نشر الزميلان إحسان صلاح وحازم ثروت منذ عدة أيام تقريرًا مهمًا على موقع “مدى مصر”، التقرير كان يتناول زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لمصر، التي جرت منذ عدة أيام. الأهم والأخطر فيما نشره الزميلان في تقديري في تقريرهما هو الحديث عن رغبة سعودية للبدء في مصالحة بين النظام المصري وجماعة الإخوان المسلمين نقلها ابن سلمان للرئيس المصري، فحسب المصادر التي تحدثت لمدى مصر فإنه “سيتم معالجة ملفين غير تقليديين هما تسريع التقارب مع تركيا والإخوان المسلمين” وأن مصر “تعمل على الجبهتين منذ عدة أشهر، لكن بوتيرة أبطأ مما تريده الرياض”.
المؤكد أنه ولأول مرة منذ عام 2013 يتم فتح حديث واضح حول هذه القضية، وعلى مستوى رسمي أضحت أحد أطرافه المملكة العربية السعودية، وأن يتم فتح النقاش في هذه القضية في قمة مصرية سعودية وفي توقيت غاية في الدقة والحساسية.
اقرأ أيضًا.. سعودية بن سلمان.. كل شيء قابل للتحديث إلا نظام الحكم
خلال الأيام الماضية نشرت وسائل إعلام غير مصرية أن هناك رغبة أمريكية في البدء في مصالحة بين السلطة في مصر وجماعة الإخوان، وأرجعت هذه التقارير الرغبة الأمريكية في المصالحة إلى تحركات دولية تقوم بها واشنطن منذ فترة وترتبط بالحرب الروسية الأوكرانية، ورؤية أمريكا وحرصها على ضرورة استقرار الجبهات الداخلية للدول الحليفة لواشنطن، و”تسكين” الملفات الساخنة والشائكة في مناطق مختلفة من العالم كجزء من ترتيبات تقوم بها إدارة بايدن في طريقها لإحكام الحصار على روسيا.
الملفت في الأمر أن أحدًا من المسئولين في مصر لم ينف التقرير الذي نشرته “مدى مصر”، ولا تحدث الإعلام الرسمي بأية صيغة تحمل استبعادًا لفكرة المصالحة أو تنفي تناولها خلال المباحثات المصرية السعودية، ومع ذلك فإن أحدًا لم ينشر حتى هذه اللحظة على الأقل ما يؤكد أن ولي العهد السعودي تحدث بالفعل في هذه القضية الشائكة خلال لقائه مع الرئيس المصري، فضلًا بالطبع عن مدى استعداد السلطة في مصر لقبول المطلب السعودي أو التعهد بدراسة الأمر وتسريع خطوات المصالحة مع الإخوان، لا سيما أن هناك أجنحة بداخل النظام المصري لا زالت ترى في الإخوان خطورة على استقرار الأوضاع السياسية في المجتمع، وربما تواجه الفكرة رفضًا من مؤسسات وأجهزة أمنية لا تؤمن أن الوقت قد بات مناسبًا للحديث عن مصالحة داخلية يكون الإخوان المسلمون طرفًا فيها.
وبعيدًا عن الحديث عن الرغبة السعودية الأمريكية في المصالحة مع الإخوان فإن مصر في احتياج حقيقي لمصالحة مجتمعية شاملة، نحن بحاجة إلى إجراءات جادة وسريعة وحاسمة تتعدى الحديث عن مصالحة سياسية بين السلطة والإخوان لتصل إلى لم شمل المجتمع بأكمله. المؤكد أن العشر سنوات الأخيرة وصل المجتمع المصري لدرجة خطيرة من الانقسام، وتحول الخلاف السياسي إلى عداء بين كثير من القوى الحية في المجتمع، واستبدل الجميع لغة الكراهية بلغة الخلاف السياسي، حتى لو كان جذريًا وعميقًا، هذه الحالة من التمزق المجتمعي شارك فيها كل أطراف المشهد السياسي بدرجات متفاوتة، لكنها للأسف أضحت جزء من أدبيات الجميع في التعامل مع “الآخر”، وباتت هي اللغة السائدة بعد أن غاب الحوار وتوارى وسط حالة من “الغضب والكراهية” لم تمر بالمجتمع المصري من قبل أضحت تهدد وجوده واستقراره وتماسكه..
اقرأ أيضًا.. التيار الحر والحركة المدنية.. محاولات لإحياء السياسة
في أعقاب ثورة يناير 2011 كانت فكرة العدالة الانتقالية حاضرة بقوة، وهي الفكرة التي تقوم على “تصفية أخطاء الماضي بالمحاسبة وجبر الضرر والتسامح” وذلك لكي يبدأ المجتمع صفحة جديدة من الاستقرار والتنافس السياسي الجاد، ولكي تصب السيولة السياسية السائدة وقتها في مجرى تقدم المجتمع وتطوره. لكن للأسف الشديد، وبفعل فاعل، غابت فكرة العدالة الانتقالية، بل وصفها البعض بأنها “مؤامرة وفكرة خبيثة”، هذا التعامل غير البريء وغير المفهوم مع فكرة مهمة وحيوية ساهم في دخول المجتمع في دوامة من العنف والكراهية أوصلتنا لأسوأ سيناريو يمكن تصوره على الإطلاق.
في كل تجارب العالم التي تعرضت فيها الدول لانقسامات كبيرة، سواء في أعقاب الثورات أو الحروب الأهلية أو حتى نماذج دول “الفصل العنصري”، انتبهت القوى السياسية في هذه الدول إلى أن لغة العنف والاستقطاب والتخوين ستصبح نهاية مأساوية لدولهم وشعوبهم، عندها وصلوا لضرورة الاتفاق على مصالحة مجتمعية، تتعدى فكرة الخلاف السياسي، وتجعل من استقرار وتقدم المجتمع همًا أوليًا ومقدمًا على ما غيره، وتضع قواعد شفافة وعادلة للتنافس السياسي وتداول السلطة.
المؤكد أن هناك خلافات سياسية كبيرة مع السلطة الحالية في مصر، والمؤكد أيضًا أن السلطة الحالية أدارت السنوات السبع الماضية بطريقة افتقدت إلى الرشد السياسي، وقمعت وحاصرت الجميع بلا استثناء، والأصعب أنها نجحت بسياساتها في أن تحول الخلاف السياسي إلى “عداء” بين الجميع، فلو تحلت السلطة بقليل من المرونة والانفتاح والاعتدال والقبول بالنقد والمعارضة السلمية، ولو رفعت تسلطها وحصارها للأحزاب والنقابات والإعلام والمجتمع المدني، ربما تغير الحال إلى الأحسن، وربما باتت اللغة والمواقف التي تحكم الخلاف السياسي أفضل وأنضج!
اقرأ أيضًا.. حول التأثير الإعلامي الذي غاب.. ثلاث أزمات كانت السبب
مصر بحاجة إلى مصالحة مجتمعية جادة وعاجلة، تقوم بشكل رئيسي على فكرة العدالة الانتقالية، وتنطلق من نقطة القطيعة التامة مع الماضي، لا سيما السنوات السبع الفائتة، وترسخ لقواعد جديدة للمنافسة السياسية، وتحترم نصوص وروح الدستور، وتقبل بالجميع باستثناء من شاركوا في العنف أو حرضوا عليه، وتضع مصلحة البلد وأهله في المقدمة، وتمنح جميع القوى الحية الحق في ممارسة العمل السياسي المدني، الذي لا يخلط الدين بالسياسة، ولا يختصر الوطن في شخص أو جماعة أو حزب أو مؤسسة، وتضع شروطًا عادلة للبقاء في ساحة السياسة وترحب بكل من يحترمها، هذه الشروط أراها تقوم على ضرورة احترام ثلاث قيم جوهرية وجادة وهي: الديمقراطية ومدنية الدولة وتداول السلطة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.