تفاقمت مؤخرًا أزمات الكرة المصرية بين تراجع كبير في نتائج المنتخب الوطني والأداء الفني الرديء في بطولة الدوري المحلي، فضلًا عن المشكلات المالية المزمنة التي قلصت وجود الأندية الجماهيرية بشكل كبير، والتخبط الكبير في إدارة المسابقات المحلية من حيث عدم الانتظام في أجندة محددة، والغياب المستمر للجماهير، وتصاعد العشوائية وعدم المهنية في الإعلام الرياضي، وغيرها من الظواهر السلبية في مشهد كرة القدم داخل مصر.
اقرأ أيضًا.. بعد قرار الفيدرالي الأمريكي.. هل يتحمل الاقتصاد المصري رفعًا جديدًا في سعر الفائدة؟
لن أتوقف عند الأسباب الثانوية الصغيرة من أسماء مدربين أو اتحاد للكرة أو اختيارات لاعبين، الحوار الحقيقي يبدأ من هيكلة حقيقية للمنظومة الرياضية. يتيح قانون الرياضة الحالي للأندية إنشاء شركات مساهمة وطرحها للجمهور، وهو تطور لم يكن موجودًا في القانون السابق، ورغم وجود هذا التشريع لكن لم نر تغيرات في نمط النشاط الرياضي بحجم التغيير المطلوب.
من غير المعقول أن تعامل الأندية الرياضية بطريقة متناقضة بين النشاط الأهلي والنشاط الاستثماري، وأن تظل علاقة الرياضة بمفاهيم الاحتراف والاستثمار الرياضي “مُشوهة” و”مُجتزأة”.
أندية كرة القدم في العالم تحتاج سنويًا لميزانية ضخمة من الملايين لاستقدام اللاعبين والمدربين ودفع رواتبهم وانتقالاتهم، لكن أنديتنا تؤدي ذلك دون أي عوائد تمكن تلك الأندية من الاستمرار!
تقتصر موارد الأندية المصرية على عوائد البث التلفزيوني للمباريات وعقود الرعاية والإعلانات، ويذهب نصيب الأسد من كليهما إلى الأهلي والزمالك فقط، بالإضافة لموارد تبدو ثانوية مقارنة بالمصروفات مثل إيجارات المحلات التجارية المملوكة للأندية، وقيمة اشتراكات العضوية وغيرها.
إذًا لا تستفيد الأندية الجماهيرية في مصر من كونها “جماهيرية”، وذلك لغياب الجمهور عن مدرجات الرياضة المصرية لأكثر من عقد كامل، ورغم الانفراجة النسبية التي تحققت هذا العام في السماح ببعض الحضور الجماهيري من خلال المنظومة الرقمية “تذكرتي”، لكن لا تزال هناك ضرورة لعودة استقبال الملاعب للجماهير بكامل طاقتها الاستيعابية حتى تمكن الأندية الجماهيرية من الاستفادة من هذا المورد معنويًا وماديًا.
يظهر التناقض حين نشاهد الأندية تُعَامَل باعتبارها أنشطة أهلية، حيث تستفيد الأندية وفقًا لقانون الرياضة من الحصول على الأراضي بنظام التخصيص، مع إعفاءات كاملة من الضرائب العقارية ومصروفات التسجيل وضريبة الملاهي على تذاكر المباريات، بالإضافة إلى إعفائها من الجمارك على السلع التي تستوردها لصالح ممارسة النشاط الرياضي، فضلًا عن دعم استهلاكها من الكهرباء والمياه والغاز بنسبة 75%، ولا تتكبد الأندية سوى ضريبة القيمة المضافة التي تطبق حديثًا على عقود رعاية الأندية، ورسوم تسجيل اللاعبين، وحديثًا أصبح هناك رسوم تحصل بنسب تتراوح من 1% – 5 % لصالح تنمية الموارد المالية للدولة على عقود لاعبي كرة القدم.
اقرأ أيضًا.. الاقتصاد المصري في 2022: رفع الفائدة يهدد النمو.. وإلغاء الدعم قادم
المُتابع والقارئ الجيد لما سبق، سيُبدي دهشته من هذه الازدواجية، ومن نقاط الإعفاء والتخفيضات الجمركية والضريبية التي تستفيد منها الأندية، مقابل القيمة الضعيفة التي يشغلها القطاع الرياضي في الناتج المحلي الإجمالي في مصر بقيمة 1.8% حتى عام 2016 فقط!!
تحتاج الأندية الرياضية والقطاع الرياضي بشكل عام للتحول السريع نحو الرأسمالية الكاملة وقواعد الاحتراف مع مد الخط على استقامته، فليس هناك تحول رأسمالي بدون ضرائب وقواعد تنظيمية، لتكون العلاقة سليمة بين المكسب والربح والضرائب التي تستفيد بها الدولة.
بحسب ضريبة الدخل في النسخة الأحدث من القانون المصري، فإن ما ينبغي تحصيله من ضرائب على أصحاب الدخل السنوي من 200 – 400 ألف جنيه هو 22.5% وما هو أعلى من ذلك الرقم يكون استحقاق الضريبة عليه 25%.
وبغض النظر عن قناعاتنا بتواضع هذه الأرقام وضرورة تعديلها، إلا أن لاعبي كرة القدم في مصر أصحاب العقود الكبيرة والضخمة، هم من أكثر الفئات التي تمارس التهرب والتجنب الضريبي.
حيث يمارس اللاعبون ضغطًا على الأندية لتأدية الضرائب بدلًا عنهم وتسلم أموالهم دون أي خصومات ضريبية، وهو عمليًا يجعل من المميزين في هذه الفئة سريعي الثراء دون أي أعباء ضريبية، بل وتتحمل الأندية التي تُعامل أموالها في القانون معاملة المال العام، أرقام إضافية تدفعها كضرائب للاعبين! وبالتالي تخسر الموازنة العامة المال مرتين وليس مرة واحدة!
كذلك هُناك أزمة رئيسية في غياب القواعد المنظمة الخاصة بعقود لاعبي الكرة، حيث ينص قانون نقابة المهن الرياضية على إصدار تصريح مؤقت يجدد بشكل سنوي لكل لاعب ومدرب كرة قدم مصري أو أجنبي، ويمنع القانون ممارسة النشاط الرياضي دون الحصول على تصريح من نقابة المهن الرياضية ويسدد اشتراكها السنوي، وينص القانون أيضًا على خصم 5 % من قيمة عقود اللاعبين والمدربين لصالح صندوق المعاشات والإعانات، وترتفع النسبة لـ10% في حالة المدربين واللاعبين الأجانب. لكن الواقع العملي يصدمنا بأن أغلب لاعبي كرة القدم ليسوا مقيدين كأعضاء في نقابة المهن الرياضية، ولا يتم اعتماد عقودهم من النقابة!
قانون العمل أيضًا لا يطبق في كرة القدم المصرية، حيث يُحرَم اللاعبين من مكافأة نهاية الخدمة ومن التأمين ضد حالات إصابة العمل والعجز الكامل – وما أكثرها – ولا سيما في أقسام الدرجة الثانية ومسابقات الناشئين، فهؤلاء لا يتقاضون الملايين ولا يحصلون على الشهرة الكافية للحصول على الخدمة العلاجية في حالة الإصابة أو العجز! بل وشاهدنا وفيات مدربين داخل مباريات الدرجة الثانية والثالثة لغياب سيارات الإسعاف المجهزة لإنقاذهم، ولم يتلق ذويهم معاشات أو تعويضات لائقة بسبب غياب الحماية القانونية والتأمينية لهم!
مثل هذه التشوهات والممارسات ستتغير في حال التحول لنظام رأسمالي حقيقي، تدفع فيه شركات الأندية الرياضية ضرائب على أنشطتها “الاستثمارية”، وتسعى لزيادة أرباحها عن طريق أبواب الربح مثل عقود رعاية الأندية وعوائد البث التلفزيوني وتذاكر المباريات ومتاجر الأندية المفتوحة للجماهير وعوائد طرح الشركات في البورصة وغيرها من الأنشطة الاستثمارية، كما تسعى في ذات الوقت لخفض تكاليف الاستثمار عبر تعاقدات بأرقام منطقية للاعبين والمدربين، تتناسب مع مداخيل النادي ولن يكون في مصلحة المُلاك والمُساهمين في هذه الحالة مساعدة اللاعبين على التجنب الضريبي.
عالميًا هناك أزمات متلاحقة في ممارسات التهرب والتجنب الضريبي، فكثيرًا ما سمعنا عن وجود قضايا لبعض اللاعبين والمدربين بسبب المراجعات الضريبية على أجورهم، وعلى ما يحصلون عليه بالإضافة للأجر مثل عقود الرعاية والإعلانات التي تتضاعف مع نجوم الصف الأول.
تفرض الحكومة الإسبانية المعدل الأعلى للضرائب بين كل الدوريات الكبرى، بـ52%، تليها ألمانيا بـ47.5% ثم إيطاليا بـ46.2% وإنجلترا وفرنسا بـ45% لكل منهما، ولذلك نرى الكثير من نجوم الكرة يلجؤون للتهرب الضريبي عبر إنشاء شركات وهمية لعقود رعايتهم في ملاذات ضريبية أو دول صاحبة ضرائب منخفضة مثل بنما وسويسرا وغيرهم، أو ممارسة التهرب عن طريق التلاعب في عقود وكلاء اللاعبين مع اللاعبين والأندية ليستفيد اللاعب ضريبيًا بطرق ملتوية.
اقرأ أيضًا.. ما أسباب التشوهات الداخلية في الاقتصاد المصري؟
ونرى أيضًا كثيرًا من النجوم يختمون مسيرتهم الرياضية في أندية صينية أو روسية نظرًا لقيم الضرائب المنخفضة تمامًا بالمقارنة مع ما يتم تحصيله من ضرائب في الدوريات الأوروبية الكبيرة. لذا ليس من العجيب في ظل التطور الاقتصادي المرتبط بكرة القدم أن نسمع عن قضايا وتحقيقات مع النجوم الكبار بسبب الاحتيال الضريبي، وأُجبر العديد من النجوم على دفع تعويضات وغرامات للضرائب في إسبانيا وإنجلترا مقابل عدم الحبس بعد إثبات تهربهم، منهم 20 مليون يورو في تحقيقات النجم البرتغالي كريستيانو رونالدو.
في نوفمبر 2018 كانت هيئة الضرائب الإنجليزية تنظر في شئون 171 لاعبًا و44 ناديًا و31 وكيلاً، جميعهم لديهم مواقف ضريبية غير سليمة، وحسب ما أعلنته تلك المؤسسة فلقد استعادت منهم 332 مليون جنيه إسترليني.
حتى مع التوابع الاقتصادية لجائحة كورونا تفاعل اللاعبين والأندية الرياضية في الدول الرأسمالية المتقدمة بصورة تقدمية مذهلة، حيث تنازل العديد من لاعبي الأندية عن أجزاء غير قليلة من مستحقاتهم لصالح أنديتهم دعمًا لهم وتعويضًا لجزء من خسائرهم وأعبائهم المالية نتيجة تعطل مورد حضور الجماهير وتأثر جميع الأنشطة بالإغلاق وتوابع الجائحة، وذلك عبر تفاهمات جماعية أشبه بتفاوض النقابات الفاعلة مع أصحاب العمل، رأينا مثلًا لاعبي بايرن ميونيخ ودورتموند الألمانيين وهم يخفضون قيمة 20% من رواتبهم، وكذلك لاعبو برشلونة تنازلوا عن 70% من مستحقاتهم طوال فترة التوقف، وفي إنجلترا عملت رابطة المحترفين على تخفيض 30% من رواتب اللاعبين.
بينما في مصر لم تحدث مثل هذه المبادرات من نجوم الأهلي والزمالك من أصحاب الملايين، لأن الكرة بالنسبة لهم هي فرصة للثراء السريع فقط. وكان النادي الوحيد في أزمة كورونا الذي جمع مبالغ مالية وتنازل لاعبيه عن 20% من مستحقاته للتبرع بأجهزة ومستلزمات طبية هو نادي بيراميدز، الذي تمتلكه مجموعة استثمارية غير مصرية!
وسرعان ما ارتفعت قيمة عقود لاعبي الكرة بعد نهاية إغلاقات كورونا حيث مارسوا ضغوطات على أنديتهم لرفع مستويات وقيمة العقود لأرقام فلكية، ما يجعل الأندية الشعبية والجماهيرية تصرخ من هذا الوضع المُشوه، ودفع بعض مسؤولي الأندية لطلب الإعانة والتبرع من الجماهير في مناسبات عديدة أو التسول من رجال الأعمال المحبين للأندية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه!
الدكتور محمد سالم، باحث في دراسات التنمية الاقتصادية