منذ أصبح تغير المناخ قضية سياسية في أواخر الثمانينيات، تشكل عدد من التحالفات الصناعية لمعارضة التخفيضات الإلزامية لانبعاثات الكربون. في عام 1988، أدلى عالم المناخ ومدير وكالة الفضاء الأمريكية ناسا، جيمس هانسن، بشهادته أمام مجلس الشيوخ الأمريكي، وقال إن الأدلة على أن تأثير الاحتباس الحراري موجودة بالفعل وقوية جدًا، وأن الأمور سوف تزداد سوءً في المستقبل.
في وقت لاحق من ذلك العام، تم تشكيل الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC). ومع زيادة الزخم الدولي لمواجهة الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري، شعرت الشركات والصناعات المسببة للانبعاثات بالقلق من أن يتم استهدافها في مرحلة تالية، وعلى الفور، بدأ يتشكل ما يسميه علماء الاجتماع البيئي “الحركة المضادة للمناخ”.
على رأس الحركة المضادة للمناخ “التحالف العالمي للمناخ” (GCC)، الذي تأسس عام 1989 برعاية الرابطة الوطنية للمصنعين في الولايات المتحدة الأمريكية. ضم التحالف شركات النفط العملاقة، مثل شل وشيفرون، وشركات ومرافق الفحم وتوليد الكهرباء والسكك الحديدية، وشركات السيارات جنرال موتورز وفورد وكرايسلر، وتضمنت القائمة أيضًا شركة داو للكيماويات، والرابطة الوطنية للتعدين، وغرفة التجارة الأمريكية.
اقرأ أيضًا.. لماذا تفشل الأمم المتحدة في مواجهة أزمة المناخ؟ (1-2)
لم يكن التحالف هو المنظمة الوحيدة التي عرقلت التشريعات المناخية والعمل المناخي، كان هناك أيضًا مجلس المناخ العالمي، والرابطة الدولية للحفاظ على البيئة، لكنه كان أول وأكبر وأهم منظمة في الحركة المضادة للمناخ، ولعب دورًا بارزًا في رسم خارطة الطريق العالمية للمناخ.
وتكشف ورقة بحثية كتبها عالم الاجتماع البيئي بجامعة براون روبرت برول، ونشرت في دورية السياسة البيئية في أبريل الماضي، أن الهدف الأصيل والأساسي للتحالف، كان وقف الزخم الدولي المتنامي لفرض تخفيضات إلزامية للانبعاثات، والترويج للجهود الطوعية بديلًا عن الإجراءات الملزمة.
وتكشف الوثائق التي اعتمدت عليها الورقة أن التحالف لعب دورًا بارزًا في إقرار اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية للمناخ، وفي بروتوكول كيوتو، كما لعب دورًا رئيسيًا في توجيه الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ والمؤتمر السنوي للأطراف. إنخرط التحالف منذ تأسيسه في أربعة أنشطة رئيسية لعرقلة العمل المناخي: أولًا، إنكار علم المناخ، وإنكار أن هناك أزمة من الأساس، نفس سياسة الإنكار التي اتبعتها شركات التبغ لسنوات. ثانيًا، استخدام سلاح الوطنية، أو المبررات الوطنية، لتعطيل العمل المناخي. ثالثًا، استخدام سلاح الاقتصاد، أو المبررات الاقتصادية لتعطيل العمل المناخي. رابعًا، الضغط على النخب السياسية والمشرعين لتفادي أية تخفيضات ملزمة للانبعاثات.
تشير الورقة إلى وثيقة نشرت مؤخرًا بعنوان “برنامج الاتصالات” للتحالف العالمي للمناخ. تكشف هذه الوثيقة أن التحالف استخدم سياسة الإنكار والتشكيك في نتائج علم المناخ، باعتبارها جزء من استراتيجية شاملة لعرقلة فرض تخفيضات إلزامية للانبعاثات، وأن التحالف استخدم إنكار العلم والتشكيك فيه، كوسيلتين لكسب الوقت وتأجيل العمل لمواجهة الاحتباس الحراري. لم يكن إنكار العلم والتشكيك فيه هو الوسيلة الوحيدة التي استخدمها التحالف، فبعد أن أصبحت الأدلة على الاحتباس الحراري قوية ودامغة، تراجعت نسبيًا قوة هذه الوسيلة، لجأ التحالف إلى استخدام وسيلتين إضافيتين.
الأولى، الحجة الوطنية، حيث تبني التحالف ما أطلق عليه “عذر الصين”، ومفادها بأنه لا يجب على الولايات المتحدة أن تخفض الانبعاثات، ما لم تفعل الدول النامية مثل الصين والهند ذلك، وقال ممثلو التحالف في الكونجرس، إن إي اتفاق للمناخ يجب أن يتضمن تخفيضات للانبعاثات من الدول النامية. الوسيلة الثانية، والأقوى، هي الحجة الاقتصادية أو سلاح الاقتصاد.
اقرأ أيضًا.. تغير المناخ وأثره على موارد مصر المائية
في العام الأول من تأسيسه، كلف التحالف مستشاريه بإجراء تحليل اقتصادي للإجراءات المناخية المطلوبة، وروج لنتيجة مفادها بأن خفض انبعاثات الكربون بنسبة 20% في غضون عقد من الزمن، سيؤدي إلى ارتفاع تكاليف فواتير الكهرباء للأمريكيين بنسبة 15%. روج التحالف- بقوة- لفكرة أن الابتعاد عن الوقود الأحفوري سيؤدي إلى إغلاق الشركات ويضر بالاقتصاد وبطريقة الحياة الأمريكية.
تؤكد المصادر أن شركات العلاقات العامة ابتكرت الحجة الاقتصادية لمساعدة شركات التبغ والنفط في الهروب من التنظيم وعدم الخضوع للقانون منذ مطلع القرن العشرين، وتضرب مثالًا بدور شركات العلاقات العامة في إعادة تأهيل وغسيل سمعة “جون روكفلر” مؤسس ستاندارد أويل، بعد مذبحة “لودلو” بولاية كلورادوا الأمريكية عام 1914، عندما أطلقت قوات الحرس الوطني وميليشيا مسلحة النار على 1200 من عمال مناجم الفحم المضربين، وأشعلوا النار في المخيم الذي كانوا يعيشون فيه، ما أسفر عن مقتل 39 من العمال بينهم نساء وأطفال، وألقي باللوم على روكفلر وشركته في المذبحة.
وثقت ميليسا أرونشيك أستاذ الدراسات الإعلامية بجامعة روتجرز الأمريكية الدور الذي لعبه التحالف العالمي للمناخ في إقرار اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية للمناخ عام 1992، في كتابها “طبيعة استراتيجية: العلاقات العامة وسياسة حماية البيئة الأمريكية”. الاتفاقية هي إطار العمل الذي تستند إليه اجتماعات المؤتمر السنوي للأطراف لمناقشة الإلتزامات المناخية الدولية. ذكرت ميليسا أن بروس هاريسون، مؤلف برنامج الاتصالات للتحالف، قد عمل مستشارًا للعلاقات العامة للمديرين التنفيذيين للشركات الذي شاركوا في قمة ريودي جانيرو عام 1992، تلك القمة التي صاغ فيها قادة العالم الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة للمناخ.
وأشارت إلى أن الرجل الذي عينته الأمم المتحدة كمنظم ومنسق عام للمؤتمر، موريس سترونج، كان رجل نفط سابق، يؤمن أنه لا يمكن تمرير أية معاهدة فعالة للمناخ دون شراء مصالح الشركات.
نجح التحالف في حشد الدعم لوثيقة غير ملزمة تقترح إجراءات طوعية، وتجنب أية اتفاقيات ملزمة لخفض الانبعاثات، ونجح في استباق التنظيم الحكومي، وأعلن دعمه قيام الشركات والحكومات بإجراءات طوعية، ولم تتضمن الاتفاقية أي شيء يمكن أن يجعل الشركات تغير من طريقة عملها، على الرغم من الرطانة بكثير من الألفاظ والعبارات الجميلة عن الاستدامة والبيئة الخضراء. وبعد إقرار الاتفاقية، هنأ التقرير السنوي للرابطة الوطنية للمصنعين أعضائه، على “الحضور القوي والفعال” خلال مفاوضات قمة ريودي جانيرو، وعلى نجاحهم في تفادي أية تخفيضات ملزمة للانبعاثات.
يكشف برنامج الاتصالات أن التحالف العالمي للمناخ، عمل منذ البداية على توجيه الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ ومؤتمر الأطراف أيضًا في هذا الاتجاه وروّج التحالف لفكرة أن الصناعة يمكن أن توازن بين الاقتصاد والبيئة دون المساس بالقدرة التنافسية، ويكشف برنامج الاتصالات خطة التحالف التي تقوم على أن النتائج الاقتصادية للإجراءات التي سيقررها مؤتمر الأطراف في المستقبل، سوف تحظى باهتمام أكبر من التشكيك في العلم، خاصة، إذا كان من الممكن شرح هذه المخاطر للناس والرأي العام.
بعد اتفاق قادة العالم في المؤتمر الأول للأطراف، الذي انعقد في برلين 1995، على وضع متطلبات إلزامية للانبعاثات في غضون عامين. زاد قلق الشركات المنضوية تحت لواء التحالف العالمي للمناخ من تأثير التخفيضات الإلزامية للانبعاثات على أرباحهم، فكثف التحالف جهوده لعرقلة أي اتفاق ملزم لخفض الانبعاثات.
وتكشف الوثائق أن الشركات والصناعات المسئولة عن الانبعاثات، كانت تخسر المعركة، وأن العالم بات قريبًا من تحقيق هدف خفض الانبعاثات. كتب هاريسون في برنامج الاتصالات أن “وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية تقود العملية نحو نتيجة تضر بالتحالف وباقتصاد الولايات المتحدة”.
كانت خطة التحالف تقوم على أنه عندما يمكنك أن تنقض العلم وتشكك فيه، أفعل ذلك، لكن دائمًا ركز على الاقتصاد، وتأثير الخفض الإلزامي للانبعاثات على “طريقة الحياة الأمريكية”. ضخت الشركات الأعضاء في التحالف 13 مليون دولار في حملة للعلاقات العامة روجت لفكرة أن بروتوكول كيوتو سوف يؤدي إلى رفع أسعار البنزين والكهرباء ويضر بالاقتصاد، وكان شعار الحملة المناهضة للبروتوكول “أنها لا تشمل الجميع، ولن تنجح”. وكلّف التحالف اقتصاديين ومحللي سياسات لدعم حججهم القائلة بأن التخفيضات الإلزامية للانبعاثات، ستؤدي إلى تدمير الاقتصاد الأمريكي.
اقرأ أيضًا.. العدالة المناخية والحوار الوطني
عمل التحالف مع السياسيين البارزين في مجلس الشيوخ، السيناتور الديموقراطي روبرت بيرد، والسيناتور الجمهوري تشاك هاجل. قدم بيرد وهاجل تعديلًا، ينص على أن أي اتفاق ملزم لخفض الانبعاثات، لابد وأن يتضمن تخفيض الانبعاثات في الدول النامية مثل الصين والهند، وأن لا يسبب ضررًا خطيرًا للاقتصاد الأمريكي. وفي يوليو 1997، أقر مجلس الشيوخ بالإجماع القرار بتعديل بيرد-هاجل، الذي ينسف أساس بروتوكول كيوتو، الذي كان سيقترح خفض الانبعاثات 5% دون مستويات عام 1990.
وكان إقرار التعديل أول انتصار كبير للتحالف العالمي للمناخ، بعد نجاحه في تشكيل اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ. وقعت إدارة الرئيس كلينتون على اتفاقية بروتوكول كيوتو، لكن مجلس الشيوخ رفض المصادقة عليها، وبعد تولي جورج دبليو بوش منصبه في عام 2001، أعلن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية.
نجح التحالف في تحقيق هدفه، وكتب هاريسون في برنامج الاتصالات، أن التحالف أنه نجح في عكس المد في التغطية الصحفية لعلوم تغير المناخ، وتأكيد عدم وجود إجماع علمي حول ظاهرة الاحتباس الحراري، وأثر بشكل فعال في مناقشات الكونجرس حول ضرائب الكربون والطاقة، وتصدى بشكل فعّال لرسالة النكبة البيئية”، ولعب دورا في اعتماد إدارة كلينتون على التدابير الطوعية بديلا للإجراءات الملزمة.
هذا التركيز الدائم على المبررات الاقتصادية لتأجيل العمل المناخي إلى الأبد، مثير للاهتمام خصوصًا في ضوء اعتراف بعض الاقتصاديين الذين وظفهم التحالف العالمي للمناخ، بأن النماذج الاقتصادية التي استخدموها في بحوثهم كانت معيبة ومنحازة.
في أغسطس من العام الماضي، نشرت دورية السياسة البيئية ورقة بحثية كتبها بنيامين فرانتا، الأستاذ بجامعة ستانفورد الأمريكية، تحت عنوان “تسليح الاقتصاد:شركات النفط الكبرى، الاستشاريون الاقتصاديون، سياسة تعطيل العمل المناخي”. تكشف الورقة أن الاقتصاديين العاملين في التحالف العالمي للمناخ، وغيره من المجموعات المناهضة للمناخ، كانوا يستخدمون نماذج تضخم من التكاليف الاقتصادية للسياسة المناخية، وفي نفس الوقت، تتجاهل تماما جميع المنافع الاقتصادية والصحية التي يمكن تحقيقها من تجنب تأثيرات تغير المناخ.
يقول فرانتا، في كل مرة يقترح فيها سياسة ملزمة للحد من الانبعاثات، يتم استدعاء نفس الفريق من الاقتصاديين، ليس فقط من قبل التحالف العالمي للمناخ، ولكن أيضًا من قبل معهد البترول الأمريكي، ودول مجلس التعاون الخليجي، ومراكز الفكر المحافظة. بطريقة روتينية، يكرر المتحدثون باسم الشركات، أن أي خطط ملزمة بشأن المناخ، ستؤدي إلى إغلاق الشركات وتضر بالاقتصاد. ورغم اعترافهم بأن نماذجهم منحازة ومعيبة، وأنه ليس صحيحًا، أن تكاليف العمل المناخي أكبر من المنافع والمكاسب التي يمكن تحقيقها، ولا تزال الحجج والمبررات الاقتصادية والوطنية تستخدم بفاعلية ونجاح حتى الآن.
كان من الواضح أن التحالف العالمي للمناخ، بعد 12 عامًا من تأسيسه، أنجز مهمته وحقق أهدافه، فرسم الإطار الدولي في اتفاقية الأمم المتحدة، ووجه مؤتمرات الأطراف والهيئة الحكومية الدولية لتغير المناخ، بعيدًا عن أية تخفيضات ملزمة للانبعاثات. كان التحالف حملة علاقات عامة، تم تنفيذها بمهارة، وحققت نجاحًا هائلًا. تم حل التحالف العالمي للمناخ في عام 2002، ورغم مرور عقدين على حله، لا تزال الحركة المضادة للمناخ قائمة، وتستخدم نفس الحجج والمبررات، وتعمل بكفاءة.