يثير الخوض في قضية العنف ضد المرأة إشكاليات معقدة، شاهدنا خلال الأيام الماضية أحد فصولها في الجريمة المعروفة إعلاميًا بـ”فتاة المنصورة”، التي انتهت بقتل الطالبة نيرة أشرف ذبحًا وطعنًا بعد رفضها الارتباط من القاتل زميلها في الجامعة.
في المنطقة العربية وفي القلب منها مصر، ليس من السهل الخوض في الأمراض المجتمعية المزمنة أو تحدي العرف والتأويل الديني لها، وخصوصًا قضية العنف ضد المرأة التي تتطلب مناقشتها جرأة كبيرة، خاصة إذا كان الأمر متعلق بفتح الملفات التي تشرعن العنف بناء على النوع أو تلك التي تطبع التمييز ضد المرأة.
ويعتبر إعطاء الرجل حق السيادة على جسد زوجته، وتأديبها وضربها في بعض التفسيرات وهي الأكثر شيوعًا، حال رفضت المعاشرة الجنسية لأسباب لا تقنعه، أو ما يسمى بـ”الاغتصاب الزوجي”، أمر يرفض المجتمع النقاش فيه، مع أنه في نظر كثيرين بذرة العنف التي تبيح للرجل حق استخدام الأذى ضد المرأة لتحقيق رغباته.
اقرأ أيضًا.. الاغتصاب الزوجي.. جريمة مسكوت عنها على فراش الزوجية
الاغتصاب الزوجي.. حقيقة أم إدعاء؟
نظرة سريعة على مجموعات “جروبات” قضايا الأسرة في مواقع التواصل الاجتماعي، نجد أنها تحفل بعشرات القصص المؤذية للفطرة، بل إن مقطع فيديو نشرته ندى عادل طليقة المطرب تميم يونس، تشرح فيه كيف تعرضت للاغتصاب الزوجي يكشف حجم الألم. وربما لهذا أكدت أنها دونت تجربتها على أمل أن تكون حافزًا لتغيير القانون والنظرة المجتمعية للقضية.
العنف ضد المرأة.. الثقافة المجتمعية والدينية
سامية علام الكاتبة الصحفية والناشطة النسوية ترى أن الثقافة المجتمعية والدينية السائدة، أهم أسباب رفض مناقشة قضية الاغتصاب الزوجي في سياق معالجة جذور العنف ضد المرأة، في وقت أصبحت فيه أغلب دول العالم ترفض الاغتصاب الزوجي.
توضح علام أن الزواج بالنسبة لنا «عقد نكاح»، بمعنى أن العلاقة بين الطرفين قوامها الرئيسي الجنس، وعقد الزواج بهذا المعنى عند الغالبية بمثابة موافقة ضمنية من المرأة على العلاقة الجنسية في أي وقت وبدون تحفظ أو اعتراض، وهذا فهم مغلوط. إذ إن العلاقة يجب أن تكون إنسانية ونفسية واجتماعية وروحية وجنسية بالطبع، لكن الأخيرة تحتاج إلى ظروف خاصة حتى يكون الطرفان مهيأين لها.
كما ترى الناشطة النسوية أن الثقافة السائدة لاتراعي أن بعض الرجال في مجتمعنا يريدون العلاقة أحيانًا وهم في غضب شديد وضيق وخلاف وصدام ناري مع المرأة حتى ينفثون من خلالها عن طاقتهم السلبية تجاها. بينما تريد المرأة قبل الدخول في العلاقة أن تكون في حالة مزاجية ونفسية هادئة ولديها الرغبة أيضًا، وبالتالي علينا أن نتصور إمرأة تتعرض للضرب والإهانة والتنكيل، وفي الوقت نفسه تصبح مؤهلة لتلبية رغبات الرجل الجنسية فورًا!!
توضح الناشطة النسوية، أن السياق المجتمعي يرتاح لروايات دينية تجرم المرأة إذا أقدمت على عصيان زوجها في أمر الفراش ويعتبرها ملعونة، ما خلق اعتقادا راسخا بأن طاعة الزوج مقدسة ومن رضا الرب وغيره من الكلام المجتزأ من سياقه، الذي لايراعي عدالة أو مساواة بين الطرفين، فقط مصالح الرجل وكفى.
كذلك تضيف: “هذه إشكالية مزمنة في المجتمع، وليس سهلًا تغييرها عبر المطالبة بحقوق متساوية للمرأة، كما تجعل من الصعب إقناع الرجل بأن هناك ما يسمى بالاغتصاب الزوجي ويجب أن يتوقف عنه باعتباره جريمة يجب أن يحاسب عليها القانون”.
تؤكد الناشطة النسوية أن الاشتباك مع قضية العنف ضد المرأة يجب أن يكون من منظور شامل وليس مجرد البحث عن مستويات مرحلية، أي نحارب العنف الأسري ثم نحارب نمط آخر. وتضيف: “حجر الزاوية محاربة العنف القائم على النوع الاجتماعي باعتباره الأساس لهذه المشكلة، والذي يجب محاربته كليًا، وهذا لن يحدث إلا برفض ثقافة الرجل صاحب السلطة والامتيازات والقرارات في الحياة المشتركة حتى ينتهي العنف من مجتمعنا”.
اقرأ أيضًا.. طليقة تميم يونس تتهمه بالاغتصاب الزوجي
التخاذل في مواجهة الثقافة المجتمعية
مكاريوس لحظي، المحامي والحقوقي يقول إنه منذ منتصف القرن الماضي بدأت الدول في تجريم الاغتصاب الزوجي بعد اهتمام عالمي واسع بهذه القضية وأول تشريع لتجريم الاغتصاب الزوجي كان في الاتحاد السوڤيتي عام 1922.
لكن حتى التسعينيات لم يكن الاغتصاب الزوجي مجرمًا قانونًا في العديد من الدول الأوروبية مثل سويسرا وألمانيا وفرنسا وأيرلندا وتركيا التي جرمته عام 2005 وكوريا الجنوبية في 2013، والآن يعتبر الاغتصاب الزوجي جريمة في أكثر من 150 دولة حول العالم، يقول لحظي ويستكمل: “لا أعرف على وجه الدقة أسباب رفض طرح هذه القضية حتى الآن في مصر، ويمكن افتراض سببين أساسيين، التخاذل في مواجهة الثقافة المجتمعية والتيارات الدينية المتشددة، والقصور في القدرة الاستيعابية لمؤسسات الدولة على التعامل مع تبعات تجريم الاغتصاب الزوجي”.
يضيف الناشط الحقوقي: “ليس عندي شك أن حسم هذا الملف أمر جوهري -إن لم يكن الأمر الأهم- في القضاء على العنف الأسري والعنف ضد المرأة بشكل عام، فما دام الرجل يعتقد أنه يملك جسد المرأة وأن إرادته عليه فوق إرادتها يصبح العنف مشروعًا والأسرُ بديهيًا والتعذيبُ واردًا والقمع والإذلال من مقتضيات ممارسة الحق”.
يختتم: “في رأيي الرهان ليس على المؤسسات الدينية أو على المجتمع، الرهان الوحيد دائمًا على الدولة. إما أن تُفسح المؤسسات الدينية المجال لمؤسسات الدولة وتؤكد سلطانها وولايتها على الأمر وعلى المجتمع أن يستجيب، وإما أن تفرض الدولة سلطانها ببساطة على كليهما”.
إشكاليات المساواة بين الجنسين
إسراء عبد الحافظ، أمين التنمية المجتمعية بحزب العدل تعتبر قضية الاغتصاب الزوجي ضمن إشكاليات ملف المساوة بين الجنسين، الملف المتخم بالأزمات وكل بنوده يساء فهمها ولايتم التعامل معها بسلاسة، بحسب ما قالت.
تضيف عبد الحافظ: “العلاقة الخاصة بين الزوجين لابد وأن تقوم علي أساس الود والمحبة والرحمة والتفاهم والحب والمشاعر والقبول من قبل الطرفين طبقًا لقول الله تعالى وقدموا لأنفسكم وهذا تشريع إلهي في هذه المسألة لايتطلب أي تأويل إضافي من الثقافة الغربية”.
استكملت: “للأسف الشديد نجد البعض يريد امتلاك المرأة والسيطرة عليها بشكل تام، بل هناك بعض الرجال يعطون لأنفسهم الحق في انتهاك جسد النساء في كل الأوقات والأحوال ويعتبروه حقهم الشرعي المباح لهم ويستخدمون قوامتهم عليها في تنفيذ ذلك”.
اقرأ أيضًا.. هل تنتهي معاناة النساء؟: نعم.. إذا تم تعديل قانون الأحوال الشخصية
توضح عبد الحافظ أهمية التربية والنشأة والخطاب الديني والثقافي في رفض منطق سيطرة الرجل علي جسد زوجته، لافتة إلى أن النساء الأكثر فقرًا وعلمًا هم الأكثر عرضة للعنف الجنسي. كما أن السيدة العاملة يعتبرها بعض الرجال مصدر تهديد نتيجة لاستقلالها المادي أو نجاحها في بعض الحالات، ويلجأون لإهانتها ومحاولات السيطرة عليها عن طريق العلاقة الجنسية بدافع الحق الشرعي.
أضافت: “للأسف الشديد لا تقر المجتمعات العربية وليس المجتمع المصري فقط بأن المرأة تتعرض في كثير من الأحيان للعنف الجنسي، ويعطون الرجل الحق في انتزاع كل ما يشاء من زوجته بأي وقت وفوق ذلك يتهموا الزوجة بالنشوز إذا رفضت أو تمردت على هذه الثقافة”.
تشدد أمين التنمية المجتمعية بحزب العدل على مسئولية الأسر في الحفاظ على أجساد بناتهن من الانتهاك. لاسيما أن أغلب من يتعرضن لعنف جنسي لايتلقين أي دعم نفسي أو معنوي من الأسرة نتيجة للثقافة الخاطئة التي تعتبر مثل هذا النوع من الشكوى “وصمة عار” خاصة في القرى وحواضن الحضر والمناطق الشعبية.
اختتمت: “لابد من طرح القضية وتشريع قانون يجرم الاغتصاب الزوجي كبداية لوأد العنف ضد النساء، وتوفير سبل الدعم لكل اللاتي تتعرضن لهذه الجريمة التي تؤثر عليهن نفسيًا وجسديًا، ولابد من تثقيف النساء بحقوقهن الزوجية من أجل تغيير الثقافات والعادات المجتمعية”.
توطين قيم الحداثة والمدنية
ماريانا باسيلي، الناشطة الحقوقية، تؤكد أن مثل هذه الملفات يسبقنا فيها العالم، كما سبقنا في تجريم الرق والعبودية، لاسيما إن كانت تمثل مكسبًا اجتماعيًا واقتصاديًا غير إنساني على هوى المجتمع.
ترى باسيلي أن السياق المجتمعي يتعامل مع الزوجة والأولاد كـ”ملكية” للأب، وأي تهديد لهذه الملكية هو تهديد لميزان القوى المجتمعي المختل بالأساس الذي فرضته مثل هذه الرؤية وغيرها، إذ لا يتصور الكثير من الرجال في مجتمعنا إنهم سيفقدون جزءا مهما من سطاتهم ونفوذهم بفتح مثل هذه الملفات.
تستند باسيلي على وقائع الحوادث الأخيرة المنتشرة وليست فقط التي يقتل فيها الرجال زوجاتهم أو التي يريدون الارتباط منهم لمجرد رفضهم، بل الحوادث التي قتل فيها آباء أولادهم لمجرد عصيانهم أو الخروج على طاعتهم. كما لفتت إلى إن طرح هذه القضايا يتعرض لإرهاب واسع في المجتمع كما حدث مع تناول التحرش الجنسي والإلكتروني.
اختتمت: “كل القضايا التي تنتصر للإنسانية تأخذ وقتًا طويلًا لحسمها، وبداية الحل في توطين الحداثة والقيم المدنية. وإن كانت هذه المصطلحات شوهت تمامًا في المجتمع، فالاستمرار في مساحة التأويل الديني للقضية والرهان على تأويلات أكثر تسامحية يعني البقاء في نفس المربع والدخول في مواجهة تأويلات أكثر تشددًا وأصولية” على حد قولها.