مرة أخرى يعود الحديث عن التعليم الفني وأولويته بالنسبة لمصر ومستقبلها. فها هي الطالبة علا رفعت -الأولى على إعدادية محافظة البحيرة تعلن اتجاهها لدراسة التمريض بدلا من دخول الثانوية العامة. وذلك بسبب ظروف أسرتها الاقتصادية. والتي لا تقوى على التكاليف الباهظة لمرحلة الثانوية هذه الأيام.
فجأة طفت النظرة المجتمعية الدونية للتعليم الفني كموروث مقيم وثارت تعليقات رواد مواقع التواصل الاجتماعي حول رغبتها تلك. في الوقت الذي صارت فيه المدارس الفنية تستقطب أصحاب المجاميع الكبيرة بفضل مستقبلها المميز. فما كان من “أهل الخير” إلا عرض المساعدة لدخول “علا” التعليم الثانوي العام ومن ثم الجامعة وكأن التعليم الفني الذي اختارته “مصيبة” تستحق الطالبة أن ينتشلها القادرون منها.
لقد أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي في منتدى شباب العالم عام 2019 أننا “محتاجين نغير ثقافتنا كمصريين بأننا لا ننظر فقط إلا لخريج الشهادة الجامعية. في الوقت الذي ننظر فيه إلى الفني مهما كانت كفاءته وقدرته على تقديم عمل جيد بشكل غير مناسب”.
الواقع يقول إن موروث المصريين في هذا الشأن لم يتغير. بدليل ما أظهرته وسائل الإعلام من انزعاج عندما قررت الطالبة المتفوقة الالتحاق بمدرسة التمريض. وبدورها أعلنت مؤسسة “صناع الخير” للتنمية التكفل بمصروفات دراسة “علا” خلال سنوات تعليمها -ثانوي عام وجامعة- “حتى تضمن استثمار تفوقها وتحقيق حلمها” -حسب المؤسسة.
خريجون بدرجة بطالة
الدكتورة داليا الشيمي -أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس- تقول إن نظرة المجتمع للتعليم الفني متدنية وترجع لموروث على مدار عشرات السنين. وذلك باعتبار خريجي أي تعليم فني أو مهني “بطالة مؤكدة” في مجتمع لا ينتج. وذلك مقارنة بالتعليم الجامعي الذي كان يضمن خريجوه قديما التعيين في الحكومة لكن حاليا تساوى الجميع في البطالة. وبالتالي من المفترض أن تبطل حجة المجتمع في التمسك بالدراسة الجامعية من باب الوجاهة وليس التعليم الحقيقي الذي يفيد سوق العمل.
وأوضحت أن أول تغيير في المجتمع وجب تعميمه هو إلغاء ما تقوم به الأندية والمدارس برفض اشتراك الدبلومات الفنية بها وعدم قبول مدارس اللغات أبناء أولياء الأمور الحاصلين على مؤهل فني متوسط بها. لأن ذلك يدفع أولياء الأمور للحصول على شهادات التعليم المفتوح للوجاهة والترقي الاجتماعي.
تفاؤل بالمستقبل.. واستثمار بمساعدة الدراما والميديا
ورغم هذه النظرة المجتمعية الرجعية تتفاءل الدكتورة داليا بتغير كل ذلك في المستقبل القريب بعد إقبال كثير من المواطنين حاليا على المدارس الفنية. وذلك نتيجة تدخل رجال الأعمال وإنشاء هذا النوع من المدارس المتخصصة كمدارس “السويدي” و”العربي”. والتي توفر فرص عمل لطلابها وتدربهم بشكل يُخفي معالم البطالة التي التصقت بسمعة خريجي هذه المدارس.
وقالت “الشيمي” إن علينا استثمار عزوف طلاب الإعدادية عن مسار الثانوية العامة والهجرة نحو المدارس الفنية المتخصصة. وذلك عبر جهود وزارات الثقافة والإعلام والتعليم والتعليم العالي فضلا عن مساعدة من أهل الدراما ووسائل الإعلام ودعم رجال الأعمال.
من جهتها اهتمت وزارتا التعليم والتعليم العالي مؤخرا بالمداس الفنية وقامت بتحويل أكثر من 70% من برامج التعليم الفني لبرامج قائمة على منظومة الجدارات. التي تستهدف ربط خريجي هذا النوع من التعليم بسوق العمل وتقوم على قياس المهارات العملية التي يكتسبها الطلاب طوال فترة دراستهم.
ويقول الدكتور محمد مجاهد -نائب الوزير للتعليم الفني- ان عمليات تقييم الامتحانات للطلاب الذين درسوا مناهجهم وفق مناهج الجدارات تكون النهاية العظمى لها 150 درجة والصغرى 75. ويحصل كل طالب على شهادة بإجادته المهارات التي درسها وفق تقدير “جدير أو غير جدير” وذلك للصفين الأول والثاني الثانوي. أما طالب الصف الثالث فيؤدي الامتحان نهاية العام ويحصل وفق تخصصه على شهادتين. واحدة باجتياز الدبلوم والأخرى بالجدارات التي اجتازها وتدرب عليها.
وأضاف أن المدارس الفنية أصبحت ترتدي ثوبا جديدا وهي المستقبل في ظل وجود تخصصات متميزة تواكب وتنافس في سوق العمل. إضافة إلى توفير فرص عمل وتلبية احتياجات المشروعات العملاقة التي تقوم بها الدولة.
الدراما والتعليم الفني
جهود الدولة في تطوير التعليم الفني يجب أن تنعكس على الدراما المصرية. هكذا طالبت الدكتورة شادية القناوي -أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس. وأضافت أنه لا بد من تغير نظرة المجتمع عبر وسائل الإعلام والمسلسلات والأفلام. بحيث لا تحقر من خريجي التعليم الفني. بل وإبراز دورهم وأهميتهم متساوين مع الأطباء والمهندسين.
وقالت: “دولة مثل ألمانيا لم تنهض إلا على أكتاف المهنيين من الفنيين. كذلك لا بد من رفع نسبة التمويل المخصص لمدارس التعليم الفني وتوفير أحدث الأجهزة وتقديم فرص عمل مميزة لهم.
ويقول حمدي السيد -مدير عام التعليم الفني بالجيزة سابقا- إن التعليم الفني لم يعد لأصحاب المجاميع المنخفضة مثل الماضي. فاهتمام الدولة بتحديث برامج التعليم الفني والتدريب المستمر جعل الإقبال عليها يتزايد. مشيرا إلى أمثلة التدريب كـ”مبادرة صنايعية الجيزة” تحت رعاية وزارة التعليم ومحافظة الجيزة. والتي تقدم دورات تدريبية في العديد من الحرف كالنجارة والتبريد والدهانات ولحام المعادن والسباكة وصناعة الصابون والملابس الجاهزة مع إعطاء شهادات خبرة.
إحصاءات رسمية
وحسب الإحصاءات الرسمية من وزارة التربية والتعليم فهناك 450 مدرسة فنية من إجمالي 2500 نفذت فيها البرامج الجديدة. وزادت مدارس التكنولوجيا التطبيقية إلى 27 مدرسة في كل المحافظات. وأدخلت تخصصات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي والحلي والمجوهرات والضبعة النووية والاتصالات.
وقال نائب الوزير للتعليم الفني إن مدارس التكنولوجيا التطبيقية العادية والدولية تحقق التطوير المنشود. ونظرة المجتمع تغيرت نسبيا وستتغير خاصة أن هذه المدارس تقبل بمجاميع أعلى من تنسيق الثانوي العام. موضحا أننا نعيش في العصر الرقمي والإنترنت وعالم جديد يستلزم ثورة في البنية الأساسية وهو ما تحتاج إليه السوق الجديدة.
التدريب المستمر للمعلمين
ولم يعد التعليم الفني قاصرا علي تحديث البرامج والمناهج. فهناك اهتمام أيضا بالمعلمين داخل المدراس الفنية عبر التدريب المستمر. هكذا يقول شريف حسان -موجه أول بالتعليم الفني. وأضاف أن الشراكات الإيجابية التي تحدث بين الشريك الصناعي ووزارة التعليم نتج عنها إنشاء المدارس التطبيقية الجديدة. وهي تجربة ناجحة لكن المهم أن يستمر تدريب المعلمين فيها على البرامج الجديدة لصقل قدراتهم وتخريج كوادر مصرية مدربة تعمل في المصانع المصرية كخطوة حقيقية نحو الإنتاج والتقدم.
الدكتور محمد عمارة -رئيس قطاع التعليم الفني بوزارة التعليم- يؤكد أن التعليم الفني تم إنصافه من قبل دستور 2014 عبر المادة 20. فهي تلزم الدولة بتشجيع التعليم الفني والتقني والتنوع فيه وفقا لمعايير الجودة العالمية.
وأضاف أن الدولة شجعت المستثمرين للاستثمار في التعليم الفني. مؤكدا أنه تم إنشاء هيئة قومية خاصة لضمان جودة التعليم الفني والسعي لإنشاء أكاديمية فنية لمعلمي التعليم الفني.
مطلوب دعاية الثانوية العامة
وأوضح أن الاستراتيجية الخاصة بتطوير التعليم الفني ترتكز على ضمان جودته وتطوير برامجه. لافتا إلى أن طالب التعليم الفني خلال السنوات القادمة سيكون مؤهلا لسوق العمل بشكل فائق.
وحول تحديد وزارة التربية والتعليم لعام 2024 لتكون جميع المناهج في التعليم الفني قد تم تحديثها وفق نظام الجدارات يقول الدكتور عمرو مصطفى -عميد زراعة القاهرة السابق- إن هذا القطاع كنز مدفون وسوف تستفيد منه مصر قريبا جدا حين يؤتي ثماره بشكل عملي. فيما تؤكد الدكتورة أنشاد عز الدين -أستاذة علم النفس بجامعة المنوفية- إن الإعلام هو المسؤول عن النظرة السلبية للتعليم الفني بعدم تسليط الضوء على الأوائل به كما يحدث مع طلاب الثانوية العامة. وأكدت أن هذا الأمر تم على مدار سنوات طويلة رسخت صورة دعائية كاذبة حول الثانوية العامة ومدى تحكمها في مصير الطالب. أظن أن حملة ترويج مماثلة مطلوبة للتعليم الفني من جهة أنه كم سيتحكم في مستقبل الاستثمار في مصر.
مدارس التكنولوجيا التطبيقية الجديدة
الدكتورة راندا الديب -أستاذ التربية بجامعة طنطا- قالت إن اللجوء إلى مدارس التعليم الفني بعيدا عن الثانوي العام من بين أسبابه صعوبة امتحانات الثانوية بلا مبرر وفي الوقت ذاته المباشرة والوضوح في امتحانات التعليم الفني. فضلا عن معاناة الطلاب وأهاليهم من الدروس الخصوصية. وأكدت أن الطلاب يفضلون حاليا أسهل الطرق للجامعة. إضافة إلى التوسع في مدارس التكنولوجيا التطبيقية الجديدة التي توجد بها تخصصات كثيرة تحتاجها سوق العمل.
تجنبا لاستعراض العضلات في امتحانات الثانوية
ومن المسؤولين إلى الطلاب نرى حسام نبيل وسعد محمد وطارق محمود -طلاب بالإعدادية- يقولون إن التعليم الفني سيكون وجهتهم بعد الإعدادية. أي نحو مدارس التكنولوجيا التطبيقية بعيدا عن مشكلات الثانوية العامة والتصريحات النارية من المسئولين وصعوبة الامتحانات. وأكدوا أن تخصصات المستقبل هي البرمجة والإلكترونيات وهي التي ستطلبها سوق العمل.
أما عادل إبراهيم الحاصل على ٩٤٪ بالإعدادية فقال إنه سيفضل الابتعاد عن الثانوية العامة ومصروفات دروسها الخصوصية. أولا حتى لا يحمل الأسرة أعباء زائدة. وأن يبتعد عن استعراض العضلات في امتحانات الثانوية بعيدا عن العملية العملية. وقال: هاتعلم مهنة بشكل كويس أحسن ما أقعد اخد مناهج مش هاستفيد بيها في الحياة العملية.