احترام قواعد الدولة الدستورية هو معيار التقدم لأي بلد في العالم، وبنائها هو هدف لأي دولة يغيب عنها القانون والديمقراطية؛ لأنه يتجاوز الانحيازات السياسية وطبيعة النظام القائم، سواء كان ملكيًا أو جمهوريًا، رئاسيًا أو برلمانيًا. فالدولة الدستورية تؤسس لقيمة عليا وقواعد يحترمها الجميع مهما كانت درجة الخلاف بين فرقاء الساحة السياسية.
وقد تكون تجربة الانتخابات الفرنسية الأخيرة دليل على حماية “الدولة الدستورية” للمجتمع والمؤسسات من تحول الانقسام السياسي الذي لم تعرفه البلاد منذ أسس الجنرال ديجول الجمهورية الخامسة عام 1958، إلى شلل وانهيار سياسي.
واتضح عمق الانقسام السياسي من خطاب أكبر قوتين معارضتين، وهما حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان، وحزب الاتحاد البيئي والاجتماعي الشعبي الجديد بزعامة جان لوك ميلنشون، في مواجهة الرئيس ماكرون. حيث اعتبرا أن البلاد انقسمت وتأزم وضعها الاقتصادي بسبب سياسات الرئيس.
وبدا لافتا ما تابعته أثناء وجودي في فرنسا وقت الانتخابات التشريعية، حجم العداء الشخصي والاستهداف السياسي الذي يحمله قادة حزبي المعارضة الرئيسيين لوبان وميلنشون للرئيس ماكرون. فقد وصفاه طوال حملتهما الانتخابية بأسوأ الأوصاف السياسية. وهو بالنسبة لهما لا يسمع ولا يتحاور ويتعالى على الشعب وينفذ سياسات أفقرت الفرنسيين وأضعفت قوتهم الشرائية، وبسببه عانوا من أزمات في المنظومة الصحية والمؤسسات التعليمية، وغياب الأمن. وهي بالطبع أمور نسبية، لأن الوضع الاقتصادي وما تقدمه الدولة في فرنسا من خدمات ومستوي معيشه لمواطنيها، وينتقده البعض، يعتبر حلم مأمول لدي معظم دول العالم.
والحقيقة، أن مسألة عدم وجود أغلبية برلمانية للرئيس أمر عرفته كل الديمقراطيات سواء كانت في الولايات المتحدة الأمريكية أو فرنسا أو غيرهما، وإن احترام الدستور هو الذي يحمي المنظومة السياسية من أي انحراف أو انهيار أو قيام رئيس الجمهورية بتبرير الديكتاتورية بسبب الفوضى وسوء الأداء.
كثيرا ما حكم رئيس جمهورية ديمقراطي في أمريكا في ظل برلمان أغلبيته جمهورية، والعكس. واستمرت منظومة الحكم في العمل بالتفاهم والبحث عن المشترك والمصلحة العامة. صحيح أن قدرة الرئيس على الفعل وتنفيذ برنامجه الذي انتخب على أساسه تكون أكبر في حال امتلك أغلبية برلمانية، إلا إن فقدانه لهذه الأغلبية لا يعني انهيار البلد أو توقفها عن العمل بفضل احترام الجميع للدستور والقانون.
في فرنسا، تأسست الجمهورية الخامسة كحل لأزمات الجمهورية البرلمانية الرابعة، التي عرفت عجز وشلل سياسي بسبب انقسام الأحزاب، وأن الانتقال نحو النظام شبه الرئاسي كان يفترض ضمنا أن الرئيس سيحصل على أغلبية برلمانية، خاصة في ظل الشعبية الهائلة للجنرال ديجول مؤسس الجمهورية الخامسة، الذي لم يكن مجرد زعيم سياسي كبير إنما بطل تحرر وطني.
إن هذه الفرضية لم تحدث في كل الأحوال، فقد عرفت فرنسا تجارب تعايش بين رئيس جمهورية اشتراكي (ميتران) لم يحصل على أغلبية برلمانية مطلقة مع رئيس حكومة ديجولي(شيراك)، وعرفت تعايش معكوس بين رئيس ديجولي (شيراك) مع رئيس حكومة اشتراكي (جوسبان)، وسارت مركب الحكم والإدارة بفضل احترام قواعد الدستور التي تعطي لرئيس الجمهورية الحق في تسميه رئيس الحكومة بعد موافقة البرلمان، وبالتالي إذا لم يمتلك أغلبية فعليه أن يقبل بوجود رئيس حكومة من اتجاه مخالف.
إن عدم حصول الرئيس على أغلبية مطلقة تكرر في الانتخابات الفرنسية الأخيرة، ولكن الفارق هذه المرة تمثل في حجم الاحتقان غير المسبوق الذي تشهده البلاد، ويذكرك بخطاب الإقصاء والكراهية الذي عرفته كثير من البلدان العربية ومنها مصر في علاقة القوى السياسية ببعضها البعض. فاستهداف ماكرون وسياساته، وكيل كل التهم له كان حاضرًا في خطاب القوى الثلاثة المعارضة في البرلمان وبصورة فاقت كل التجارب السابقة.
حين ألقى ماكرون أمس الأربعاء كلمة متلفزة اعترف فيها بأنه لم يعد يمتلك أغلبية مطلقة، وأنه يجب أن تحكم البلاد بطريقة جديدة وتنظيم عمل الحكومة بشكل جديد، وأن نقبل الموائمة في ظل الاحترام المتبادل، تعرض لهجوم قاسي من قبل كل قيادات المعارضة.
ومع ذلك، فإن نتيجة الانتخابات الديمقراطية فرضت على الرئيس أن يراجع نفسه، وأن يقبل بطريقة جديدة في الحكم لم يمارسها طوال الخمس سنوات الماضية، حيث اعتمد على الأوامر الرئاسية التي تنفذ فورًا؛ لأن ببساطة كانت لديه أغلبية برلمانية مطلقة أيدته في كل قراراته، دون أن يعني ذلك مخالفة للدستور، وأنه تراجع عن هذه الطريقة حين خسر أغلبيته البرلمانية بما يعني ضرورة مشاركة القوى السياسية المعارضة في القرار التنفيذي وفق الدستور أيضًا.
وإذا لم تكن فرنسا دولة يحترم حكامها ونخبتها الدستور، لتحولت هذه الخلافات إلي حرب شوارع ولوجدنا الرئيس يحل البرلمان، والمعارضة تعتمد على الشارع لتجبره على الاستقالة. إنما احترام الدستور جعلت المطلب العملي الذي طرحته المعارضة هو مطالبه رئيسه الحكومة الحالية التي عينها ماكرون أن تأتي للبرلمان لتنال ثقته بناء على برنامجها، وفي حال فشلها فيجب أن يشكل البرلمان الحكومة الجديدة وفق الدستور.
الدولة الدستورية تعني احترام الجميع لقاعدة عليا يعرفون جيدا إنه لا يمكن ولا يجب مخالفتها لأن احترامها في صالح الجميع وبفضلها يتعلمون معني الدفاع عن المصلحة العامة ومصالح الشعب.