على الرغم من احتياج المشهد الروسي- الأوكراني إلى تفسيرات وصيغ مقنعة، إلا أن المثير لقلق مراكز الأبحاث الاجتماعية والسياسية في كل من روسيا وأوكرانيا، هو القطيعة التي بدأت فصولها في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، ووصلت إلى الخطوط الحمراء في عامي 2013 و2014، ثم الوصول إلى الذروة بداية من 21 فبراير 2022. ويبدو أن القطيعة بين موسكو وكييف قد وقعت فعلًا لسنوات طويلة مقبلة.
وفي الحقيقة، فكسر شوكة أوكرانيا لن يكون بسيطرة روسيا على مدينتي دونيتسك ولوجانسك فقط في الشرق، أو بسيطرتها على إقليم دونباس بالكامل ولا على شرق أوكرانيا، لأنه في كل الأحوال، سيبقى وسط وغرب أوكرانيا، وسيشكلان شوكة أقوى وأشد انتقامًا في خاصرة روسيا. ووفقًا لأجنحة قومية روسية في مفاصل السلطة الحالية، فإن كسر شوكة أوكرانيا وتحويلها إلى منطقة عازلة بين روسيا والناتو، هو السيطرة على كل أوكرانيا. وهذا ما دعت إليه هذه الأجنحة في عام 2014، ولامت عليه بوتين والنخبة صاحبة القرار في الكرملين عند ضم القرم وسيفاستوبل آنذاك.
اقرأ أيضًا.. انفعالات الصديق الروسي وإثارة القلاقل
إن مطالب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تبدو تعجيزية، لأنه يدرك جيدًا أن ظهره للحائط، وأن الغرب سيستنزفه، وأن بلاده ستتعرض لحصار طويل الأمد على مستويات وفي قطاعات كثيرة. وبالتالي، لجأ إلى هذا الموقف التعجيزي لوضع ليس فقط الغرب أمام أمر واقع خطير ونووي، بل ووضع العالم كله في مأزقين اقتصادي وأمني وغذائي.
من جهة أخرى، تؤكد كل المؤشرات أن الغرب لديه إمكانيات وطاقات وقدرات، وهو يعمل على المدى الطويل، مثلما عمل مع الاتحاد السوفيتي، ومثلما أسس أمرًا واقعًا وفق تقرير روبرت ماكنيمارا في عام 1962 باستنزاف قدرات الاتحاد السوفيتي ليسقط بعد 30 عامًا من تمرير هذا التقرير. غير أن بوتين يسعى لتحقيق أهداف أبعد من أوكرانيا، وعلى رأسها تحسين شروط وجود روسيا ضمن المراكز الرأسمالية الكبرى، وضمان حصة في مناطق تصريف التراكمات المالية وفوائض القيمة، والاتفاق على خريطة واضحة ومحددة للأمن الأوروبي من جهة، والأمن الدولي من جهة أخرى تضمن لروسيا موقعًا ذا نفوذ وتأثير محددين وواضحين. والغرب يعرف ذلك جيدًا، لكنه لا يعترف لا بوزن روسيا الاقتصادي ولا بتأثيرها الجيوسياسي إلا عندما يريد استخدام موسكو في أداء دور معين في أفغانستان أو في سوريا أو في آسيا الوسطى.
في هذه الحالة ليس أمام بوتين إلا أن يلوِّح بالنووي، ولكن هناك في الغرب 3 قوى نووية مقابلة، وهناك الصين التي لا يمكن أن تسمح بأي فوضى نووية. إن الغرب يعمل على المديين المتوسط والبعيد، ويتعمد إطالة الأزمة، لأن المسألة ليست أوكرانيا بالضبط، وكل من روسيا والغرب يعرفان ذلك جيدًا. والآن تم إشعال مولدوفا، وتحريض عدة دول في آسيا الوسطى: هكذا يجري وضع روسيا في بيئة معادية من جميع الجهات ستستنزفها على المديين المتوسط والبعيد.
إن عملية دمج ماريوبول وخيرسون وخاركوف، وربما أوديسا فيما بعد، في كيان الدولة الروسية، يمكن أن يكون أحد أكبر الأخطاء التاريخية والاستراتيجية للنخبة القومية في الكرملين. بل وأحد أكبر الأخطار التي ستحيط بروسيا المستقبلية وتهدد وجودها. ولا شك أن دائرة الصراع الضيقة بين موسكو وكييف، تقتصر على التسخين من قِبَل نخبتين قوميتين “متطرفتين” والمواجهة بينهما، وهذا سر العداء الظاهر (والخفي أيضًا) المستحكم بين هاتين النخبتين اللتين تعرضان الشعبين الروسي والأوكراني لهزات وتقسيمات تاريخية مقبلة.
من جهة أخرى، هناك دوائر أوسع للصراع، بحكم أن النخبة القومية التي تحكم روسيا حاليًا ترى أنها على رأس دولة نووية وغنية بالخامات، ترغب بتحسين مواقعها ضمن التكتلات الرأسمالية العالمية مستخدمة الماركسية تارة، والأرثوذكسية تارة أخرى. لكن فكرة ضم أراضي بسكانها، ليست أفضل فكرة للتوسع وضمان الأمن، وبالذات في القرن الواحد والعشرين.
اقرأ أيضًا.. ماذا لو فازت روسيا؟
إن النخبة القومية الحاكمة في موسكو تعتمد على أن الغرب براجماتي وسينسى كل شيء بمجرد تغير الظروف أو حدوث تحولات جوهرية في موازين القوى أو في المصالح الرئيسية. والتاريخ الروسي- الأوروبي يشهد على وقوع أحداث بهذا الشكل، ومن ضمنها تحالف روسيا مع بريطانيا وفرنسا والدولة العثمانية لتدمير الأسطول المصري، وتبني النخبة الحاكمة في موسكو السوفيتية لمشروع إقامة دولة إسرائيل والاعتراف بها. وهناك أحداث أخرى كثيرة مثل غزو المجر وتشيكوسلوفاكيا وأفغانستان، وانحياز موسكو البوتينية لإثيوبيا ضد مصر في قضية سد النهضة، ومحاولات روسيا تحويل شمال أفريقيا وشاطئي البحرين الأبيض والأحمر إلى ساحة صراع مع الغرب.
وانطلاقًا من تعويل موسكو على براجماتية الغرب فإنها تقوم بضم أكبر قدر من الأراضي الأوكرانية، وتواصل تجميد الأزمات في الفضاء السوفيتي السابق، وتدق الأسافين الدينية والعرقية في آسيا الوسطى والقوقاز وما وراء القوقاز، على أمل أن تنسى أوروبا كل ذلك فيما بعد، وتبدأ بالتعامل مع روسيا مجددًا وفق مبدأ الأمر الواقع الذي تم فرضه بالقوة العسكرية، سواء في أوكرانيا أو في جورجيا أو في مولدوفا أو في بيلاروس أو حتى بين أذربيجان وأرمينيا.
ومع كل ذلك، فالصراع بين روسيا وأوكرانيا سيستمر لسنوات طويلة مقبلة بأشكال مختلفة. وستتأثر روسيا في جميع المجالات، وخاصة مجالات العلوم والتقنيات والرقميات الحديثة، وسيتقلص نفوذها ليصبح موجودًا فقط في الصور الذهنية وعلى صفحات وسائل الإعلام. وفي كل الأحوال، هناك توجه صارم بتأسيس منظومة عالمية جديدة، ستكون روسيا فيها في الدرجة الثانية، حتى إذا حاولت التلويح والتهديد بالأسلحة النووية، لأن الغرب يمتلك 3 قوى نووية مقابل قوة روسيا النووية.
إن روسيا، باحتلالها أجزاء من أراضي أوكرانيا، تسعى إلى ضم مناطق بسكانها في شكل يشبه الاحتلال الاستيطاني. وفي أحسن الأحوال، فإنها تصنع أمرًا واقعًا جديدًا يدفع إلى سياسة الحافة من جهة، ويشكل نقطة الصفر في أي مفاوضات مقبلة من جهة أخرى. وستواصل موسكو عملية تجنيس الأوكرانيين وضم الأراضي التي يعيشون عليها. وقد تمنحهم حكمًا ذاتيًا فيما بعد ليشكلوا شوكة دائمة في خاصرة أوكرانيا. كل الأمور مفتوحة على كل الاحتمالات.
اقرأ أيضًا.. خبراء روسيا عن الصراع مع الغرب في أوكرانيا: لن تعود العولمة
ولقد تحدث الرئيس بوتين صراحة بأنه يريد السير على طريق القيصر بطرس الأكبر فيما يتعلق بضم الأراضي وتوسيع مساحة روسيا، أو بالأحرى استعادة أملاك وحدود روسيا التاريخية. وهذا الكلام خطير للغاية لأن بطرس الأكبر كان يحكم روسيا ويقوم بضم الأراضي في نهاية القرن السابع عشر (1672- 1725). وفي 21 فبراير 2022، عندما اعترف بوتين بانفصال منطقتي دونيتسك ولوجانسك عن أوكرانيا، أدان لينين واتهمه بالتفريط في أراضي روسيا، لأنه هو الذي أسس أوكرانيا، وأن أوكرانيا أصلًا ليست موجودة في التاريخ كدولة. إن نخبة الكرملين تحاول تحقيق الصورة الذهنية لديها عن روسيا التاريخية القابلة للتوسع على نفس مساحة الدولة البيزنطية التي يعتبر الروس أنفسهم ورثتها الشرعيين، مضافًا إليها آسيا الوسطى والقوقاز وما وراء القوقاز كحدائق خلفية.
إن مراكز اتخاذ القرار في بعض الدول ترى أن ذلك بمثابة فرض أمر واقع قبل الشروع في مفاوضات وقف إطلاق النار. ولكن هذا أحد الاحتمالات فقط. ففي الحقيقة، لن تتنازل النخبة القومية في روسيا عن مناطق مثل شبه جزيرة القرم وسيفاستوبول وهما منفذان مهمان لروسيا إلى المياه الدافئة في البحرين الأسود والأبيض المتوسط، وبدونهما يمكن أن تختنق روسيا وتتعثر قطع أسطولها هناك. الأمر الآخر، هو أن روسيا البوتينية تسعى أيضا إلى تحويل بحر آزوف إلى بحيرة روسية داخلية، ثم التوجه للتعامل وفق نسق معين مع “أوديسا” أكبر ميناء أوكراني على البحر الأسود. وهنا ستكتمل سيطرة روسيا الكاملة على كل المنافذ البحرية الأوكرانية. ومن المستبعد أن تساوم موسكو على القرم وسيفاستوبول وخيرسون وزوبوروجيه.
إن شروط موسكو بضرورة اعتراف كييف بروسية القرم وسيفاستوبول إلى الأبد، واعترافها أيضًا بانفصال دونيتسك ولوجانسك، قد تتكرر مع بعض المناطق الأخرى. وفي كل الأحوال، فإنه حتى إذا لم تضم روسيا “أراض وسكان” تلك المناطق، فإنها ستعمل على انفصالها أولًا، ثم توحيدها مع بعضها البعض وفق ترتيبات روسية معينة. وبعد ذلك سيتم تقرير مصيرها كوحدة واحدة تشكل هلالًا صناعيًا وزراعيًا، سواء بضمه إلى روسيا أو باستقلاله وتبعيته لموسكو في آن معا. وقد تستحدث النخبة القومية الروسية نظامًا على غرار الجمهوريات ذات الحكم الذاتي في إطار روسيا الاتحادية.
لقد ساد تصور بأن هذه الخطوة تمثل ترجمة حقيقية لما نادى به هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، من ضرورة تنازل أوكرانيا عن جزء من أراضيها للسلام مع روسيا. غير أن الأمر على العكس تمامًا. إذ يبدو أن هناك رغبة في فهم كلام كيسنجر بشكل غير دقيق أو بشكل خاطئ.
لقد بدأ بوتين في ضم أراضي أوكرانية بسكانها حتى قبل أن يتحدث كيسنجر عن هذا الأمر. ولكن كيسنجر لا يقصد إطلاقًا منح روسيا هذه الأراضي والبشر وإغلاق الملف. فهو أحد مهندسي هزيمة الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة بدون إطلاق رصاصة واحدة. وبالتالي، يجب وضع كلامه في سياقاته الصحيحة والمنطقية القابلة للفهم. فهو يعرف جيدًا أن روسيا لن تستطيع السيطرة الكاملة على هذه المناطق، بل يلمح إلى ذلك بدرجات معينة. وهو يعرف أيضًا أن روسيا لديها مشكلات في آسيا الوسطى والقوقاز وما وراء القوقاز. وتواجه قواتها في سوريا أيضًا مشكلات كثيرة مع قوات تركيا وإيران من جهة، ومع المعارضة من جهة أخرى، إضافة إلى إهدار الموارد الروسية للإبقاء على نظام وشخص بشار الأسد. إن كيسنجر يدرك أن روسيا باتت الآن ولمدة عشرات السنين المقبلة هدفًا لعملية استنزاف واسعة. وبالتالي، يدعو إلى عدم الاهتمام بما تضمه من أراضي بقدر ما يجب أن تتواصل عمليات الاستنزاف بهدوء ومن دون مواجهات عسكرية مباشرة لا لإخراج روسيا من أوكرانيا فقط، بل ومن أجل تحديد طموحاتها وتقليم أظافرها، من دون هزيمة كاملة أو مذلة، لأن الغرب بحاجة إلى روسيا بمواصفات معينة للقيام بأدوار في أفغانستان وآسيا الوسطى والقوقاز، كما حدث طوال ما يقرب من عشرين عامًا بعد هزيمة الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة.
اقرأ أيضًا.. خطط روسيا والصين للتملص من القوة الاقتصادية للولايات المتحدة: بحثا عن بديل الدولار
حتى الآن لا توجد أي وساطات دولية قادرة على إدارة الحوار. وفي الحقيقة، فإن تركيا ليست وسيطا يمكن الاعتماد عليه، لأنها طرف، سواء بشكل تاريخي أو بشكل سياسي وجيوسياسي أو من حيث الانتماء إلى حلف الناتو. وكل ما يتم تداوله من أنباء حول وساطات أو عروض وساطات هو مجرد “عروض” و”غسيل أيدي” ومساعي للظهور لا أكثر، إذ أن غالبية الأطراف التي تعرض وساطتها، هي أطراف إما جاهلة أو متآمرة، لأنها لا تعرف نوايا وطموحات النخبة القومية في موسكو، وليس لديها أي فهم لطبيعة تركيبة السلطة وتوجهاتها في كييف، بصرف النظر عن وجود شخصية مثل زيلينسكي أو عدم وجودها.
سيواصل الغرب “تأديب” موسكو في العديد من المجالات، وعلى رأسها النفط والغاز والقمح والأخشاب من جهة، وحظر التقنيات الدقيقة وحرمانها من العلوم الحديثة من جهة أخرى. ولن تنجح أي وساطات، وبالذات الوساطات التركية والعربية، لأن أنقرة طرف، والدول العربية التي تعرض وساطاتها تدمن دومًا الاختيارات الخاطئة. ومع ذلك فلا يمكن أن نستثني أن يتوصل الغرب مع الحكام الجدد في الكرملين (بعد رحيل بوتين لأي سبب من الأسباب) إلى صيغ تكاد تقارب “لا غالب ولا مغلوب”، مضحيًا ببعض مصالح أوكرانيا، مقابل أن تتمتع بضمانات أمنية وبأن تنضم إلى الكتل والتكتلات الغربية الاقتصادية على الأقل في المديين القريب والمتوسط.
وفيما يتعلق بتركيا، فمن الواضح أن هناك تصعيدًا “هادئًا” و”ناعمًا” بين موسكو وأنقرة. وهناك احتكاكات خشنة في سوريا تستدعي رسائل تحذير متبادلة بين الطرفين من حين لآخر. إضافة إلى تصريحات ملتوية من جانب الرئيس التركي أردوغان بشأن نشاطات القوات التركية في سوريا، بينما تصمت روسيا أحيانًا، أو تدلي بتصريحات مرتبكة في أحيان أخرى، وبالذات فيما يتعلق بنشاطات تركيا العسكرية الجريئة في سوريا، وخاصة منذ غزو روسيا لأوكرانيا.
على الجانب الآخر، تسعى تركيا لتطويق روسيا. بل واحتوائها عن طريق دول حلف الناتو المطلة على البحر الأسود، وعبر بعض دول القوقاز وآسيا الوسطي التي تنتمي إلى العالم التركي. ويبدو أنه لن يكون أمام روسيا إلا إظهار العين الحمراء لردع تحركات أردوغان الذي يعمل على تحديد حركة روسيا وإفساح المجال لنفسه (أي أن استنزاف روسيا يجري بهدوء وبشكل غير محسوس). والمسألة تتعلق أيضًا بأوكرانيا، حيث بحث وزير الدفاع التركي خلوصي أكار مع نظيره الجورجي جوانشير بورشولادزي الأمن الإقليمي في منطقتي البحر الأسود والقوقاز، والتعاون الدفاعي بين الدولتين، يوم الأربعاء 15 يونيو 2022 في بروكسل، على هامش اجتماع وزراء دفاع حلف الناتو.
ومن الواضح أن هذه الأمور تجري منذ فترة بعيدة، لأن وزارة الدفاع التركية أفادت في 7 أبريل 2022 بأن وزراء دفاع الدول المطلة على البحر الأسود أجروا مكالمة عبر الفيديو، لمناقشة الأزمة الأوكرانية، والأمن الإقليمي. وقالت بالضبط إن “وزراء دفاع تركيا وبلغاريا وجورجيا وبولندا ورومانيا وأوكرانيا التقوا عبر رابط فيديو بدعوة من تركيا”، مضيفة أنهم عقدوا محادثات “فعالة جدًا”. وفي اللقاء الأخير، صرح وزير الدفاع التركي أكار، عقب الاجتماع بأنه “تم التأكيد على أهمية التعاون في البحر الأسود من أجل تحقيق الهدوء والاستقرار، وأنهم بحثوا الخطوات الممكنة للتخفيف من الأزمة الإنسانية وتوصيل المساعدات لأوكرانيا”!