في الدقائق الأخيرة من صباح يوم 11 يوليو الجاري ظهر الرئيس الأمريكي جو بايدين في مؤتمر صحفي مع كبار مسئولي وكالة الفضاء “ناسا”. لكشف الستار عن أول صورة التقطت بواسطة التلسكوب “جيمس ويب” لمجموعة من المجرات تسمى SMACS 0723. الصورة التي انتظرها العالم لأكثر من ستة أشهر لم تكن فقط أفضل صورة التقطت بواسطة تقنية “المجال العميق” للفضاء. ولكنها أيضا أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن “جيمس ويب” والذي تكلف 10 مليارات دولار وأكثر من ربع قرن من التخطيط والتصنيع والإطلاق يستحق كل المجهود والوقت والمال الذي بذل من أجله.
لكي نعرف أهمية “جيمس ويب” والصورة التي التقطها والصور التي سوف يلتقطها مستقبلا علينا العودة للعام 1990 حين كشف الستار عن أول صورة التقطها التليسكوب “هابل”. والذي كان أول تليسكوب يلتقط صورا للفضاء الخارجي من خارج الغلاف الجوي للأرض.
للوهلة الأولى تظهر الصورة بالأبيض الأسود ولا تحتوي على تفاصيل. ولكن عند مقارنة الصورة بصورة للمنطقة نفسها من الفضاء تم التقاطها بواسطة أكبر تليسكوب امتلكه البشر في هذا الوقت على الأرض في شيلي سنلاحظ أن صورة “هابل” أكثر دقة وأوضح من الصورة المتلطقة من على كوكب الأرض.
العلماء ومنذ وقت طويل جدا علموا جيدا أن الغلاف الجوي للأرض يؤثر على جودة الصور الملتقطة من الأرض. لذا طالما حلم العلماء بتليسكوب يسبح في الفضاء ويستطيع التقاط صور للفضاء دون وجود الغلاف الجوي لكوكب الأرض بين التليسكوب وما يصوره. ومن هنا نبتت فكرة “هابل”. والتي تم تحقيقها كما ذكرنا عام 1990 وكان نقلة نوعية كبيرة في طريقة اكتشافنا للفضاء وفهمنا له.
بفضل “هابل” تأكدنا أن الكون يتوسع كما قال أينشتاين في نظريته النسبية. كما مكننا “هابل” من تحديد عمر الكون (13.8 مليار سنة أو ثلاثة أضعاف عمر الأرض).
كما اكتشف “هابل” القمر الخامس لبلوت وعثر على ثقوب سوداء فائقة الكتلة في مركز معظم المجرات الكبرى.
ورغم كل ما حققه “هابل” حلم العلماء بالمزيد. فـ”هابل” يدور حول الأرض في مدار يرتفع بنحو 590 كم عن سطح الأرض. لذا كانت الفكرة التالية لـ”هابل” هي تليسكوب عملاق بقدرات أكبر بكثير. ولكن هذه المرة يدور التليسكوب المنتظر في مدار حول الشمس وليس حول الأرض. ما يعني أن التليسكوب سيكون حرا أكثر في اكتشاف مساحات لا يمكن له اكتشافها إن ظل مقترنا بمدار حول كوكب الأرض.
هنا ولدت فكرة “جيمس ويب” والذي بدأ تطويره عام 1996 وتعرضت عملية تطويره وتصنيعه لكثير من المصاعب والعقبات والتأخير. وتم تأجيل إطلاقه لأكثر من مرة آخرها عام 2020 إلى أن تم إطلاقه موخرا أواخر عام 2021.
أول ما يميز “جيمس ويب” كما أوضحنا أنه لا يدور حول الأرض وإنما يدور حول الشمس. وذلك في مدار يبلغ متوسط قطره نحو 150 مليون كم ويبعد عن الأرض نحو مليون ونصف المليون كم.
كما يمتاز بتقنياته المتقدمة جدا في مجال التصوير -خصوصا التصوير بالأشعة تحت الحمراء- فالمرآة الأساسية لجيمس ويب -وهي عنصر التليسكوب البصري- تتكون من 18 قطعة من المرايا سداسية الأضلاع المصنوعة من البيريليوم المطلي بالذهب والتي تتحد لتكوين مرآة قُطرها 6.5 مترًا. وهي أكبر بكثير من مرآة “هابل” التي تبلغ 2.4 متر.
على عكس “هابل” الذي يرصد الأطياف القريبة من الأشعة فوق البنفسجية والمرئية والقريبة من الأشعة تحت الحمراء. يرصد التليسكوب جيمس ويب في نطاق تردد أقل من الضوء المرئي ذي الطول الموجي الطويل حتى منتصف الأشعة تحت الحمراء. ما سيسمح له برصد أجرام قديمة جدًا وبعيدة جدًا عنا.
لكي نفهم كيف يرى “ويب” أجراما قديمة -قد لا تكون موجودة في الوقت الحالي- علينا أن نفهم في البداية كيف نرى ونرصد الأجرام السماوية.
نحن لا نرى الأجرام ولكن نرى الضوء المنبعث منها أو المنعكس عليها. فعلي سبيل المثال تبلغ المسافة بين الأرض والشمس 150 مليون كم. ومع الوضع في الاعتبار أن سرعة الضوء هي 300,000 كم في الثانية نجد أن ضوء الشمس يستغرق أكثر من 8 دقائق ليصل إلى الأرض. وهو ما يعني أنه عندما نرى الشمس في السماء فإننا نرى صورة لها من 8 دقائق وليس صورة حية لها الآن. وإذا افترضنا أن الشمس اختفت لأي سبب من الأسباب من مكانها فلن نعلم على كوكب الأرض إلا بعد مرور 8 دقائق.
وفق هذا المبدأ فإن كل الأجرام السماوية التي نراها ونرصدها -خصوصا البعيدة عنا بسنين ضؤئية- في الحقيقة نرى صورا قديمة لها. وقد يكون في بعض الحالات أن هذه الأجرام اختفت منذ زمن طويل لكننا لا نعلم لأننا ل نزل نرصد الضوء المنبعث منها.
بالعودة إلى “جيمس ويب”. فهو لا يستطيع فقط رصد الضوء المرئي الذي نستطيع أن نراه بعيننا المجردة. ولكنه أيضا يمكنه رصد الضوء في تردد الأشعة تحت الحمراء. ما يعني أنه يستطيع رصد الضوء الضعيف وغير المرئي لنا الذي انطلق من مليارات السنين من أجرام سماوية اندثرت منذ زمن طويل جدا ليخبرنا كيف كان شكل هذه المجرات التي لم نرها لأننا ببساطة لم نكن موجودين عندما كانت تلك الأجرام موجودة.
مهمة “جيمس ويب” الرئيسية هي معرفة ما حدث في اللحظات الأولى التي تلت الانفجار العظيم. وأن يخبرنا عن تاريخ الكون الممتد لأكثر من 13 مليار عام. وهو ما قد يقودنا في النهاية لمعرفة كيف نشأ الكون الذي نعرف.
كل هذا يعيدنا إلى صورة “ويب” الأولى. فالصورة كما أوضحنا تصور مجموعة المجرات SMACS 0723 ولكنها ترينا كيف كانت تظهر تلك المجموعة من المجرات قبل 4.6 مليار سنة من الآن وليس كيف تبدو تلك المجموعة الآن.
الصورة التي احتاج “ويب” لنحو 12 ساعة ونصف الساعة من التركيز على بقعة معينة في السماء لالتقاطها لا تغطي إلا جزءا صغيرا جدا من الفضاء. فـ”ناسا” شبهت المساحة التي غطتها الصورة بأنها “رقعة من السماء بحجم حبة الرمل التي يحملها شخص ما على الأرض وينظر إليها بطول ذراعه”.
مع وضع هذا في الاعتبار نجد أن “ويب” لا يزال أمامه كثير لتحقيق هدفه. فالصورة الأولى قد لا تكون الحل للأسئلة الكبيرة التي من المتوقع أن يجيب عنها. لكن تلك الصورة تخبرنا أننا على الطريق. ومع الوقت والمثابرة قد نجيب عن الأسئلة الكبرى التي حلم الإنسان بمعرفة جوابها. من نوعية: “كيف بدأ الكون؟ ومن أين أتينا؟”.