في الآونة الأخيرة لم يتوقف الحديث عن العفو الرئاسي. فقد غيرت الدولة المصرية تشكيل لجنته منذ فترة قصيرة. كما أنها في هذه الآونة تدعو إلى الحوار الوطني الشامل بين كافة التيارات السياسية. وهي تداعيات تدفع إلى المطالبة بأن تسعى الدولة إلى المزيد من قرارات العفو. سواء من كان منها عامًا أو خاصًا. كما أنه من مجمل القول يجب أن تغير الدولة من نهجها في الحبس الاحتياطي، وتسعى إلى تغيير النظام القانوني له، وأن تتقيد في تنفيذه بهذا الشكل المخيف، والذي يكاد أن يعصف بالحريات، ويقزم من قرينة البراءة.
عن “العفو عن العقوبة بين المشرع والسلطة التنفيذية”، ناقش الكاتب والمحامي طارق عبد العال، في ورقة بحثية جديدة صادرة عن مركز التنمية والدعم والإعلام “دام“، مبررات العفو وتعريفه وماهيته ووضعه في التطبيق بمصر.
للاطلاع على الورقة البحثية كاملة..
في تعريف العدالة.. العقاب المرن
يقول إن فكرة العدالة تقضي بأن يكون مقدار العقاب المقرر مرنًا، بحيث يتلاءم مع درجة مسئولية المجرم في كل حالة. فقد جعل للعقوبة حدًا أدنى، بحيث يتراوح تقدير القاضي بين الحدين. ويظل القاضي في نطاق سلطته طالما لم يرتفع عن الحد الأقصى ولم ينزل عن الحد الأدنى. ولا يلتزم القاضي ببيان الأسباب التي جعلته يستعمل سلطته التقديرية على نحو معين. كما أن المحكمة الاستئنافية غير ملزمة بحكم محكمة الدرجة الأولى. بل يجوز لها مخالفته، وتقتصر رقابة محكمة النقض على قاضي الموضوع في استعمال السلطة التقديرية من حيث التزامه بنوع العقوبة وحديها الأدنى والأقصى.
وقد أقرت المحكمة الدستورية العليا بأن الأصل في العقوبة هو “أن مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، غدا أصلًا ثابتًا كضمان ضد التحكم، فلا يؤثم القاضي أفعالًا ينتقيها، ولا يقرر عقوباتها وفق اختياره. ذلك إشباعًا لنزوة أو انفلاتًا عن الحق والعدل وصار التأثيم بالتالي -وبعد زاول السلطة المنفردة- عائدًا إلى المشرع. إذ يقرر للجرائم التي يحدثها، عقوباتها التي تناسبها. فلا يكون سريان النصوص القانونية التي تنظمها رجعيًا. بل مباشرًا لتحكم الأفعال التي تقع بعد العمل بالقانون الذي يجرمها.
ويفسر هذا المبدأ بأن القيم الجوهرية التي يصدر القانون الجنائي لحمايتها، لا يمكن بلورتها إلا من خلال السلطة التشريعية التي انتخبها المواطنون لتمثيلهم، وأن تعبيرها عن إرادتهم يقتضيها أن تكون بيدها سلطة التقرير في شأن تحديد الأفعال التي يجوز تأثيمها وعقوباتها، لضمان مشروعيتها. ومن ثم كان إعمال هذا المبدأ لازمًا لتمكين المواطنين من الاتصال بتلك القيم التي يقوم عليها بنيان مجتمعهم، بما يوحد بينهم ويكفل تماسكهم اجتماعيًا، فلا يزدرونها، وإلا كان إيقاع الجزاء الجنائي عليهم لازمًا لردعهم”.
حق الرئيس في العفو عن العقوبة
يوضح الكاتب أن الدستور المصري أعطى الحق لرئيس الجمهورية في إصدار قرار بالعفو عن بعض المحكوم عليهم بعقوبات قضائية. خصوصًا في الجرائم التي يغلب عليها الطابع السياسي، وترتبط بالأوضاع الداخلية والمصالح العليا للبلاد، وتقدر القيادة السياسية أسباب العفو. بينما الأصل التشريعي لهذه السلطة هو ما جاء بنص المادة 155 من الدستور المصري. ذلك بقولها: “لرئيس الجمهورية بعد أخذ رأى مجلس الوزراء العفو عن العقوبة، أو تخفيفها. ولا يكون العفو الشامل إلا بقانون، يُقر بموافقة أغلبية أعضاء مجلس النواب”.
وهذا ما يفهم منه أنه يجوز لرئيس الجمهورية أن يصدر عفوًا عن كامل العقوبة أو أن يخفف الحكم المقضي به. على أن يصدر قرار العفو بعد موافقة مجلس الوزراء. وهو ما يختلف عن العفو الشامل الذي لابد له من صدور قانون من مجلس النواب بموافقة الأغلبية. أو بمعنى آخر أن قرار العفو عن العقوبة هو قرار لا يشترط لصدوره قانون، ويصدر من رئيس الجمهورية لمن تمت إدانته بحكم قضائي.. ويصدر قرار العفو عن العقوبة المحكوم بها، إما بإسقاطها كلها، أو بعضها، أو بأن تستبدل بها عقوبة أخف منها.
فعلى سبيل المثال، إذا كانت العقوبة الإعدام تستبدل بها عقوبة السجن المؤبد، والعفو عن العقوبة -كما ذكرنا من قبل- سواء كانت بإسقاط عقوبة الإعدام أو السجن أو الحبس أو بتخفيضها لا يشمل العقوبات التبعية إلا إذا نص قرار العفو على ذلك. مثل العزل من الوظائف الأميرية، وكذلك وضع المحكوم تحت مراقبة البوليس، ومنع التحلي بأي رتبة أو نيشان.
العفو لا يدلل على إسقاط الحقوق
والعفو في اللغة لا يدلل على إسقاط الحقوق. بل على أدائها دون مماطلة أو تسويف. والشاهد على ذلك أن العفو عن القتل يستوجب دفع الدية. وفي اتجاه آخر يرى بعض الفقهاء أن العفو مجاني، وأما الصلح فيكون على عوض. إلا أن قوانين العفو العام لا تسقط الحقوق. وقد اعتبر فقهاء المسلمين أنه ليس لولي القاصر حق بالقصاص والعفو، إنما للقاصر. ولذا يرجئ القتل والعفو لبلوغ القاصر سن الرشد.
العفو في اللغة لا يدلل على إسقاط الحقوق بل على أدائها دون مماطلة أو تسويف، والشاهد على ذلك أن العفو عن القتل يستوجب دفع الدية. وفي اتجاه آخر يرى بعض الفقهاء أن العفو مجاني. وأما الصلح فيكون على عوض. إلا أن قوانين العفو العام لا تسقط الحقوق. وقد اعتبر فقهاء المسلمين أنه ليس لولي القاصر حق بالقصاص والعفو، إنما للقاصر. ولذا يرجئ القتل والعفو لبلوغ القاصر سن الرشد.
وقد ذهب الفقيه دوجي ليون إلى أن العفو عن العقوبة ذو طبيعة إدارية أكثر من طبيعة قضائية. لكون العفو في ذاته هو قرار أو عمل إداري. ذلك لكون الحاكم حين إصداره لقرار العفو لم يكن يقصد التدخل في عمل قانوني أو قضائي.
هل العفو افتئات على أحكام القضاء؟
يتطرق الكاتب إلى النقد الذي وجه إلى العفو عن العقوبة. ذلك من منطلق أنه يمثل عدوانًا على السلطة القضائية، بالافتئات على ما تصدره من أحكام قضائية من قبل رئيس الدولة. بما يمكن أن يطلق عليه تدخل في عمل السلطة القضائية. ثم يستدرك فيقول إنه لما كان مبدأ الفصل بين السلطات لم يعد جامدًا، وإنما هو فصل مرن يسمح بالتواصل والتوافق بين جميع سلطات الدولة، فإن قرار العفو لا يصدر من رئيس الدولة بوصفه رئيسًا للسلطة التنفيذية. بل بحسبه ممثلًا للدولة بجميع سلطاتها، بما فيها سلطتها القضائية. هذا فيما يخص العفو الخاص.
أما بخصوص العفو العام أو الشامل، فإنه لا يمكن القول بأن هناك تداخل من قبل السلطة التشريعية فيما تختص به السلطة القضائية. إذ إن التشريعات التي تصدر بالعفو الشامل تعبر عن صميم اختصاص السلطة التشريعية.
كما اعتبر الفقه القانوني أن العفو لا يخل بالقوة التنفيذية لأحكام القضاء، ولا يمثل إهدارًا لحجية الأحكام القضائية. وذلك لكون استعمال العفو أمرًا استثنائيًا ولا يعول عليه كتدبير احتمالي الحدوث. إذ إن استخدامه من قبل رئيس الدولة في الغالب لا يكون إلا في مناسبات أو أعياد قومية.
مبررات العفو عن العقوبة
وعن مبررات العفو، يقول الكاتب إن أهم ما يمكن ذكره في سلطة استخدام العفو أنه يمثل فرصة ربما تكون الأخيرة لاستعمال التفريد العقابي. لما قد يطرأ على المتهم من تحسن في سلوكه. ومن المفيد اعتباره مكافأة لذلك التحسن في السلوك المرغوب فيه مجتمعيًا. وبالتالي فإنه يساهم مساهمة فعالة في تحقيق الإصلاح الذاتي للمحكوم عليهم عن طريق تهيئتهم من جديد للاندماج داخل المجتمعات كعناصر صالحة. وهذا ما يعد أمرًا متوافقًا مع السياسات الجنائية الحديثة التي تتوجه نحو إصلاح وتأهيل المحكوم عليهم.
كما أن العفو في بعض أحواله من الممكن اعتباره الوسيلة الأخيرة لإصلاح الأخطاء القضائية التي قد تشوب بعض الأحكام، والذي لا سبيل لإصلاحه بعد صيرورة الحكم نهائيًا وباتًا. وهو يمثل وسيلة لتجنب تنفيذ الأحكام القاسية والشديدة كأحكام الإعدام أو الأحكام طويلة المدة. كما أنه بمثابة طريق لتجنب اكتظاظ السجون وعدم جودتها في أغلب المجتمعات لتنفيذ السياسات الجنائية الحديثة، وإصلاح أحوال المسجونين.
ويقتصر تأثير العفو على العقوبات فقط. فهو لا يمنع من تنفيذ المصادرة المحكوم بها ولا يمس الحقوق المدنية أو التعويضات التي حكم بها لمن أصابه ضرر من الجريمة. ذلك لكون العفو بشكل عام لا يمحو عن الفعل وصفه الضار. وإذا كان للمجتمع أن يتنازل عن حقه في معاقبة الجاني أو تنفيذ العقوبة التي صدرت ضده، فليس له أن يتصرف في حق شخصي لفرد من الأفراد، أو استثناء من هذا يجوز النص في قانون العفو على سقوط الدعوى المدنية أو الحكم الصادر فيها، رغبة في عدم إثارة الجريمة على أي وجه، وعندئذ يجب على الحكومة أن تعوض من لحقه الضرر.
أما العفو عن الجريمة أو ما يطلق عليه العفو الشامل، فيلجأ إليه في الظروف السياسية عادة، ويكون جماعيًا. ولكن لا يوجد ما يمنع من إصداره عن جرائم غير سياسية، أو جريمة بعينها.
العفو الشامل والقانون
ولما كان العفو الشامل يعطل تنفيذ أحكام قانون العقوبات في معالجته أو معاقبته للجريمة محل الواقعة التي يشملها، فإنه لا يكون إلا بقانون. وعلى هذا تنص صراحة الفقرة الثانية من المادة – 155- من الدستور المصري الحالي. “لا يكون العفو الشامل إلا بقانون، ويقر بموافقة أغلبية أعضاء مجلس النواب”. وهذا ما يدعم فكرة أن العفو العام يمحو عن الفعل المؤثم صفته الجنائية. أي أنه يعطل سريان أحكام قانون العقوبات على الفعل غير المشروع الذى يشمله.
وقد يصدر العفو قبل الحكم البات وعندئذ تنقضي به الدعوى الجنائية فلا يجوز رفعها. وإذا كانت قد رفعت قبل صدور قانون العفو تثبت المحكمة سقوط الدعوى ولا تقضى بأية عقوبة، وإذا كان قد صدر في الدعوى حكم فأنه يُمحى بسقوط الدعوى. وقد يصدر العفو بعد انقضاء الدعوى بحكم بات وعندئذ يمحى الحكم، فلا تنفذ العقوبات التي تضمنها، وإذا كانت قد نفذت يزال أثرها متى أمكن ذلك، فترد الغرامة والأشياء المصادرة إلى من شمله العفو.
وعلى هذا المعنى أكدت محكمة النقض بقولها إن صدور قرار رئيس الجمهورية بالعفو عن العقوبة المحكوم بها، أثره العفو عن العقوبة المقضي بها في مفهوم المادة 74 من قانون العقوبات عمل من أعمال السيادة لا يملك القضاء المساس به أو التعقيب عليه فيما صدر إذ يتعين القضاء بعدم جواز نظر الدعوى. ويتحقق به القيد المانع من نظر الدعوى الجنائية فقط.