تابعت مصر جميعها منذ اللحظة الأولى لوقوع جريمة مقتل طالبة جامعة المنصورة المرحومة/ نيرة أشرف، على يد زميل لها بذات الجامعة، والذي تمت إحالته للمحاكمة أمام محكمة الجنايات خلال أيام معدودة، في ملاحقة قضائية تكاد تكون هي الأسرع في التاريخ القضائي المصري، إذ أن دوام فترة التحقيقات والمحاكمة لم يتعد أسبوع حتى أن صدر الحكم بإعدام المتهم.
اقرأ أيضًا.. ورقة بحثية جديدة لـ”دام”: العفو عن العقوبة بين المشرع والسلطة التنفيذية
وفي البدء لابد وأن نؤكد أننا لسنا مع تطور ظاهرة العنف المجتمعي، خصوصًا ما يقع منها من الرجال على النساء، أيًا ما كانت مبرراته أو دوافعه، كما أننا ندفع دومًا إلى أن تحظى المحاكمات الجنائية بشئ من التطور في الأداء والسرعة في الإنجاز، وهو ما يسمى بالعدالة الناجزة، ولكن وبأي حال من الأحوال لا يمكن أن تكون العدالة الناجزة أو سرعة المحاكمات دافعًا أو مبررًا لإهدار ولو القدر القليل من حقوق المتهم في محاكمة عادلة تضمن له خلالها كافة الضمانات القانونية المقررة للمتهم، بداية من الحفاظ على سلامته الجسدية والنفسية، وتشمل كذلك حقه في إبداء دفاعه كاملًا غير منتقصًا، حتى ولو كلف الأمر مزيد من الجهد والوقت.
ولعل معظم متابعي محاكمة/ محمد عادل قاتل نيرة، لاحظ ما به من إصابات، ومنها ما هو ظاهر في الوجه، ألم يكن ذلك داعيًا إلى إحالته إلى المستشفى لتلقي العلاج كإنسان له حقوق، حتى ولو كان متهم، ما دمنا قد آمنا بأن العدالة تأخذ مجراها، وهذه واحدة، والثانية بخصوص حالة المتهم، فقد لاحظ جميعنا من خلال ما تيسر من لقطات متلفزة لمحاكمته وخصوصًا في جلستها الأولى أنه يجلس على كرسي، وهو ما يعني أن حالته لا تسمح بالوقوف، وهو ما يؤكد ما سبق من ضرورة الحفاظ على حقه في الرعاية الصحية، قبل أن تتنم محاكمته.
أما عن المحاكمة ذاتها، وبعيدًا عن الحكم المقضي به، وما بين مؤيد معارض لعقوبة الإعدام، إلا أنه هناك مجموعة من الحقوق والضمانات الإجرائية التي يجب في جميع الأحوال الحفاظ عليها للمتهمين جميعهم، يأتي في مكانة الرأس من الجسد منها حق المتهم في الدفاع عن نفسه، وأن يتمتع دفاعه بكافة ضمانات الحرية فيما يبديه من أوجه دفاع، ومن هنا أسرد لكم بعض ما جاء بمرافعة النيابة متعلقا بحق المتهم في دفاعه، فقد وجهت النيابة القول لدفاع المتهم بقولها: “إن النيابة تطالب دفاع المتهم من واقع شرف المهنة التي يمارسها أن يعفي نفسه من الدخول في مهاترات تفتح علينا باباً من المرافعات تؤجل من الردع العام في القضية”.
فهل هذا القول يصح أن يصدر من النيابة، التي أزعم أنها من الأوجب عليها أن تكون أحرص على توافر كافة الضمانات في المحاكمات الجنائية، ضمانًا لحسن تطبيق القانون، وإعمالًا لمبدأ سيادة القانو، ولكن أن يكون حديثها موجها بدفع دفاع المتهم بالتخلي عن بعض أوجه دفاعه، حتى يتحقق الردع العام الذي تسعى له النيابة، حتى ولو سايرناها في هذا المنحى فإن الردع العام لا يحقق الأمان المجتمعي، وأن هذه النظرية العقابية قد تغيرت كثيرًا واصبح هناك نظريات تسعى للإصلاح وليس الدرع، وبعيدًا عن كل هذه الاختلافات، فهل تكون المحاكمة سليمة إذا تخلى الدفاع عن واجبه، بأن اقتصر دفاعه على بعض الأوجه دون البعض الآخر.
أم أن ذلك يمثل بالفعل ممارسة واقعية للحق في الدفاع، الذي عنته المحكمة الدستورية العليا حين قالت في الحكم رقم 6 لسنة 13 دستورية: ولقد غدا أمرًا مقضيًا أنه إذا كان حق الدفاع -في هذا المجال- يعني في المقام الأول حق المتهم في سماع أقواله، فإن حق الدفاع يغدو سرابًا بغير اشتماله على الحق في سماعه عن طريق محاميه، ذلك أن ما قد يبدو واضحًا في الأذهان لرجال القانون، يكون شائكًا محاطًا بهالة كثيفة من الغموض بالنسبة إلى غيرهم، أيًا كان حظهم من الثقافة وبوجه خاص إزاء الطبيعة المعقدة لبعض صور الاتهام وخفاء جوانبها المتعلقة بالقواعد التي تحكم الأدلة بما يعزز الاقتناع بأنه بغير معونة المحامي الذي يقيمه الشخص باختياره”.
كما أن هناك العديد من العبارات التي وجهتها المحكمة للمتهم، أرى أنها لم يكن لها محلًا في المحاكمة، سوى أن الجميع قد وقع أسيرًا لضغوط الرأي العام، كذلك الشغف في متابعة تلك القضية، وكأننا نحاكم المتهم وفق قواعد اجتماعية، وليس وفق قواعد وأسس قانونية ودستورية ارتضاها الجميع لتسود الدولة كسياق قانوني حاكم للكافة. فكان الأجدر أن تحيل المحكمة المتهم للطب الشرعي لبيان مدى سلامة قوته العقلية والنفسية، وهو أمر مهم في مثل هذه القضايا.
وحتى يستقيم الموضوع، فإننا لا ندعم عدم محاكمة المتهم، أو ندعو لأي منطق مغاير لغة القانون، لكنه القانون في مسماه الكلي، وفي قواعده العمومية، الإجرائية منها والموضوعية، وخصوصًا تلك التي تضمن كافة حقوق المتهم في محاكمة عادلة، بغض النظر عن العقوبة التي ستقضي بها المحكمة، مادامت إجراءات المحاكمة كانت سليمة ومتوافقة ونصوص الدستور والقانون.