في إحدى التجارب، تم تقديم مجموعة من الصور إلى عدد من الأشخاص لم يتلقوا أي قسط من التعليم، كان في الصور مجموعة من الأشياء بينها علاقة واضحة من حيث الشكل، فقد كانت صور لأشياء منها بطيخة، قمر، عَجَلة، شمس، وغيرها من الأشكال ذات الطبيعة الدائرية، ثم تم توجيه السؤال للمجموعة عن العلاقة أو الشبه بين تلك الصور، لكن هؤلاء الأشخاص، المفتقرين إلى أي تعليم، عجزوا تمامًا عن تحديد أو وصف العلاقة، لم يقل أحدهم أن هذه جميعًا أشكال دائرية أو مدوّرة، بل كانوا يحدقون في الصور باندهاش، ثم يعيدون تسمية ما في كل صورة على حدة، ولم يفهموا ما علاقة البطيخة بالقمر، أو العجلة بالشمس؟
اقرأ أيضًا.. الدروشة تحكُم
استُخدمت تلك التجربة للدلالة على أن الحرمان من التعليم، قد يتسبب في عجز الإنسان عن فهم أبسط العلاقات التي قد تبدو للمتعلم بديهية للغاية، وبالتالي، ما قد يترتب على ذلك في بقاء المحروم من التعليم – في الغالبية الساحقة من الحالات- في ربقة الفقر والمعاناة، والعجز عن مواكبة المجتمع.
ولكن ما علاقة تلك التجربة، بما ورد في العنوان عن اعترافات قاتل نيرة؟
لاشك أن تلك الاعترافات التي تابعناها، والتي حاول فيها القاتل أمام المحكمة أن يطعن في سيرة ضحيّته، وأن يقلب الآية ليبدو مظلومًا قد وجدت، للأسف الشديد، من يصدقها، وحسنًا فعلت النيابة العامة، بمرافعتها التي اهتمت بتكذيب ادعاءات القاتل، حتى وإن لم يكن للقتل من مبرر، فتشويه السمعة أيضًا نوع من القتل، كما أن إظهار الحقيقة قد يفيد إذا أحسنّا استغلاله، في الوقاية من وقوع جرائم مثيلة، لكن ما علاقة ذلك بالتعليم؟
يمكن تقسيم اعترافات القاتل إلى نوعين، نوع مزيّف، حاول مؤلفوه أن يصطنعوا هالة رومانسية كاذبة، ربما من باب التعاطف الدنيء مع القاتل أو حتى لمجرد جمع “الترافيك”، وأنهوها بعبارة زعموا فيها أن القاتل طلب أن يدفن إلى جوار ضحيته.
أما النوع الآخر من الاعترافات، النوع الذي سمعناه أمام المحكمة، فهو الذي حاول فيه القاتل أن يوهم المستمعين بوجود علاقة بينه وبين القتيلة، وأنها “تخّلت عنه”، وأنه كان يساعدها، إلى آخر تلك الأكاذيب التي فنّدتها النيابة.
في الحالتين، في الاعترافات التي ألّفتها وسائط التواصل الاجتماعي، أو الاعترافات التي قيلت في المحكمة، لم تكن هناك عوائق أمام انتشارها واعتناقها من قبل الكثيرين، ومن هؤلاء الكثيرين من هم “مثقفون” لم يسعوا إلى تبيان دقة الاعترافات المزيفة ومدى صحة نسبتها إلى المتهم، بل تلقّفوها فورا مفترضين أنه قائلها، وناقشوها وعلقوا عليها من دون الرجوع إلى الأصل في تسجيلات المحاكمة، أو نصوص محاضر النيابة التي نشرتها الصحف.
وفي حالة الاعترافات التي نطق بها المتهم فعلًا، فإن الكثيرين أيضا، أكثر من اللازم، تلقفوا قول المتهم على أنه الحقيقة، لا على أنه قد يكون محض دفاع عن النفس، ولا حتى – وتلك درجة أخرى – أنه قد يكون توهّما ظنّ فيه القاتل أن له حقا في ضحيته، كما يفعل الكثير من النرجسيين. هكذا صارت اعترافات المتهم في نظر هؤلاء هي الحقيقة، من دون أن يمرروها على أي “غربال”، فإذا قال إنه “كان ينفق عليها”، قالوا: “لقد كان ينفق علىيها”، وإذا ادعى أنها تخلت عنه أو أن أمها “هي السبب!”، قالوا فورا “لقد تخلت عنه”، بل وطالبوا بمحاكمة أبويها!
اقرأ أيضًا.. صلاح في الثلاثين.. هل انتهى خداع النفس؟
في عالم تدفق المعلومات الذي نعيش فيه، وعالم محركات البحث ومكتبات الأونلاين، لم تعد ثمة حاجة كبرى إلى الحفظ والتلقين الذي كان ديدن التعليم في الزمن القديم، لكن صار الأهم في عملية التعليم، هو تربية العقل النقدي، تهيئة الطالب منذ الصغر أن يختبر المعلومة، وأن يميّز بين العلم الحقيقي والزائف، وأن يشكّ قبل أن يقبل.
حين انتشر الكبيوتر ثم الإنترنت قيل أن الأمية الحقيقية أصبحت أمية الحاسوب، واليوم – في عالم المعلومات- لا شك أن الأمية هي غياب العقل النقدي، الذي نحن بدونه لا نختلف عن الذين فشلوا في تمييز العلاقة بين الأشكال الدائرية.