في الطريق إلى القاهرة بالقرب من أحد مداخلها المتعددة، لا يمكن أن تخطئ أنفك رائحة الماشية النافقة التي تخلص منها أصحابها وألقوها أعلى قضبان السكة الحديد، خوفًا من انتقال عدوى فيروس الحمى القلاعية شديد العدوى. شريط القطار كان ملاذهم الوحيد في ظل غياب مدافن صحية يمكن الاعتماد عليها.
المربون أشعلوا النيران في ماشيتهم النافقة رغبة في تسريع تحللها لمنع معدومي الضمائر من بيع لحومها للغير على أنها لحوم طازجة. “الموضوع أشبه بإشعال النار في حزمة من الأموال”.. يقول عبدالهادي بدر، مزارع من الغربية، نفقت إحدى ماشيته التي كان يجهزها للبيع في عيد الأضحى المبارك بعد تربيتها طوال عامين كاملين.
يضيف بدر أن انتشار الإصابات بفيروس الحمى القلاعية، جاء في وقت شديد الصعوبة على المزارع الذي تحمل الارتفاع القياسي في أسعار الأعلاف منذ اندلاع الحرب الأوكرانية. إذ وصل سعر جوال الكسب إلى 600 جنيه، ليضيع على المربي قيمة الحيوان وتربيته للبيع لتصل إلى ما بين 20 و35 ألف جنيه بحسب وزن رأس الماشية.
اقرأ أيضًا.. “مش صديق الفلاح”.. مشروع الموازنة يخفض دعم المزارع 120 مليون جنيه
الحمى القلاعية والجلد العقدي.. لا علاج
بدر يقول إنه حينما تصاب الماشية بالحمى القلاعية لا علاج لها سوى “الدعاء” وبعض الأدوية البيطرية، التي تستخدم لتخفيف الأعراض كخفض درجات الحرارة وتقيحات الفم. بينما يشير إلى أن نشاط الطب الوقائي التابع لوزارة الزراعة في هذه الحالة يقتصر على تحصين الماشية في المناطق المجاورة للمنطقة التي تشهد أي إصابات في دائرة نصف قطر 10 كيلو مترات.
من ناحيتها أعلنت وزارة الزراعة تحصين 100 ألف و43 رأس ماشية ضد الحمى القلاعية والوادي المتصدع الأسبوع الماضي، فضلًا عن 6 آلاف و907 رؤوس ضد مرضى الجلد العقدي وجدري الضأن. لكن المزارعين يرون أن حملات التحصين لا يتم الترويج لها جيدًا خاصة أن كثيرا من القرى تكون تابعة لوحدة محلية بعيدة عنها وبالتالي لا تصل لجميع المربين معلومات عن مواعيد تلك الحملات.
هل تأخرت وزارة الزراعة في التحرك؟
الحمى القلاعية مرض فيروسي يصيب بشكل رئيس الحيوانات بتشكيل حويصلات على الغشاء المخاطي للقناة الهضمية والفم واللثة واللسان وعلى فتحتي الأنف وجلد ما بين حافري القدم والضرع. كما تصل نسبة النفوق في الحالات الشديدة للمرض إلى 50-70%، وهو مختلف عن “الجلد العقدي” بظهور عقد على الجلد وهزال شديد للحيوان مع إمكانية حدوث العقم أو الإجهاض للماشية ويشتركان معًا في ارتفاع الحرارة لكنه ينتقل عن طريق لدغ البعوض والذباب، وبالتالي يحتاج إلى إضافة مقاومة الحشرات الناقلة أيضًا.
يقول بدر إن الدولة حينما تسعى لجمع ضريبة الأطيان الزراعية تتوالى ميكروفونات المساجد في النداء باستمرار (الصراف في الجمعية.. من عليه ضريبة أطيان فليتوجه لتسديدها).. لكن حينما تعلق الأمر بحملات التحصين لم نجد من يعلن ذلك على الناس.
ووصل صدى أزمة نفوق الماشية إلى مجلس النواب عندما تقدمت النائبة سميرة الجزار بطلب إحاطة للحكومة حول انتشار التهاب الجلد العقدي والحمى القلاعية بين الماشية وتسببها في نفوق آلاف الماشية وخسارة كبيرة للثروة الحيوانية في مصر.
تحركات الحكومة لمواجهة المرض أدت إلى تساؤلات حول سرعة الاستجابة التي أبدتها الدولة، فحالات الإصابة متفاقمة عالميًا منذ مايو/أيار الماضي في العديد من الدول، ففي بريطانيا أعلنت الحكومة منطقة مؤقتة لمكافحة مرض الحمى القلاعية في أعقاب الحالات المشتبه فيها بين الخنازير. كما قيدت الحكومة نقل الحيوانات في منطقة نصف قطرها 10 كيلومترات.
المملكة المتحدة تحركت بسرعة فلديها ذكرى سيئة مع المرض، إذ أنه قبل 20 عامًا اضطرت إلى قتل أكثر من 10 ملايين رأس من الماشية والأغنام لاحتواء الحمى القلاعية، الذي يمكن أن يصيب الحيوانات الأخرى بالاختلاط المباشر أو حتى بملامسة الأدوات التي لامست حيوانًا مصابًا.
في أستراليا حاليًا تمارس السلطات إجراءات قوية لمنع انتشار المرض إليها من إندونيسيا من بينها تطبيق فحوصات الأمن البيولوجي لجميع المسافرين منها خاصة منطقة بالي، كالمعدات والملابس والمنتجات الحيوانية وكل من خالط قطعان الماشية.
إندونيسيا هي الأكثر تضررًا من المرض حاليًا في العالم إذ ارتفعت الإصابات هناك إلى 151 ألف حيوان في 18 إقليمًا و180 منطقة بحلول 12 يونيو/ حزيران مقابل إصابة نحو 20 ألفًا في الشهر ذاته بحسب البيانات الحكومية الرسمية. كما أعلنت الحكومة استيراد 3 ملايين جرعة من اللقاحات للمواجهة العاجلة.
الحمى القلاعية.. عترات جديدة قادمة من الخارج
تؤكد الدراسات أن مرض الحمى القلاعية يأخذ صفة “الانتشار والتفشي” فقط في بعض الدول مثل هولندا، وفرنسا، ونيبال، وأسترإليا، ولبنان، وسيريلانكا، ويوغسلافيا، والولايات المتحدة الأمريكية، وكوريا الجنوبية، وإليابان، والبرازيل، وإيطإليا، ويأخذ شكل التوطن في دول معظمها إفريقية في مقدمتها: مصر، والسودان، والصومال، وأثيوبيا، وأوغندا، وتنزانيا، وكينيا.
يقول حسين أبو صدام، نقيب الفلاحين، إن مربي الماشية عانوا من خسائر كبيرة بسبب انتشار الحمى القلاعية والتهاب الجلد العقدي؛ فالحيوانات التي تنجو من النفوق يتطلب علاجها أعباء كبيرة منها ثمن الأدوية والمقويات وأجور البيطريين، كما تفقد الماشية وزنها بصورة كبيرة مع توقفها عن تناول الأعلاف.
يصيب الفيروس بصورة أكثر الماشية صغيرة السن بضعف عضلة العضلة القلبية وتنفق خلال 12-36 ساعة بسبب إخفاق العضلة. أما الأبقار تواجه الإجهاض أو جفاف الألبان حال ما إذا نفق صغارها ما يقلل من عائد التربية على المزارع. وللمرض سبع “عترات” أو تحورات توطنت ثلاثة أنواع في أفريقيا ومصر هي “A،O”،”SAT 2”.
كانت من أشد موجات المرض التي ضربت مصر عام 2012، حينما أصيب به 94401 حيوان، بنسبة نفوق بلغت 28%، في خسارة تقدر بحوالي 33 مليون دولار أمريكي. بالإضافة إلى نقص في إنتاج اللحوم والألبان وارتفاع الأسعار وكانت تلك “العترة” في غير الموعد المعتاد لها إذ جاءت في إبريل/ نيسان بحسب منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة “الفاو”.
تدخل عترات المرض مع الماشية المستوردة وتنتشر باختلاطها بالمحلية بحسب الدراسات التي تطالب بضرورة أخذ التدابير اللازمة وزيادة التحصينات خاصة للأبقار والجاموس، والاتجاه نحو استيراد اللحوم بدلًا من الحيوانات الحية خاصة في فترات تفشي المرض، ووقف استيراد الحيوانات الحي في مثل هذه الفترات.
يُفترض ذبح الحيوانات ذبحها على مجازر حدود مصر إلا أن طاقتها الاستيعابية تعجز أحيانًا عن الوفاء بحجم الاستيراد فتدخل للسوق المحلية لتنتقل بين الأبقار والجاموس والأغنام، ومن أشهر تلك العترات SAT 2، لكن الطب البيطري يؤكد أن الحيوانات المستوردة تخضع للعزل لمدة 33 يومًا قبل السماح بدخولها للسوق المحلية.
ثقافة مواجهة الأمراض
يقول أبو صدام إن غياب ثقافة الوقاية بين المزارعين تساهم في نشر المرض فيجب عزل المواشي المنقولة من الأسواق لمدة 21 يومًا للتأكد من سلامتها، وغلق الأسواق لمنع التفشي، واتباع المربين إجراءات من بينها تغيير الملابس والأحذية قبل دخول الحظائر، وعدم سقي الماشية من مياه الترع أو القنوات الواردة منها، لاحتمال تخلص البعض من النافق بها.
لا ينتقل المرض للحوم لكنه يظل متواجدًا في الألبان لمدة 6 أيام عند 18 درجة مئوية ولمدة أسبوعين، ويوم عند 4 درجات مئوية لكنه يموت عند درجة 56 لمدة 6 دقائق و62 لمدة دقيقة و76 لمدة 7 ثوانٍ، و80 لمدة لا تزيد عن 5 ثوانٍ، ما يعني أن الغلي بدرجة حرارة 100 درجة، هو الوسيلة الأولى لمواجهته.
تنصح الهيئة العامة للخدمات البيطرية التابعة لوزارة الزراعة بإتباع عدة إجراءات لحماية الثروة الحيوانية بالمحافظات من انتشار مرض الحمى القلاعية، أولها التخلص من النافق بمدافن صحية وهي غير موجودة أساسًا في القرى، وكذلك حظر نقل الماشية الحية بين المحافظات وقصر النقل على اللحوم المذبوحة وهو إجراء لم يتم تطبيقه حتى الآن، فعربات النقل تنقل الماشية بين المحافظات بوتيرة متسارعة استعدادًا لعيد الأضحى المبارك.
لم تصدر وزارة الزراعة حتى الآن أي إحصائية عن أعداد الرؤوس النافقة أو بيانات حول الأماكن التي تم فرض حظر حولها لوجود حالات نفوق، أو حتى توجيه نصائح للمزارعين بعضها بسيط يمكن تطبيقه بسهولة ومن بينها رفع نسبة البروتين وطريقة طحن العلف لمراعاة إصابات الحلق في الحيوانات واضافة بيكربونات الصوديوم الى غذاء الماشية صغيرة السن بنسبة 4%.