لم يكن من قبيل المصادفة أن يدعو رئيس وزراء إسرائيل يائير لابيد جميع دول الشرق الأوسط إلى بناء علاقات مع بلاده. بعد ساعات من نشر الرئيس الأمريكي جو بايدن مقالا في صحيفة “واشنطن بوست” يتباهى فيه بأنه سيكون أول رئيس أمريكي يطير من إسرائيل إلى المملكة العربية السعودية. في “رمز صغير للعلاقات الدافئة بين إسرائيل والعالم العربي.. وخطوات نحو تطبيع العلاقات”.
ملف التطبيع بين الرياض وتل أبيب والذي حرص البلدان على أن يظل في حدود الكتمان منذ محاولة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر ترتيب أوراقه قبل إتمام الاتفاقات الإبراهيمية بين دولة الاحتلال وعدد من دول الخليج نهاية عام 2020 خرج إلى العلن. وصار الحديث عن لقاءات وزيارات وتسهيلات أمرا مألوفا لا يسترعي التوقف والتحقق.
بدعوى مواجهات الأخطار والتهديدات الإيرانية المحتملة شرعت المملكة التي ينظر إليها باعتبارها مهد الإسلام وقبلة المسلمين في تسويق تخريجات وتبريرات مباشرة وغير مباشرة تمهيدا لإقامة علاقات طبيعية مع دولة الاحتلال التي رفضت كل دعاوى “السلام العادل”. ولم تستجب حتى لمبادرة السلام العربية التي طرحها العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز حينما كان وليا للعهد في 2002.
ورغم أن الرياض قدمت حينها تنازلا غير مسبوق بقبولها اعتراف جميع الدول العربية بإسرائيل وإقامة علاقات طبيعية معها. شريطة انسحاب الاحتلال من كامل الأراضي العربية المحتلة والتوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين وقيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود ما قبل 5 يونيو 1967 تكون القدس الشرقية عاصمتها فإن دولة الاحتلال ظلت على منهجها في القتل والتدمير والمراوغة والتلاعب.
تسللت إسرائيل إلى محيطنا العربي وتمكنت من إلحاق دول خارج دائرة الطوق بقطار التطبيع وتوقيع اتفاقيات معها قائمة على مبدأ “السلام مقابل السلام. أو السلام مقابل الحماية الوهمية من التهديدات الإيرانية”. أي السلام مقابل اللا شيء. ويبدو أن ولي عهد المملكة يستعد للحاق بالقطار الإسرائيلي عسى أن يساعده في نيل الرضا الأمريكي حتى يعتلي العرش دون ممانعة أصحاب الحل والعقد الحقيقيين.
خلال افتتاح اجتماع الحكومة الأسبوعي قبل يومين قال “لابيد”: “من إسرائيل ستنطلق طائرة الرئيس الأمريكي إلى السعودية وستحمل معها رسالة سلام وأمل منا”. مدعيا أن بلاده “تمد يدها إلى جميع دول المنطقة وندعوها إلى بناء وتأسيس علاقات معنا وتغيير التاريخ من أجل أطفالنا”.
أما “بايدن” فقال في مقاله “لماذا سأذهب إلى المملكة العربية السعودية” إنه سيقوم بالرحلة من إسرائيل إلى جدة. حيث سيجتمع بالقادة من جميع أنحاء المنطقة. ما يشير إلى “إمكانية تحقيق شرق أوسط مستقر ومندمج أكثر وحيث تلعب الولايات المتحدة دورا قياديا حيويا”.
ومن المتوقع أن يضغط “بايدن” في زيارته التي سيلتقي خلالها محمد بن سلمان من أجل زيادة إنتاج النفط على أمل ترويض أسعار الوقود المتصاعدة والتضخم في الولايات المتحدة.
ورغم تعهدات “بايدن” السابقة بمعاملة السعودية على أنها دولة “منبوذة” بسبب سجلها الحقوقي وجريمة اغتيال وتقطيع أوصال الكاتب الصحفي السعودي جمال خاشقجي عام 2018 فإن تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا دفعت إدارة الرئيس الأمريكي إلى تغيير نهجه تجاه المملكة. نظرًا لمركزيتها في سوق النفط وإمكانية تعزيزها اندماج إسرائيل في المنطقة.
تشجيع الدول العربية على تعزيز العلاقات الأمنية والعلاقات الشاملة مع إسرائيل هو أحد أهداف زيارة بايدن إلى المنطقة بحسب ما أفاد المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي يوم الخميس الماضي.
“كيربي” أشار إلى أن بلاده تواصل العمل على أُطر وقدرات دفاع جوي متكاملة في كل أنحاء المنطقة. بسبب “مخاوف تتعلق بإيران وقدراتها المتزايدة والمتنامية في مجال الصواريخ الباليستية. ناهيك بدعمها المستمر للإرهاب في أنحاء المنطقة”.
“كيربي” أعلن أن واشنطن تحدثت بشكل ثنائي مع أصدقائها في الشرق الأوسط بشأن قدرات الدفاع الجوي: “نستكشف فكرة دمج هذه القدرات في إطار مشترك لتوفير تغطية جوية أكثر فاعلية للتعامل مع التهديد الإيراني المتزايد”.
تصريحات “كيربي” كشفت الترتيبات التي حاولت كل الأطراف التنصل منها قبل أيام. وبدلا من الاتفاق على تأسيس حلف عسكري شرق أوسطي “ناتو الشرق الأوسط” يشمل إسرائيل وأصدقاءها تحت مظلة أمريكية لمواجهة الخطر الإيراني المحتمل. جرى تغيير الاسم ليصبح أخف وطأة وأطلق عليه “منظومة دفاع جوي مشتركة”.
وكالة “رويترز” نقلت عن أربعة مصادر مطلعة قولها إن الولايات المتحدة وإسرائيل تسعيان إلى تهيئة الأجواء وتمهيد الطريق أمام تحالف أمني مع دول عربية يربط أنظمة الدفاع الجوي بينها. في مواجهة الهجمات الإيرانية بالطائرات المسيرة والصواريخ في الشرق الأوسط.
وقال مصدران على دراية بالخطة إن الفكرة التي ستعتمد على استخدام التكنولوجيا الإسرائيلية قد تكتسب قوة دافعة جديدة خلال رحلة الرئيس الأمريكي للمنطقة. وقال مسئول إسرائيلي لـ”رويترز” إن الدول المشاركة تجعل أنظمة الدفاع الجوي الخاصة بها تعمل بالتزامن من خلال الاتصالات الإلكترونية عن بعد دون استخدام المنظومات نفسها.
وقال مصدر مطلع في واشنطن إنه في حين أن بايدن سيناقش التنسيق الأمني الإقليمي الأوسع نطاقا والذي يشمل إسرائيل حليفة واشنطن الوثيقة في القمة الخليجية فمن غير المتوقع الإعلان عن اتفاق رسمي.
وبحسب ثلاثة من المصادر تتضمن الخطة إقامة شبكة رادارات وأنظمة رصد واعتراض بين السعودية وسلطنة عمان والكويت والبحرين وقطر والإمارات والعراق والأردن ومصر. بمساعدة التكنولوجيا الإسرائيلية والقواعد العسكرية الأمريكية.
وتتيح المنظومة لهذه الدول -وخاصة إسرائيل والسعودية والإمارات- رصد التهديدات الجوية قبل الوصول إلى حدودها.
ورغم الضغط الأمريكي باتجاه التعاون في مواجهة إيران هناك مقاومة في دول عربية مثل العراق وقطر والكويت لمثل هذا التوجه. وقالت مصادر “رويترز” إن المناقشات ما زالت في مرحلة مبكرة وإن الفكرة تواجه بالفعل معارضة في عواصم عربية عدة ترفض التعامل مع إسرائيل.
وكانت فكرة تأسيس ناتو شرق أوسطي قد تراجعت إثر استئناف المفاوضات النووية مع إيران في العاصمة القطرية الدوحة. إلا أن عدم إحراز أي تقدم في تلك الجولة أعاد إلى الواجهة الحديث عن تأسيس منظومة الدفاع الجوي المشترك وتوسيع اتفاقيات التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل. وهي محاولة ضمن محاولات أخرى للضغط على طهران للقبول بالشروط الغربية في أي جولة تفاوض جديدة بحسب ما ذهب إليه محللون إيرانيون.
موقع “أكسيوس” الأمريكي نقل عن 4 مصادر أمريكية مطلعة أن البيت الأبيض يعمل على “خارطة طريق للتطبيع بين تل أبيب والرياض” قبل زيارة بايدن إلى الشرق الأوسط. مشيرا إلى أن الإدارة الأمريكية عززت التقدم في دفء العلاقات بين إسرائيل والعالم العربي بعد أن نجحت الإدارة السابقة في توقيع اتفاقيات إبراهام بين إسرائيل و4 دول عربية.
وقالت المصادر الأمريكية الأربعة إن البيت الأبيض عقد اجتماعات مع خبراء بمركز أبحاث حول خارطة طريق التطبيع بين دول المنطقة وإسرائيل. وأشارت إلى أن الإدارة الأمريكية بدأت بالفعل تمهيد الطريق للمضي في هذا الاتجاه.
ويعتقد البيت الأبيض وفقا لمصدر آخر أن خريطة التطبيع بين المملكة وتل أبيب ستستغرق وقتا وستكون علمية طويلة الأجل. “لكنهم يعملون على أن تكون عملية تدريجية”.
ونقل “أكسيوس” تصريحات سابقة لولي العهد السعودي قال فيها إن بلاده “لا تنظر إلى إسرائيل كعدو بل كحليف محتمل في العديد من المصالح التي يمكننا متابعتها معا. لكن يجب حل بعض القضايا قبل أن نتمكن من الوصول إلى ذلك”.
وتعمل الولايات المتحدة على إتمام نقل جزيرتي تيران وصنافير بالبحر الأحمر من السيطرة المصرية إلى السعودية كجزء من اتفاقية تشمل اتخاذ الرياض لسلسلة من الخطوات لتطبيع العلاقات مع إسرائيل. حسبما أكد مصدر دبلوماسي عربي لموقع “تايمز أوف إسرائيل” قبل أيام.
المصدر الدبلوماسي العربي قال إن إسرائيل تسعى الآن للحصول على تأكيدات مماثلة من السعودية من أجل التوقيع على الاتفاق. لكن الرياض كانت مترددة في وضع الالتزام كتابيا. مشيرا إلى أن إجراءات التطبيع ستشمل فتح السعودية مجالها الجوي أمام الرحلات الجوية الإسرائيلية إلى الشرق الأقصى. بالإضافة إلى إطلاق رحلات مباشرة بين إسرائيل والسعودية للحجاج المسلمين.
لم تتوقف الاتصالات السرية بين الرياض وتل أبيب خلال الشهور الأخيرة بحسب وزير التعاون الإقليمي الإسرائيلي عيساوي فريج. الذي لفت إلى أن بلاده تعمل على إخراج تلك الاتصالات إلى العلن بدرجة أكبر.
ونقلت صحيفة “معاريف” العبرية عن الوزير الإسرائيلي قوله إنه طلب من المملكة السماح برحلات جوية مباشرة من مطار تل أبيب للراغبين في أداء فريضة الحج إلى مكة المكرمة. “لقد تناولت هذا الأمر مع السعودية وآمل حقيقة أن يأتي هذا اليوم”. قال الوزير دون أن يوضح متى أو أين بحث هذا الأمر.
وأضاف “فريج” أن إسرائيل تعمل على إخراج ما اعتبرها “اتصالات سرية” بين البلدين وأغلبها يتعلق بالتجارة أو بالمخاوف المشتركة بشأن إيران إلى العلن بدرجة أكبر. فيما ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن إسرائيل والسعودية تبحثان عبر واشنطن مسائل اقتصادية وسياسية بينها مسألة عبور الطائرات لأجواء البلدين.
وطرح وزير المالية الصهيوني أفيجدور ليبرمان مقترحا بإنشاء سوق شرق أوسطية مشتركة تشمل إسرائيل والسعودية ودول الخليج والأردن. داعيا الرئيس الأمريكي إلى تبني الفكرة خلال زيارته إلى المملكة.
معهد أبحاث الإعلام في الشرق الأوسط (MEMRI) -وهو مؤسسة رصد إعلامية صهيونية مقرها الولايات المتحدة- لفت في تقرير نشره مؤخرا إلى أن عددا من المثقفين والصحفيين ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي في السعودية بدؤوا بالتعبير علنا عن موقف أكثر تسامحا وإيجابية تجاه إسرائيل. “يرون أن السلام حتمي وحيوي لوقف التهديدات للمنطقة من قبل إيران”.
هؤلاء الكتاب والمغردون والذين تخضع صفحاتهم وآراؤهم بشكل عام لرقابة صارمة من أجهزة الأمن السعودية انتقدوا الفلسطينيين لعدم تبنيهم سياسة واقعية تفضي إلى حل الصراع مع الدولة العبرية.
ونقل التقرير فقرات من مقال للدكتور خالد بن محمد اليوسف -المحاضر البارز في القانون الدولي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض- يضع فيه تأصيلا شرعيا لإقامة علاقات طبيعية مع دولة الاحتلال.
وتحت عنوان “الفقه في السياسة الشرعية ودولة إسرائيل” قال “اليوسف” في مقاله المنشور قبل أسابيع بجريدة “الجزيرة” السعودية: يجب صياغة فقه جديد يعالج الواقع الجديد دون الانحراف عن أهداف ومبادئ الشريعة الإسلامية”.
“اليوسف” اعتبر أن إقامة علاقات طبيعية بين الدول الإسلامية وإسرائيل في ظل الواقع الدولي الجديد من شئون السياسة العامة وتدبير حال الأمة بما يصلحها منوطة بولي الأمر وفق ما يراه محققا للمصلحة الخاصة والعامة.
تقرير المعهد الصهيوني أشار إلى أن مقال “اليوسف” وغيره يأتي في إطار التمهيد لإقامة علاقات طبيعية بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل.
المقدمات تشير إلى أن طريق التطبيع بين المملكة ودولة الاحتلال يجري تعبيده على قدم وساق. وأن الرئيس الأمريكي سيضع نهاية هذا الأسبوع اللمسات النهائية لهذا الطريق قبل تشغيله. لكن لا يعني ذلك أن الأمير الشاب سيقدم على إتمام تلك الخطوة في المنظور القريب. فتوابعها قد تضرب خطط اعتلائه عرش والده. لذا سيفضل أن تظل علاقات بلاده مع إسرائيل أقرب إلى “الزواج العرفي” كما هي عليه الآن. مع تعهدات بتحويلها إلى “وثيقة زواج شرعي” بعد أن يبلغ مبلغه ويصير ملكا.