلوك المعارضة الإسرائيلية والتي تتعمد إسقاط القوانين بهدف إسقاطها ومعارضة الجهة الحاكمة حتى لو توافقت هذه القوانين مع الضمير الوجداني للمصوّت أو المشروع السياسي والاجتماعي الذي يتبناه.
حيث إنّ تعطيل سير الحكم ووضع العصي في الدواليب بات السمة الغالبة على المشهد السياسي في “إسرائيل” -بحسب التحليل- فمنذ عام لا يوجد بعض اللجان الأساسية في الكنيست. فلجنة الأخلاق والضبط لأول مرة لا تتشكل في تاريخ “إسرائيل”. لا يوجد لجنة رقابة على الدولة. وكلّ ذلك بحجة أنّ المعارضة الإسرائيلية “البيبزم” رفضت أن تملأ تلك اللجان بحجة عدم رضاها عن نسبة تمثيلها. رغم أنّ النسبة كانت وفق القانون ووفق التمثيل النسبي لها في الكنيست. وربما كانت كلمات زعيم حزب “أمل جديد” ووزير العدل -جدعون ساعر- في تعليقه على سلوك المعارضة دقيقًا حين قال “بالنسبة لهم فلتحترق الدولة”.
يضرب “عواد” مثلا بسلوك إيتمار بن جفير (زعيم يميني متطرف وعضو في الكنيست) وأنه ليس منفصلا عن حالة الصدام هذه “وفي الأصل فإنّ ما قام به نتنياهو من تشريع وجود بن جفير ودعمه للوصول إلى الكنيست رغم ما واجهه من تُهم جاء في سياق الصدام مع الدولة والبحث عن الذات.
وها هو اليوم يفعّل ماكينة بن جفير في اتجاه زيادة مساحة الصدام مع الدولة للإضرار بالائتلاف الحاكم والتسريع من انهياره”. إذ ولّدت ضغوطات بن جفير على حكومة دولته قبولها بكسر الأعراف في المسجد الأقصى. وكاد أن يقود ذلك إلى مواجهة لطالما اعتبرتها “إسرائيل” زائدة. لذا وبناءً على هذه التداعيات ربما تواجه “إسرائيل” على خلفيتها المزيد من التحديات الأمنية وارتفاع سقف المواجهة في ساحة الضفة الغربية.
اقرأ أيضا: من الهامش إلى المركز: بن غفير تجسيدا لليمين الصهيوني المتطرف
المصلحة الشخصية قبل الأيديولوجيا
هذا في الوقت الذي يتخلل هجمة “البيبزم” سحب الشرعية من كل مؤسسات الدولة. فالموضوع ليس مرتبطًا فقط بالهجوم على أداء الحكومة وإسقاطها. بل تعداه إلى حدود التشكيك بكلّ المؤسسات ووضعها تحت ميزان علاقتها بيمين نتنياهو. فالشرطة والادعاء العام والمحكمة والإعلام كلّها عدوة للدولة من وجهة نظرهم. وذلك لأنها تواطأت في التحقيق مع نتنياهو الذي يصف تلك الجهات بأنّها يسارية ومنطلقاتها العمل ضد اليمين والدولة وليس إقرار القانون.
بات المشهد يتمثل في المصلحة الشخصية قبل الأيديولوجيا والوصول إلى كرسي الحكم ودفع الطرف الآخر إلى الزاوية حتى لو على حساب المبادئ الأيديولوجية الراسخة.
فبتسلائيل سموترتش -زعيم الصهيونية الدينية- ربما الشخصية الأكثر أيديولوجية الآن في “إسرائيل” صوّت ضد تمديد قانون الفصل العنصري في الضفة الغربية. وهو أحد أكثر المنادين بضم الضفة وأكثر العاملين على الاستيطان فيها.
والأمر ذاته بالنسبة لحزب “ميرتس” اليساري، والذي قبل بدفن أيديولوجيته وتمليك زعيم استيطاني رئاسة الحكومة. بل ومنح بينيت مساحة كبيرة في بناء الوحدات الاستيطانية وكل ذلك تحت عنوان “لا لعودة نتنياهو”. لتُصبح أيديولوجيا “البيبزم” و”اللا بيبزم” أقوى من القيم والمبادئ التي تشكلت عليها الأحزاب المختلفة من كلا التيارين -وفقا لتحليل الباحث الفلسطيني.
وتنتهي الورقة التحليلية إلى أن الصراع في إسرائيل بات يسير في اتجاهات يراها المراقبون اليهود على أنها الأكثر خطورة منذ تأسيس الدولة. فالنظام الديمقراطي يرتطم بصخرة تكسّر المعايير الديمقراطية. وهذا ما جعل تفاؤل الإسرائيلي بمستقبل نظامه الديمقراطي يصل إلى 32% فقط بعد أن كانت يتجاوز 60% قبل سنوات قليلة و54% قبل نحو عامين فقط.