لن يكون من قبيل المبالغة وصف الساعات الأربع والعشرين الماضية بأنها ضمن الأخطر في تاريخ السودان. إذ تأتي تداعيات خطاب رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان وانسحاب المكون العسكري المفاجئ من مباحثات تشكيل الحكومة. ومن ثم إلقاء الكرة في ملعب المدنيين مؤشرات تحمل كثيرا من الجدل الذي بدا واضحًا عبر وسائل التواصل وفي تقارير الفضائيات وحديث الصحف.
ومع احتدام الصدام بين المؤيدين والمعارضين والشد والجذب حول تصريحات “البرهان” واستكمالا لمسلسل المفاجآت وكأنه “جيم جديد” بين الطرفين. أطلق مجلس السيادة الانتقالي قذيفته الثانية وأصدر بيانا أمس أعلن فيه أن رئيس المجلس الفريق أول الركن عبد الفتاح البرهان وقع مرسومًا دستوريًا يقضي بإعفاء أعضاء المجلس المدنيين من مناصبهم لتزيد مساحة التأويل والصراخ والتحذير من المؤيدين والمعارضين على حد سواء. فما الذي يريده “البرهان” بهذه القرارات؟ “إفراغ الساحة للمدنيين أم إفراغها منهم؟”.
ما قبل التصريحات.. الساعات الحاسمة
“لن نشارك في حوار الآلية الثلاثية لافساح المجال للقوى السياسية والثورية لتشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة. بعد تشكيل الحكومة التنفيذية سيتم حل مجلس السيادة وتشكيل مجلس أعلى للدفاع من القوات المسلحة. والدعم السريع مسئول عن مهام الأمن والدفاع. والقوات المسلحة لن تكون مطية لأي جهة سياسية للوصول إلى حكم البلاد”.
هذا هو نص الكلمات التي خرجت مثل الطلقات قبل يومين من الفريق البرهان -رئيس مجلس السيادة الحاكم في البلاد- وأذاعها التلفزيون الرسمي وقلب بها الطاولة على الجميع. إذ جعل الكل يبحث عن تفسير لتصريحاته وسياقها وأسبابها الحقيقية وانعكاساتها على مستقبل الحكم والحياة السياسية والاجتماعية في السودان.
أما عن السياق الزمني فقد حملت الساعات الأخيرة قبل إطلاق تصريحات “البرهان” المفاجئة تسارعا ملحوظا في الأحداث.
إذ أعلن عن تأجيل مفاجئ لزيارة رئيس مجلس السيادة إلى الفاشر عاصمة شمال دارفور لحضور حفل تخريج أول دفعة من القوات الخاصة لحماية المدنيين بالإقليم. كنتيجة للتطورات الأمنية والسياسية التي تشهدها العاصمة الخرطوم.
كان السودان قد عاش أياما صعبة في أغلب مدنه راح ضحيتها عدد من المتظاهرين تتهم القوى الثورية والسياسية المعارضة الشرطة بتصفيتهم خارج إطار القانون.
وقد دعم هذا الافتراض تداول مواقع التواصل مقطع فيديو لأحد أفراد الشرطة وهو يطلق النار على متظاهرين في شارع الستين بالعاصمة وسقوط مواطن على الأرض مضرجا في دمائه. وإن كانت الشرطة سارعت بالإدانة واعتبرت ما حدث “جريمة متكاملة الأركان“.
عقل البرهان.. ماذا يحمل للمستقبل؟
مفاجآت البرهان وسط هذه الأحداث المدمرة لم تجد تفسيرات متقاربة. إذ اعتبرها البعض تفاوضا على المستقبل بعد أشهر من الجمود السياسي والتظاهرات العنيفة التي احتلت الشوارع والساحات في الخرطوم ومدنا أخرى بالبلاد. وردود الفعل القاسية أحيانا ضد المتظاهرين. وسط تصعيد من الأحزاب السياسية والتنظيمات الثورية السودانية التي رفضت الدخول في حوار مع مجلس السيادة لتشكيل حكومة يمكنها القيام بمهام الفترة الانتقالية.
لكن على جانب آخر يرى البعض أيضا أن خطوة “البرهان” لا تقدم أي جديد بل على العكس أحدثت بلبلة للشارع السياسي. ويمثل هذا الاتجاه عدد من النخب والثوار. بل وأعضاء من مجلس السيادة القائم على شاكلة محمد حسن التعايشي الذي رفض خطاب البرهان.
بالنسبة للتعايشي ما قاله “البرهان” لا يُنهي الأزمة الدائرة في البلاد ولا يقدم أي معالجة للقضايا التي أعاقت الانتقال. بل يربك الساحة السياسية أكثر مما هي عليه.
وضع التعايشي أسسا عدة للنظر في مقترحات عبد الفتاح البرهان. إذ لا يمكن حسب رأيه إعادة تشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة قبل الاتفاق على سلطات المجلس وكيفية بناء الجيش الواحد. فضلا عن تحديد دور السلطة المدنية في عملية إصلاح القطاع الأمني ومناقشة مستقبل الشراكات الأمنية والمدنية.
عقدة أحداث أكتوبر
تسيطر على جميع أطراف النزاع في السودان حالة تشكيك وعدم ثقة منذ أحداث 25 أكتوبر 2021. والتي أطاح الجيش فيها برئيس وزراء الثورة عبد الله حمدوك واحتجازه مع عدد من القوى السياسية وإعادة تشكيل مجلس السيادة وطرح رؤية جديدة للفترة الانتقالية.
إجراءات الجيش رفضتها القوى المدنية والثورية ودعت السودانيين للتظاهر فاندلعت صدامات بين المدنيين والمؤسسات الأمنية. قُتل فيها ما يزيد على مائة قتيل منذ بدء الاحتجاجات حسب رصد لجنة الأطباء المستقلة المؤيدة للمسار الديمقراطي.
وطالت الإصابات المتظاهرين من جميع الولايات الخرطوم وأم درمان والبحري وإقليم دارفور الغربي وفي ولايتي كسلا والقضارف بشرق البلاد. وكذلك في مدينة بورتسودان.
بعد أسابيع من الاضطرابات الدامية وفي محاولة للسيطرة على الأزمة أعاد الجيش عبد الله حمدوك مرة أخرى إلى منصبه رئيسا لمجلس الوزراء. كما وعد بالإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين. لكن جموعا غفيرة نزلت إلى الشوارع لإجهاض أي اتفاق مع الجيش بتحريض من القوى الثورية. التي رفضت أي توافق مرة أخرى مع المكون العسكري. داعية إلى تسليم السلطة كاملة للمدنيين.
مع تأزم الموقف وتخندق أغلب القوى وتمترسها خلف مواقفها قرر عبد الله حمدوك في يناير الماضي الاستقالة والابتعاد باختياره. إذ فشل مشروعه الذي كان يؤيد حلاً توافقيًا إصلاحيًا لا يتبنى الصدام بين الأطراف المتصارعة وعادت الضبابية تخيم على المشهد السياسي في البلاد.
دلالات خطاب البرهان وتغير الموازين في السودان
طوال الأشهر التي تلت استقالة “حمدوك” وفي ظل واحدة من أعنف الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لم يكن هناك حل لدى مجلس السيادة مثل الذي طرح الآن. وبالتالي “ما دلالة الخطوة التي أقدم عليها البرهان وبأي قصد؟”. يتساءل المحلل السياسي السوداني شوقي عبد العظيم مع “مصر 360”.
“عبد العظيم” يقول أيضا إن رئيس مجلس السيادة كان أكثر صلابة خلال الفترة الماضية. أصر على تشكيل الحكومة رغم رفض المكون المدني.
يذهب المعارض السوداني إلى تحليل المشهد بأن السر في تغيير موازين القوى. إذ يعود لمليونية 30 يونيو التي اشتعلت قبل أيام قليلة ونقلت التأثير والتحكم في ديناميكيات الفعل السياسي والثوري للقوى المدنية ولجان المقاومة والحرية والتغيير وكل الرافضين لعسكرة السياسة في البلاد -حسب تعبيره.
وحسب المعارض السوداني أحدثت مليونية 30 يونيو هزة كبيرة في البلاد. إذ خرج مئات الآلاف للشوارع استجابة لاستدعاء لجان المقاومة والتنظيمات النقابية وبعض الأحزاب السياسية المحسوبة على الثورة. جمع بين هؤلاء الدعوة للتغيير على أسس جديدة تسقط منظومة الحكم القائمة ورفض الشراكة بين المدنيين والعسكريين في مجلس السيادة. إذ يعتبرونهم من بقايا نظام عمر البشير الذي أطاحت به الثورة قبل 3 سنوات.
https://www.youtube.com/watch?v=XGJGsDrhB8M
عن أي موازين تتحدث المعارضة السودانية؟
موازين القوى التي دعت البرهان لطرح خطابه المفاجئ لا تدور في عقل المعارضة على أسس موحدة كما يبدو من حديث شوقي عبد العظيم. إذ يرى بعض رموزها مثل صديق المهدي -عضو المجلس المركزي بقوى الحرية والتغيير- أن هناك واقعا سياسيا جديدا تم خلقه في البلاد خلال السنوات الماضية ويستند إليه قائد مجلس السيادة.
حسب “المهدي” تولدت قوى وكتل وتيارات سياسية جديدة تدعم السلطة الحاكمة الحالية وتسلمت مواقع مفتاحية في الدولة. وهذه القوى ترى أن هناك ملفات لا يمكن حلها إلا عن طريق مجلس السيادة والقيادات العسكرية. ومن هذا المنطلق لن تترك الساحة.
وهذا يعني أن انسحاب البرهان “تكتيكي” ولن ينعكس بالتبعية على تمترس القوى السياسة الداعمة له والتوحد مع التنظيمات التي فجرت الثورة على أهداف التحول الديمقراطي.
المبادرة الأمريكية السعودية وتغيير أوراق اللعبة
طرح صديق المهدي رؤيته للأزمة يتفق معه كثيريين في المعارضة. بل قد لا يختلف معها المحلل السوداني شوقي عبد العظيم. لكن الأخير يرى أن المبادرة الأمريكية السعودية التي جاءت على عكس توقعات كثيريين تضع المكون العسكري في مأزق شديد وتصعب من خياراته المستقبلية للتعامل مع الإشكاليات المعقدة للواقع السوداني في الداخل والخارج.
كان لقاء نسق له مساعدة وزير الخارجية الأمريكية للشئون الأفريقية مولي في وسفير المملكة العربية السعودية بالخرطوم علي بن حسن جعفر عقد بمنزلِ السفير السعودي في ضاحيةِ كافور. وذلك للتباحث حاول أهمية وضع الجميع أمام ضرورة التوافق على حتمية بناء مستقبل ديمقراطي للبلاد. تلبية لرغبة الشارع السوداني الذي يظهر للعالم يوميًا إصرارًا كبيرًا على دفع ثمن مناسب للحرية.
محاولة لبناء الثقة في السودان
جمعت المبادرة السعودية الأمريكية المكوّن العسكري والمدني وجهًا لوجه لأول مرة منذ تسعة أشهر. وذلك في محاولة لإعادة بناء الثقة بينهما بعد فشل الآلية الثلاثية التي تضم الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية بشرق أفريقيا – إيجادـ التي انطلقت يونيو الماضي في تقريب وجهات النظر وتحقيق هذا الهدف.
حسب شوقي عبد العظيم لم يعد أمام “البرهان” إلا إعادة تدوير الرؤية التي طرحت فور خلع البشير. إذ لم يكن الجيش يمانع في منح المدنيين الأهلية الكاملة في تشكيل حكومة تنفيذية تخرج البلاد من أزمتها. لكن تحت سلطة مجلس سيادة يضع الخطوط الحمراء ويتولى تنسيق المعادلة الأمنية داخل وخارج البلاد.
ويبرهن المعارض السوداني على استمرار الرؤية ذاتها لدى المكون العسكري بغض النظر عن طرحها في قالب جديد. فالإمساك بخيوط السيادة وموازين القوى داخل التشكيلات الأمنية بنظر مجلس السيادة يحتاج إلى عسكريين يفهمون طبيعة تعقيدات إرث نظام البشير. والتي تتطلب سنوات طويلة لتوحيد المؤسسة العسكرية وإنهاء المخاطر التي تواجه الأمن القومي للسودان -حسب “عبد العظيم” الذي يضيف: “هذه المرة رمى البرهان الكرة في ملعب القوى المدنية التي غلب عليها الصراع والاختلاف والصدام خلال السنوات الماضية. خصوصًا في الاتفاق على البناء. شكل النظام السياسي والهوية وأولويات الاقتصاد والعدالة الاجتماعية والعلاقات الخارجية والموقف من التطبيع مع إسرائيل. وغيرها من الإشكاليات التي عرقلت المراحل الانتقالية في كل بلدان الربيع العربي وليس السودان وحده”.
ويختتم مؤكدًا أن هناك أزمة تنتظر الشارع الثوري السوداني إذا لم يعرف كيف يتعامل مع دلالات خطاب “البرهان” بحذر شديد. فرئيس مجلس السيادة استطاع حل مشكلته أمام المجتمع الدولي وترك أمر تشكيل الحكومة للمدنيين.
وإذا فشلوا في المهمة سيقفز الخيار الثاني مباشرة وهو تشكيل حكومة تصريف أعمال بعدد من الأهداف. منها تنظيم انتخابات شاملة لن تكون بالطبع في صالح القوى الثورية حال فشلها في تشكيل حكومة مدنية على أهداف عدة. في المقدمة منها تسليم السلطة كاملة للمدنيين.
لماذا نظرية المؤامرة؟
تأويلات المعارضة يختلف معها الموالون للدولة أو الذين يقفون على خط واحد مع سياسات مجلس السيادة. ومنهم عثمان الميرغني -الكاتب الصحفي والمحلل السياسي السواداني- الذي يملك وجهة نظر أخرى. إذ يقتنع “الميرغني” أن أولى خطوات علاج المريض إقناعه بخطورة مرضه لإنجاح خطة العلاج.
القضية بنظر المحلل السياسي أبسط من تأويلات المعارضة المعقدة. فخطاب “البرهان” طرح الحل السحري للأزمة: تشكيل حكومة توافقية وبمجرد نجاح المدنيين في المهمة سيعني ذلك فض وانهيار الشراكة مع مجلس السيادة الحاكم خلال 24 ساعة وفقا لخطاب البرهان.
ستختار القوى المدنية فور تشكيل الحكومة مجلس سيادة ـمدنيا بالكاملـ ينظر في كل القضايا المعقدة التي اختلف عليها. ويصبح بإمكانه إلغاء كل القرارات التي صدرت من العسكريين خلال السنوات الماضية وفجرت غضب القوى الثورية. وبدورها أشعلت الشارع. إذًا أين المشكلة؟. يتساءل الميرغني.
البلاد تمر بحالة مواجهة. توقفت المفاوضات ومسلسل تنظيم الاعتصامات التي ينتج عنها شلالات من الدماء يستكمل فصوله. دعوات عصيان مدني وزحف على مؤسسات الدولة لتسلمها ولا أحد يعرف كيف يمكن ذلك وبأي فاتورة.
يحدث ذلك في وقت يضع مجلس السيادة الرواية كاملة في خندق المدنيين. يدونون فصولها كيفما شاؤوا. يطالبهم بتشكيل حكومة بينما يتحجج المدنيون بأن “العسكري” يعرف جيدًا أنهم لن يتفقوا. فيتساءل “الميرغني” من جديد ويترك الإجابة بين قوسين للقوى الثورية والسياسية أمام الشارع السوداني والمجتمع الدولي: “إذا لم تتفقوا إذا المشكلة في زاوية من؟ العسكري أم المدني؟”.