النوبة تلك الأرض الجميلة ذات البيوت الملونة والأهل الودودين والموسيقى المبهجة، أو كما ينظر إليها أغلب المصريون، في نظرة قاصرة، لكونها تتجاوز ماهية النوبة الحقيقية. لكن ما هي النوبة بالنسبة لي؟
ولدت لأبوين نوبيين في بيت نوبي كان البعض يتحدث النوبية مثل عمتي وجداتي والآخرون يتحدثون العربية. اختبرت جمال الأفراح والمناسبات النوبية منذ نعومة أظافري. كان أبي يتحدث العربية ولم يتحدث مطلقًا عن النوبة إلا عند حديثه عن حرب أكتوبر واستخدام اللغة النوبية كشفرة عسكرية. كان ناصري الهوى أجبرني أن اقرأ كتب محمد حسنين هيكل عن عبدالناصر. كنت أعلم أن هناك اختلافًا ما في عائلتي فهم جميعًا داكني البشرة، يستمعون إلى موسيقى مختلفة ويتحدثون لغة مختلفة. لم أع ما معنى النوبة إلا عندما وصلت إلى الإعدادية والثانوية.
اقرأ أيضًا.. مفوضية مناهضة للتمييز
مع دخولي الجامعة أدركت أنني جيل ثالث للتهجير وأدركت معنى التهجير إلا أنني لم أدرك قسوته. تعلمت أن التهجير حدث أربع مرات في 1902 و1912 و1933 و1964. لم أفهم قسوة التهجير إلا بعد أن قرأت رواية الشمندورة لمحمد خليل قاسم أيام الجامعة. فهمت كم هو قاسي أن تقتلع جماعة بشرية من أرضها لعدة مرات مع كل مشروع تنموي وكان أقسى تهجير هو التهجير الأخير عام 1964 حيث غرقت النوبة تحت بحيرة السد العالي أو بحيرة النوبة إذا جاز لي التعبير.
صرت اهتم بكل ما هو نوبي من كتب وروايات حتى اقتربت من مجموعات نوبية مسيّسة بعد ثورة 25 يناير 2011 وبدأنا في تنظيم فعاليات في ذكرى التهجير ومزجنا بين الفن والتراث.
بعد ذلك انطلقت دعوات للاحتفال باليوم العالمي للنوبة يوم 7 يوليو من كل عام، وكذلك بسبب قدسية رقم 7 في التراث النوبي حيث يرتبط بالعديد من العادات التراثية طبقًا للراحل محمد سليمان ولياب الباحث النوبي. ورغم أن اليوم العالمي كفعالية على الأرض منعت في السنوات الأخيرة في الواقع، ولا أعلم لماذا فما هي إلا احتفاء بالثقافة والتراث. إلا أن النوبيين طوروا يومًا للنوبة على الفضاء الافتراضي من خلال منصات التواصل الاجتماعي. حيث احتفلت بعض المبادرات الثقافية مثل “نوبيان جويغرافيك” أو “نوبيج كورو” وتطبيق “نوبي” ليوم النوبة العالمي واستحدثوا الاحتفال بشهر الثقافة النوبية في يوليو من كل عام. إلا أن هاجس المنع مازال يقوض الفعاليات على الأرض، ولا يتعامل الجميع مع منصات التواصل الاجتماعي، خاصة أن هذا الرفض لا يؤدي إلا إلى الغضب.
كيف تحيي الفعاليات الافتراضية؟ تنظم فعاليات يوم النوبة العالمي وشهر الثقافة النوبية بإحياء اللغة وتعليمهم لها للجيل الثالث من التهجير مثل ترجمة الأغاني النوبية إلى العربية وكتابتها بالأحرف النوبية وتقدم المبادرة الأغاني باللهجة في مبادرة “نوبيج كورو” وكذلك “نوبيان جيوغرافيك” التي تقدم محتوى غني من التراث والتاريخ الذي يتحدث عن الإنسان النوبي وبيئته ومعماره وأزيائه وطعامه وحليّه. والعديد من المبادرات للحفاظ على اللغة والتراث والتاريخ.
لا يمكن أن أنهي المقال دون أن اتحدث على الدستور المصري وما أقره من حقوق للنوبيين، على رأسها حق العودة وحق التعدد الثقافي والانتماء الأفريقي ومادة التمييز التي أقرت مناهضة التمييز ضد اللون والعرق والمنشأ الجغرافي.
بالنسبة لحق العودة الذي أقره الدستور في المادة 236 الذي ينص على حق عودة النوبيين إلى أراضيهم الأصلية، لم تبدأ الدولة في إقامة البنية التحتية لتسهيل عودة النوبيين حتى الآن، بل أصدر الرئيس السيسي قرار جمهوري بتحويل 14 قرية نوبية جنوب السد لأراضي عسكرية لا تصلح للسكن أو التنقل. أي أن جزء من أرض العودة بات أراضي عسكرية.
كما أن مادة التعدد تتحدث عن تنوع منابع الثقافة المصرية وأن كل مكون يضيف للهوية الثقافية لمصر وهذا ما يؤكد ضرورة الحفاظ على اللغات المحلية مثل اللغة النوبية حيث تدرس بعض اللغات الأفريقية في الجامعات المصرية، ولطالما باغتني تساؤل لماذا لا تدرس اللغة النوبية بجانب اللغات الأفريقية. ولا يخفى على الجميع أن اللغة النوبية صنفت كأحد اللغات المعرضة للاندثار وبالفعل تتقلص دائرة المتحدثين بالنوبية إما بسبب السن أو انقطاع التوارث، كما حدث مع الجيل الثالث في المدن الكبرى للهجرة كالقاهرة والإسكندرية والسويس والإسماعيلية، حيث جرى انقطاع توارث اللغة بين الجيل الثاني والثالث.
أما عن المادة 53 التي تتناول مناهضة التمييز والتي أقرت عوامل للتمييز منها اللون والعرق والمنشأ الجغرافي وهي العوامل التي تهم وتؤثر في حياة النوبيين، وعلى الرغم من محاولات وزارة العدالة الانتقالية وسعى العديد من الناشطين لتأسيس مفوضية التمييز وأحيلكم إلى مقالي عن مفوضية مناهضة التمييز. رغم أن مفوضية التمييز حجر أساس لوطن حر ومتناغم.
كما يتضح للقارئ أن هناك ضمانات دستورية لحقوق النوبيين في وطنهم مصر، إلا أن الوضع يزداد سوءا على أرض الواقع إذ يبدو أن الأمور تتفاقم.
أخيرًا ولعل الأمر الأكثر تعقيدًا وهو العنصرية التي تزداد في مصر، يعاني النوبيون من العنصرية في وسائل الإعلام وفي الشارع وفي المؤسسات الحكومية. من المؤسف أن يتحول مجتمع متعدد إلى مجتمع أحادي الرؤية غير قابل للتنوع.
نهاية أتمنى أن نتمتع بمواطنة كاملة مثل باقي قطاعات الشعب المصري. وأن انتمائي للنوبة لا يتنقص من إيماني وانتمائي لمصر.