وُلدت في الكويت آنذاك وربما لسنوات عديدة بعدها كان الأهالي في المنطقة -خصوصًا أبناء العراق والكويت بالطبع- يتناقلون في جلسات السمر والنميمة جملة “ماكو عراق بدون صدام”. أي أنه لا وجود للجميع دون سيادة الرجل فقط.
ثمة نظرية اعتمدت آنذاك أن دمار العراق أو بقاءها مرهون بوجود صدام حسين. ستظل المأساة معنا حتى كتابة هذه السطور تتناقل تاريخ الدولة العريق على جثث أهلها. باعتبارها سلسلة من الحروب الداخلية والخارجية. وهو ما سخّرت له السينما والأدب نفسها على مدار كل تلك السنوات.
قدمت خلالها أعمالا سحبت رمزية أزمتها لتصبح صالحة لمأساة عامة يعيشها العرب باختلاف مكانهم. مأخوذة من حياة العراقيين وحدهم. كان آخرها فيلم “كلشي ماكو” متواضع الصنع القادم من رحم سلسلة من الإنتاجات العربية الصارخة التي تختزل الحرب لصراع داخلي. سياقه قصص مبتورة مفككة يمكنها الحصول على كثير من الدعم المادي بتثبيت العديد من الكليشيهات الخاصة بضيق الحال. وبالطبع بحرية خلع الحجاب التي أصبحت عربون المحبة الأول دون أي مؤامراتية في الحصول على المال.
ورغم كون الفيلم لم يقدّم أي جديد من زاوية أو سياق يبرر صناعته حتى. دون أدنى مساحة حب أصيلة فإنه يطرح الأزمة العراقية المستمرة. والتي يمكن أن تصبح مجالا حديثا واسعا عن المأساة والوضع الحالي وربما القديم. الذي على الأجيال أن تدرك فداحته.
إحصاء الموتى في العراق
يحكي الفيلم قصة “سارة” الروائية ذات الأربعين عامًا. والتي تنحني كل ليلة أمام الكمبيوتر تبحث في الإنترنت عن مكان تفجيرات اليوم السابق؟ هل كانت سيارات مفخخة أم انتحاريين؟ كم عدد الموتى والجرحى؟ تلصق نقاطا حمراء على مواقع الانفجارات فوق خارطة لبغداد معلقة فوق مكتبها.
تستمر هي في كتابة قصصها خلال سنين الحروب والحصار الطويلة. بينما ألزمها اعتياد الحرب والعنف القريب روتينا علمها الصمت. فيما تحاول أن تحمي ابنتها “ريما” ذات الأعوام التسعة مما يجري حولهما. ولكن الفتاة الصغيرة تفهم واقع حياتهما الصعبة أكثر مما تظن أمها. تتساءل “سارة” عما إذا كان من الأفضل لهما أن يتركا البلد.
قصة “سارة وريما” هي في قلب الفيلم. نرى حولهما العائلة والأصدقاء والجيران الذين يسعون أيضًا جاهدين لعيش أيام حياتهم. على مدى 7 أيام وليالٍ ستُسرد قصصهم وتتداخل في فيلمٍ سيكون تراجيديًّا أحيانًا وفي أحيان أخرى مرحا أو ساخرا، الفيلم من إخراج ميسون الباجه جي وشاركتها التأليف الدكتورة إرادة الجبوري. وبطولة دارينا الجندي “في دور سارة” وباسم حجّار ومريم عباس والممثل العراقي الشهير محمود أبو العباس.
صوت الرصاص.. خلفية حياة
في أحد مشاهد الفيلم الهادئة التي يستريح مُشاهدها من خلفية صوت الرصاص تحكي البطلة مزحة بين كلبين عراقيين. أحدهما خارج العراق والآخر داخلها. تنتهي بإخبار مَن خارجها الآخر بأن ينصحه ألّا يخرج من العراق لأنه “لن يستطع أن يعيش عيشة الكلاب الحقيقية”.
كثيرًا ما شبّه العراقيون حياتهم بحياة “كلاب الشوارع” كتوصيف للذل الأصيل والمعاناة دون غيرها. كانت الرواية العراقية الأخيرة التي قرأتها “مذكرات كلب عراقي” تبدأ من خلال قصة كاتبها عبد الهادي سعدون على لسان الكلب العراقي المدعو “ليدر”. أو ما يمكن أن يعبر عن شخصية صاحبه. وهي تذكير لتقاليد حكائية تدور على ألسنة الحيوانات. وإن جاءت بأسلوب وبنمط روائي معاصر. وعليه فهي تقارب بأسلوبها الروايات الباريسك “الصعلوكية” عبر تتبع حياة الإنسان منذ ولادته حتى موته.
يسرد البطل في مذكراته الوقائع الغريبة والأحداث العجيبة التي جرت له في 28 فصلاً: ولادته عند نهر دجلة. رفقته لصاحبه المعلم المعارض السياسي لأوضاع البلاد في ظل الحكم البعثي. رحلات الصيد. ظروف تشرده وحبسه وانفصاله عن صاحبه. فقدانه لعائلته وتهجير أشقائه ومن ثم موت معلمه على يد الغوغاء بعد أن عانى من سجون الحكم السابق.
سرد لوقائع مؤلمة
يتابع ما جاءت به الأوضاع الجديدة بعد سقوط الطاغية وما حدث للبلاد من انقلاب عصف بكل شيء. تنقلاته الكثيرة ما بين مدينة وأخرى. والكلاب التي يلتقيها في ترحاله. العصابات الكلبية. الأشقاء المبعثرون كل في جهة ومصير مختلف. الأصدقاء والأعداء المتنامين. الحب المتأخر والفقدان الدائم. حتى هروبه الأخير من البلاد والإقامة في بلد آخر “لا أريد أن أذكر له اسما” -على حد قوله. ومن ثم انتظار لحظته القادمة مركزا اهتمامه على كتابة مذكراته الكلبية هذه. كي تنفع بترك آثارها القادمين ممن يرغبون في سرد وقائع حياتهم. متأملاً “أن تكون عبرة ومثلاً لكلاب المستقبل فيما لو شاءت كتابة فصول حياتها بنفسها.
وأخيرًا يقول: “لا شيء آخر أضيفه بعد. فأقول إنني المدعو (ليدر) أدون هذه الأوراق بكامل إرادتي. وليس لي غرض منها سوى مراجعة تفاصيل ما عشته. وكأنه يمر بخيالي كشريط حي بكل مرارته وحلاوته. فمصير الواحد منا كما قال أحد البوهيميين ليس أكثر من هذه الخربشات الممهورة ببصمة مبهمة. والتي نظنها غير جديرة بالتمعن. فتكون عند غيرنا أكثر من رغبة وشهادة عن مرورنا العابر في ثقب الحياة المتأرجحة”.
حياة العراقيين والعار الأمريكي
ثمة لتفاق ضمني من عدد ليس بقليل أن العراق يعيش أهله حياة لا تُحتمل. ينتظرون الفتات. يدمرهم التشعب والتدخل الخارجي والدمار العالمي الذي كانت أمريكا على رأسه منفذيه. قتلت وحرقت وشرّدت بمزاعم لم يكن لها أساس من الصحة. وتركت الخراب يتحمله خطاب بأن الحرب أصلها داخلي. تزييف لن يبقى بالطبع.
فيلم “كلشي ماكو” عرض للعادية والمعاناة التي عاشها العراق دون عرض أصيل يؤرخ للمأساة والتدخل السياسي قبل العسكري. لكنه على كل حال يضع السينما العراقية ومأساة شعبها في الصورة المنسية.
وربما يصبح مساحة أكبر لحوار عليه ألّا ينتهي تعيه الأجيال. وعليهم أن يدركوا أن الأصل في المأساة كان الشيطان الأعظم بشكلٍ أصيل إلى جانب حماقات رئيس العراق حينها بالطبع.
لماذا تُصنع هذه الأفلام؟
لأن أصحابها يمكنهم الوجود والظهور أكثر مما يمكنهم صناعة خطاب حقيقي عن المأساة يحترم وقت مشاهده ويحاول أن يقول شيئا مهما كانت بديهيته. على ما يبدو أننا علينا أن ندرك أساسًا أنها أفضل من أن يترك الأمر للنسيان والصهينة.
“ماكو عراق بدون صدام”. كليشيه استمر لسنوات طويلة يتندر به الجميع وربما من قلبه يمكن أن تأخذنا التحليلات حول صحة الجملة من عدمها: “هل فعلًا ماكو عراق بدون صدام هو ما أوصلنا إلى أنه كلشي ماكو”؟.