قبل أيام من زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الشرق الأوسط، تشهد المنطقة حراكا سياسيا غير مسبوق، يهدف إلى تغيير خريطة التوازنات وإعادة رسم وهندسة علاقات القوى الإقليمية التي يسعى كل منها إلى تحقيق مآربه من الزيارة المرتقبة.
بايدن الذي وصفه معارضوه بأنه “أسوء رئيس أمريكي منذ عقود”، وتم تحمليه مسئولية تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية من تضاعف أسعار الوقود إلى وصول نسب التضخم لأعلى مستوياتها منذ عام 1980، يأتي إلى المنطقة بخيار تفاوضي لا تصعيدي، فحاجة بلاده وحلفائه الأوربيين إلى الغاز والنفط أجبرته على استئناف المحادثات النووية مع إيران، متجاهلا قلق إسرائيل وأصدقائها في المنطقة من المكاسب التي ستجنيها طهران حال إحياء الاتفاق النووي.
فبعد يومين من زيارة مفاجئة لوزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إلى طهران أجرى خلالها مباحثات مع المسئولين الإيرانيين، تم الإعلان عن استئناف المحادثات النووية، لكن هذه المرة في العاصمة القطرية الدوحة التي تعمل أيضا من أجل تهدئة وتبريد أزماتها في المنطقة، وبحضور المبعوث الأمريكي إلى إيران روبرت مالي والذي سيدخل في محادثات غير مباشرة مع كبير المفاوضين الإيراني على باقري كنى.
ويتوقع مراقبون أن يتم حسم الأمور العالقة في هذه الجولة من المفاوضات التي دخلت نفق التجميد في مارس/آذار الماضي، “ستخفض الحرب الروسية الأوكرانية من سقوف التفاوض خصوصا أن حاجة الغرب للغاز والنفط كبيرة”، تقول الكاتبة روزال رمال في جريدة “كيهان” الإيرانية.
وتضيف رمال في مقالها المنشور أمس في الجريدة القريبة من المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية: “توقف المحادثات الذي أخذ طابعا تكتيكيا يتعلق باعتراض إيراني على عدم حذف الحرس الثوري الإيراني من لائحة الإرهاب، توسّع لتعقيدات استراتيجية دقيقة على صعيد الحلف الواحد، فبدخول روسيا الحرب على أوكرانيا يصبح أيّ تفاهم حتمي مع إيران هو نافذة لمدّ الغرب بالنفط والغاز المطلوب في هذه الأزمة، فيما سيُعتبر ذلك خذلانا إيرانيا لروسيا وعدم الوقوف عند مصالح موسكو”.
“وفي حين اعتبر مسئولون إيرانيون أن لا علاقة لموسكو بتوقف المحادثات فإنّ كلّ المؤشرات تؤكد ذلك خصوصا بعدما لجأت واشنطن إلى طلب النفط من فنزويلا التي سطرت عقوبات شديدة عليها لزمن، معتبرة أنّ إيجاد بدائل لمصادر الطاقة الروسية هو الهدف الأهمّ حاليا”، تضيف الكاتبة التي ترى أن إسرائيل تسعى بكل السبل إلى إفشال إحياء الاتفاق النووي، “العودة إلى الاتفاق له تداعيات سيئة للغاية على أمنها وسيسمح لإيران بازدهار يعزز من قدرتها العسكرية في الشرق الأوسط”.
المملكة العربية السعودية الدولة التي ستستضيف القمة الأمريكية العربية، استقبلت رسائل بايدن وأدركت أن إدراته تميل إلى تبريد أزمات المنطقة وتجنب أي تصعيد محتمل يؤدي إلى تأسيس حلف دولي من خصوم واشنطن، فسارعت الرياض بإرسال إشارات إلى جارتها اللدود طهران عبر رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بهدف إحياء الحوار الاستراتيجي بين الدولتين واستعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ 2016، وإنهاء التوترات الإقليمية بينهما.
وحسبما أشار سعيد خطيب زادة المتحدث باسم الخارجية الإيرانية فإن الكاظمي نقل رسالة من المملكة إلى الجمهورية الإسلامية، لافتا إلى أن الجولة السادسة من المحادثات مع السعودية ستعقد على مستوى دبلوماسي، وستستأنف قريبا في بغداد. وفي وقت سابق، شدد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان خلال لقائه الكاظمي، على دعم بلاده إعادة فتح السفارات في الرياض وطهران.
وفي إطار مغازلة مصر ومحاولة إقناعها أن بلاده لا تهدد مصالحها، وأنه ليس عليها الانخراط في أي تحالفات تستهدف إيران، أكد عبد اللهيان أنّ “تعزيز العلاقات بين طهران والقاهرة يصبّ في مصلحة المنطقة والعالم الإسلامي”، مشيرا إلى أن “إيران ترى أنّ حلّ مشاكل المنطقة يكون من داخلها”.
تزامن تلك التصريحات مع إعلان وزارة الخارجية الإيرانية تعيين ناصر كنعاني جافي، الذي سبق له أن مثّل بلاده في مصر والأردن، ناطقا باسمها خلفا لسعيد خطيب زادة.
تحت عنوان “إعادة تشكيل المشهد السياسي!”، أشار الإعلامي ورجل الأعمال السعودي حسين شبكشي في جريدة “الشرق الأوسط” السعودية إلى أن الحراك الدبلوماسي السعودي الاستباقي الذكي يعد نوعا من “التمركز” قبل زيارة الرئيس الأميريكي إلى المنطقة لتقديم السعودية كمحور أساسي لصناعة القرار في منطقة الشرق الأوسط وعدم اقتصار هذا القرار على الشأن النفطي فقط.
ويلفت شبكشي النظر إلى أن الرئيس الأمريكي الذي يوجه جل اهتمامه إلى الشؤون الخارجية لإحراز أي نصر فيها مع انحسار شعبيته وتدهور المؤشرات الاقتصادية والارتفاع الكبير في مؤشر التضخم، من المتوقع أن يطلب من الرياض رفع معدلات إنتاجها النفطي أملا منه في أن يؤدي ذلك إلى خفض الأسعار، “لكن السعودية بحاجة إلى ضمانات أمنية جادة وحقيقية من الولايات المتحدة”.
وسيطرح بايدن، وفقا للكاتب، خلال زيارته اقتراحات بشأن تحالفات جديدة وشراكات غير تقليدية سيتم وزنها وتقديرها جيدا لمعرفة الفرق بين منح الرئيس الأمريكي جائزة تريحه سياسيا أو إبقاء بوصلة العلاقة في أطر المصالح المستدامة بغض النظر عن الأفراد.
وعلى سبيل الأزمة اليمنية التي يتصارع فيها اللاعبان الإقليميان من خلال وكلائهما المحليين، ذهب مصدر دبلوماسي يمني إلى أن التهدئة في بلاده مرهونة بمسار التهدئة السعودي الإيراني، “إذا اتفق الجانبان على استعادة العلاقات الدبلوماسية ستستمر التهدئة في اليمن”، لكنه أبدى تشاؤما من الوصول إلى تسوية أو حل نهائي للصراع الدائر في بلاده منذ 7 سنوات.
مصدر هذا التشاؤم أن مطالب إيران ووكلائها الحوثيين أصعب من أن تقبلها حكومة الشرعية، “يسعى الحوثيون إلى الحفاظ على مكاسبهم من الصراع، لا يريدون شراكة تعكس حجمهم ووزنهم في المجتمع اليمني، ويرفضون أن يكونوا جزءا من نظام حكم انتقالي، ويتعاملون باعتبارهم استعادوا حكم الإمامة الذي أسقطته الجمهورية قبل 6 عقود، وعليه فالتسوية من وجهة نظرهم أن تكون الأطراف الأخرى جزءا من نظامهم”، يقول المصدر.
وكان الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي قد أكد في المؤتمر الصحفي الذي جمعه برئيس الوزراء العراقي على أن استمرار الحرب في اليمن لا جدوى منه، “نحن نجزم بأنه لا جدوى في استمرار هذه الحرب التي لم تحقق سوى الألم والمعاناة لشعب اليمن”؛ مضيفا: “وقف إطلاق النار من شأنه أن يدفع باتجاه حل الأزمة اليمنية وإقامة الحوار بين اليمنيين”.
الدبلوماسي اليمني يشير إلى أن الحوار بين اليمنيين يمكن أن يكون خطوة على طريق التسوية الطويل، لكنه يخشى أن تظل اليمن ورقة عالقة على طاولة لعب بين اللاعبين الإقليميين.
ويسعى الرئيس الأمريكي إلى تعزيز الهدنة السارية في اليمن، وإلى البدء في محادثات يمنية يمنية من شأنها حلحلة بعض الأمور العالقة بين حكومة الشرعية والحوثيين، وسيدفع أطراف الصراع المحليين ووكلاءهم إلى البدء في مفاوضات، بحسب ما نقلت وسائل إعلام أمريكية أمس.
إسرائيل من جهتها تعمل على إفساد ترتيبات المشهد، فليس من صالحها أن تذهب المنطقة إلى تهدئة وأن يتم ترتيب الأوراق بين طهران وخصومها في الإقليم، وسعت من خلال داعميها في واشنطن إلى الضغط على الإدارة الأمريكية حتى لا تتنازل أو تخفض سقفها في التفاوض الذي بدأ اليوم.
وتحت عنوان استكمال مشاورات “قمة النقب”، اجتمعت تل أبيب أمس في العاصمة البحرينية المنامة مع أصدقائها في المنطقة (الإمارات والبحرين والمغرب ومصر) ودبلوماسي أمريكي.
ورغم ما جرى تداوله من محاولة إسرائيل جر حلفائها العرب إلى الإعلان عن تشكيل تحالف أمني أو عسكري لمواجهة التهديدات الإيرانية، إلا أن البيان الختامي لاجتماع المنامة خلى من ذكر أي حديث عن تفاهمات أمنية أو مناقشة تشكيل أي تحالفات عسكرية، وتم التركيز على تعزيز العلاقات بين إسرائيل ودول المنطقة مما يساهم في دفع فرص التفاوض بين الإسرائيليين والفلسطينيين.. إلخ.
وكان وزير الدفاع الإسرائيلي بيني جانتس قد أكد أمس أن بلاده ستواصل العمل مع القوى الكبرى من أجل التأثير على صياغة أي اتفاق نووي إيراني مقبل، وذلك وسط خلاف بين الأجهزة الإسرائيلية حول الاتفاق المتوقع بين واشنطن وطهران.
وفي حين يدعم جيش الاحتلال التوصل إلى اتفاق، يقول الموساد إن توجيه ضربات ضد البرنامج النووي الإيراني كما يحدث الآن يبقى الخيار المفضل.
يستهدف الرئيس الأمريكي جو بايدن وإدارته وحزبه الديمقراطي من الزيارة المرتقبة تسجيل إنجاز في ملف الطاقة يحسن سمعته ويرفع من شعبيته المتدنية وتدعم فرص الديمقراطيين في معركة التجديد النصفي للكونجرس نهاية العام، في المقابل يعمل ولي العهد السعودي على نيل الرضا الأمريكي وطي صفحة ملف انتهاكات حقوق الإنسان الذي يلاحقه منذ اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي والذي وضعه في خانة “المنبوذ” ويسعى أيضا إلى استغلال حاجة الأمريكان إليه لتعزيز فرص وصوله إلى عرش المملكة، فيما يحاول ملالي إيران اغتنام الفرصة وإحياء الاتفاق النووي لإنعاش اقتصادهم وفرض أنفسهم كقوة إقليمية لا يستهان بها.. أما إسرائيل المأزومة سياسيا فلا تملك الآن سوى تعكير المياه واختلاق أزمات عسى أن تفسد المشهد.
كل المعطيات تقود إلى أن زيارة بايدن ستدفع في اتجاه تهدئة وتبريد ملفات المنطقة الساخنة، فالولايات المتحدة التي تتحمل تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية تسعى إلى تخفيف تلك التداعيات، ولا تريد إشعال أي صراع آخر يزيد من التوتر في العالم.