منذ أن أطلقتها أم كلثوم في 4 فبراير عام 1971، مثلت أغنية “القلب يعشق كل جميل” الدلالة الفنية الأكبر على حلول عيد الأضحى.. سهولة كلماتها، وقربها من الجمهور الواسع منحها تفوقا جماهيريا على قصيدة “إلى عرفات الله” لكوكب الشرق نفسها، ووهبتها موسيقى رياض السنباطي مزيجا من البهجة والتصوف والروحانية تجاوزت رائعة ليلى مراد “يا رايحين للنبي الغالي”.. كيف لا وقد اجتمع لها ثلاثي جبار: كلمات بيرم التونسي، وألحان فيلسوف النغم رياض السنباطي، وصوت مطربة العرب الكبرى.
اقرأ أيضًا.. الحجاب في أبعاد أخرى
ولعل أعجب ما في كلمات الأغنية، أنها –وللوهلة الأولى- تعطي انطباعا بأنها عمل عاطفي، يتكلم عن الحب، وعشق الجمال، وقلة المحبين الصادقين، وقصر عمر قصص الحب التي لا تدوم إلا “يوم ولا يومين”.. وبعد أن يحيا المستمع في هذه الأجواء العاطفية المعتادة في الأغاني، تتدحرج به كلمات بيرم سريعا، لتنقلب الأغنية إلى عمل صوفي خالص، يتحدث عن حب الله، الذي يدوم ولا ينقطع، ولا يعاتب التائبين أو يلومهم، ومن هذه المشاعر الدينية الفياضة يطير المستمع بكلمات بيرم إلى المشاعر المقدسة، في المسجد الحرام، والروضة النبوية الشريفة.. لنصبح أمام نص نادر المثال في تاريخ الغناء العربي المعاصر، وفكرة تتفجر بالنضارة والحيوية مع ضربات الإيقاع المتصوف.
نصيا، تندرج الأغنية تحت قالب “الطقطوقة”، فلها مذهب متكرر، هو “دعاني لبيته.. لحد باب بيته.. واما تجلالي.. بالدمع ناجيته.. وبعد الاستهلال، يمكن أن نقسم الأغنية إلى ثلاثة مشاهد: الأول يحكي قصة العلاقة بين العبد والرب، بين الابتعاد والتقصير الإنساني، وبين النداء الإلهي بالعودة والإنابة: كنت ابتعد عنه.. وكان يناديني.. ويقول مسيرك يوم خضع لي وتجيني.. طاوعني يا عبدي.. طاوعني انا وحدي.. ما لك حبيب غيري.. قبلي ولا بعدي.. أنا اللي أعطيتك.. من غير ما تتكلم.. وانا اللي علمتك من غير ما تتعلم.. واللي هديته إليك.. لو تحسبه بإيديك.. تشوف جمايلي عليك.. من كل شيء أعظم.. سلم لنا تسلم.
ويصور المشهد الثاني زيارة مكة المكرمة، ومشاعر الأمن والراحة التي تغمر كل من يدخل المسجد الحرام.. وتصف حمام الحرم الذي يطير مرحبا بالحجاج، كأنه بشرى بالغفران والقبول: مكة وفيها جبال النور.. طلة على البيت المعمور.. دخلنا باب السلام.. غمر قلوبنا السلام.. بعفو رب غفور.. فوقنا حمام الحما.. عدد نجوم السما.. طاير علينا يطوف.. ألوف تتابع ألوف.. طاير يهني الضيوف.. بالعفو والمرحمة.. واللي نظم سيره.. واحد ما فيش غيره.. دعاني لبيته.. لحد باب بيته.
وفي المشهد الثالث والأخير، بقدم بيرم وصفا رائعا لزيارة المسجد النبوي، والروضة الشريفة: جينا على روضة.. هلا من الجنة.. فيها الأحبة تنول.. كل اللي تتمنى.. فيها طرب وسرور.. وفيها نور على نور.. وكاس محبه يدور.. واللي شرب غنى.. وملائكة الرحمان.. كانت لنا ندمان.. بالصفح والغفران.. جايه تبشرنا.. يا ريت حبايبنا ينولوا ما نلنا.. يا رب توعدهم.. يا رب واقبلنا.. دعاني لبيته.. لحد باب بيته
ولا نحتاج جهدا كبيرا لإدراك قدرة بيرم الهائلة على صياغة المعاني الكبيرة في جمل قصيرة رشيقة.. وكذلك قوته في العودة بالكلام ليتصل بالمذهب المتكرر، وبعبارات تلائم كل غصن، وبلغ ذروته في هذا الجانب مع قوله عن حمام الحرم: واللي نظم سيره.. واحد مفيش غيره.. دعاني لبيته.. لحد باب بيته.
لحنيا، قدم رياض السنباطي صياغة خلت تماما من كل أشكال التعقيد النغمي الذي اعتاده الرجل في ألحانه.. عمل يهيمن عليه مقام البياتي، مع تطعيم كل غصن بجملة من مقام الراست، وأحيانا النهاوند، مع الأخذ في الاعتبار تغير درجات ركوز البياتي.. تبدأ المقدمة الموسيقية النشطة والمبهجة بإيقاع المقسوم، والواحدة الصغيرة، ثم يسيطر إيقاع الواحدة الكبيرة على الأغصان الثلاثة، مع جزء مرسل بلا إيقاع “أدليب”.
ورغم هذه السهولة، جاء اللحن في غاية القوة والتماسك، ومعه بثه المتكرر في الإذاعات والتلفزات العربية، أصبح عنوانا على عيد الأضحى، وأخذ بعدا أيقونيا في التذكير بشعائر الحج، وزيارة المسجد الحرام، والمسجد النبوي.. صارت مقدمته جزءا من الوجدان الشعبي، ترسم البسمات على الوجوه وتثير مشاعر الشجن خلال ثوان قليلة من الاستماع إليها.
حين قدمت أم كلثوم الأغنية لأول مرة، كانت قد بلغت 72 عاما.. وقفت السيدة الكبيرة على مسرح دار سينما قصر النيل، وبدأت فرقتها في عوف المقدمة الموسيقية، ثم أرسلت أم كلثوم صوتها المختمر المعتق الضارب في جذور الزمن ستة عقود من الغناء.. بل من التربع على عرش الغناء.. هزت المفاجأة الجماهير، وسالت الدموع من أعين الملتفين حول أجهزة الراديو من بغداد إلى الرباط.. قالت سيدة الطرب: أنا مازلت هنا، رغم المرض، وتقدم السن.
شدت أم كلثوم بالأغنية في أربعة محافل، ثلاثة منها بدار سينما قصر النيل، ومحفل على مسرح وزارة الدفاع بأبو ظبي، وهو التسجيل التجاري الشائع الذي طبعته شركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات.
وكانت المرة الأخيرة التي تؤدي فيها أم كلثوم هذه الأغنية على مسرح سينما قصر النيل، في 4 يناير عام 1973، وقد تجاوزت 74 عاما.. وكانت هذه وقفتها الأخيرة على المسرح، وختام رحلتها مع الجماهير العربية.. كان صوتها واهنا جدا، ولامستها “الحشرجة” أكثر من مرة، فلم تجد من الجماهير إلا ما اعتادته من تصفيق حاد وتشجيع كبير.. كان باديا للحضور أن هذا هو حفل الوداع.
كانت مصر في بداية العام 1973 تستعد لمعركة تحرير سيناء.. وفي هذا الحفل الأخير، لم تغب هذه الأجواء عن أم كلثوم، فأعادت جملة: يا رب توعدهم يا رب.. يا رب واقبلنا.. فجعلتها يا رب وانصرنا.. ولاقت الاستحسان الفوري من جماهيريها.. وبعد مرور أكثر من نصف قرن على إطلاق “القلب يعشق” بقيت الأغنية حية في الوجدان العربي، لا تزيدها الأيام إلا رفعة وتقديرا.. ومع كل استماع تمتلئ النفس بمشاعر التقدير والإجلال لشاعر الشعب بيرم التونسي، ولعملاق اللحن رياض السنباطي.. ولصاحبة الصوت الخالد أم كلثوم.