كتبت: هنا الداعور
كثير من العنف. قليل من العقل. مزيد من الدم. شُحٌّ في البصر والبصيرة. تقدير امتياز في السفْك. صفر من المنطق. توصيفات تحاول باجتهاد أن تكافئ حجم الهوس المتنامي بلذة العنف التي ضربت شوارع وبيوت المصريين في مقتل.
“إيه المشكلة لو كانت إدّت له فرصة”. “ماكانش يقصد يقتلها كان بيأدبها دي أخته يعني شرفه”. “هي آه قتلت ولادها بس مش يمكن لو سمعنا منها تطلع مظلومة يا جماعة؟!”. “هي أساسا كانت مش لابسة حجاب. وبنطلونها هيتفرتك عليها. تستاهل”. ردود بمستوى أحكام قضائية وحكم ضاربة في القسوة يرصدها موقع “مصر 360” من أفواه رواد مواقع التواصل الاجتماعي. الذين يعيشون بيننا ومعهم ما يثبت أنهم بشر لكن يبدو أن إثباتاتهم “على الورق”. تعليقات سهلة أطلقها ممسكون بهواتفهم الرقمية وهم مستلقون على أرائكهم وأفكارهم الهشة هشاشة ضمائرهم. مهما بلغ حجم العنف والدم المسفوك تجدهم يكتبون ويبدعون في تبرير كل قطرة سالت بأن الضحية هي المسئولة عن كبت القاتل ومسئولة عن تشويه وجهها بالنار ونحر رقبتها: “هي اللي راحت للقاتل!”.
مين يشتري العنف مني؟!
لم يعد الحديث عن العنف في المجتمع المصري وأرقامه أمرا صادما. فقد صار العنف متداولا كسلعة سهلة. وادت حدته إلى ما يفوق التصور الخيالي. مع ذلك فردود الفعل عليه أبرد من الثلج. بل انقلبت اليات. صار القاتل مسكينا والضحية رقما خاطئا مهما يحاول أن يذكرنا بأنه محض ضحية.
هذه الروح الجديدة ربما تكون مغايرة ومعاكسة لما يسمعه المصريون عن أنفسهم على مدار تاريخهم بأنهم “شعب طيب وجدع وعاطفي”. هذا الحالة المستحدثة التي طرأت على المجتمع المصري تطلب تفسيرات وتحض علماء النفس والاجتماع والباحثين في أصول النفس البشرية على العمل ليكي يجيبوا عن سؤال العنف في أرض طيبة دون أن تكون الإجابة “مصر”.
حادثة عربية.. “شدّيت مع جوزي”
الدكتورة “س.ي” -طبيبة عظام- تحكي لـ”مصر 360″ عن امرأة في سن شبابها لا تزال. جاءت إلى عيادتها بكسور شديدة في جميع أجزاء جسمها. سألتها الطبيبة وهي تتفحص الأشعة الخاصة بها: “عملتي حادثة بالعربية ولا إيه؟”. لترد الحالة: “لا شدّيت بس في الكلام مع جوزي وهو لسه جاي من الشغل. فاستفزيته وعادي يعني زي أي راجل في بيته وزي ما بيحصل في كل البيوت”.
استسلام الضحية واعتيادها وتبريرها للمعتدي عليها/زوجها صدم الطبيبة أكثر من الكسور التي ملأت عظامها: “كأن جوزها رشّها بميه عادي أو بيهزر معاها”.
أرقام ليتها كانت تكذب
خلال عام 2020 سجّل مرصد العنف القائم على النوع الاجتماعي عدد 415 جريمة عنف ضد النساء. ما بين قتل وشروع فيه واغتصاب وضرب وابتزاز جنسي وإلكتروني.
قبل ذلك بثلاثة أعوام -أي 2017- صدرت دراسة عن مفهوم الرجولة عند المصريين وجدت أن 90% من رجال مصر يعتقدون أن على النساء تحمل العنف للحفاظ على بقاء الأسرة.
وفي الربع الأول من عام 2021 رصد فريق عمل مؤسسة “إدراك للتنمية والمساواة” أرقاما صادمة عن العنف ضد النساء في مصر. حيث رصدت باحثات المؤسسة 140 جريمة عنف. فيما حالات الانتحار المرصودة بين النساء من قبل الباحثات تعود نسبتها الأكبر إلى عنف من أحد أفراد الأسرة.
وانقسمت ممارسات العنف ضد المرأة حسب نوع الجريمة المرتكبة. فجاء القتل والشروع في القتل في مقدمة قطار الجرائم بـ173 حالة. ثم جرائم متعلقة بالجنس كالاغتصاب والتحرش والابتزاز بـ38 حالة. وذلك وفق دراسة مسْحية للمركز المصري حول العنف الموجه ضد الفئات الأكثر ضعفًا “المرأة والطفل” لعام 2020.
“صدمة أم عزة” في الإعلام
“أم عزة” -زوجة- 40 عاما” تروي بثقة عن رؤيتها للعنف في المجتمع: “عنف إيه ما طول عمرنا بننضرب من أهالينا في البيت وطالعين زي الفل. حتي جوزي إيده طويله عليا وعلى العيال. آه. إنما مش على طول. هو راجل البيت لازم يبقى كدا وطول عمرنا كدا”.
واتهمت “أم عزة” الصحافة والإعلام بـ”تكبير المواضيع”. “أنتم مش لاقيين حاجة تتكلموا فيها. فبتحبوا تعملوا من الحبّة قبّة” -تقصد تضخيم الأمور والمبالغة فيها.
البرلمان والاعتراف بالمشكلة
“علينا الاعتراف بأن هناك مشكلة كبيرة تواجه المجتمع ويجب البحث عن أسبابها ووضع حلول لها. حتى لا تدمر المجتمع”. هذا ما تضمنه طلب الإحاطة المقدم من قبل النائبة ولاء التمامي -عضو مجلس النواب- بحسب ما قالت في تصريحات صحفية سابقة.
وأوضحت في طلبها أن جرائم لم يعتدها المجتمع المصري بدأت في الظهور وصارت مصدر قلق للأسرة في مجتمعنا. تتمثل في ظاهرة العنف المجتمعي الذي ازدادت حدته في الآونة الأخيرة. ما يعرض السلم الاجتماعي لخطر بالغ.
المافيا في المدرسة
يقول “ح.ل” -أستاذ رياضيات بالمرحلة الإعدادية في مدرسة بمصر القديمة: “طبعا بنشوف عنف في المدارس وبين العيال وبعضها كأنهم مافيا. وفيه ولاد بتيجي بما يعرف بالأمريكن ستيك” -عصا طويلة للضرب المبرح- ودا غير الشجار الدائم بينهم بأبشع الألفاظ”.
وتابع لـ”مصر 360″: “أنا مدرس بقالي 17 سنة وكل جيل بييجي أسوأ من اللي قبله. لدرجة أن العيال فقدت احترام المدرسة ولم يعد المدير والمدرس له هيبة زي زمان”. مضيفا: “وطبعا المدرسين نفسهم بيردوا بعنف على الطلبة. لكن المدرسين بيسموا العنف بتاعهم تأديب بناء على ميراث قديم غلط”.
المؤسسة المصرية لأوضاع الطفولة أصدرت تقريرا عن العنف المدرسي أشار إلى ارتفاع حالات العنف من العاملين بالمدارس ضد الأطفال. وجاء بالتقرير أن المدارس الحكومية في مقدمة مدارس العنف بنسبة 67.18٪ من إجمالي الحالات بسبب “الكثافة العددية للطلاب بمدارس الحكومة.
التعايش مع العنف
بدورها تجيب الدكتورة شادية القناوي -أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس- عن تساؤلات “مصر 360” حول أسباب تقبل العنف بمرونة بالغة في المجتمع المصري. تقول: “الناس نتاج للمجتمع اللي عايشين فيه. والنتاج المجتمعي هو كل ما يحيط بالفرد ويؤثر في سلوكه بشكل مباشر. فمؤسساتنا الثقافية والإعلامية والعلاجية والتعليمية وغيرها هي السبب المباشر في هذه السلوكيات المنحرفة”.
وتابعت: “حدة العنف تتفشى في المجتمعات التي تحيطها ظروف مجتمعية ضاغطة”.
ولم تستبعد أستاذة علم الاجتماع أي طبقة من طبقات المجتمع او أي منطقة جغرافية من حديث العنف. مؤكدة أن الكل تطوله سهام العنف.
أما بخصوص العنف النوعي فقالت: “العنف يمارَس من قبل ذوي القوة أو السلطة تجاه الأضعف. فالأطفال أحيانا يمارسون عنفا لفظيا تجاه عمال النظافة دون استنكار من زملائهم”. لافتة إلى خطورة المحتوى الذي يقدم للأطفال والوارد من الخارج. فهو محتوى دموي يساعد على خلق حالة ضد التعايش السلمي والآمن.
ضحايا العولمة
الدكتورة سامية خضر -أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس- قالت لـ”مصر 360″: “فقدان الهوية الأخلاقية والدينية سبب انتشار فجاجة العنف في المجتمع وليس الظروف الضاغطة وحدها. العولمة للأسف أفرزت بشاعة كونية. كل شيء تم فتحه على آخره دون رقيب. فصار كل شيء ونقيضه في معركة. وللأسف ينتصر القبح لأنه يتكاثر من كل اتجاه. فتنكسر طبيعة المجتمعات وسماتها المميزة”. لافتة إلى دور الفن ومسؤوليته عن العنف: البلطجي والمجرم صار بطلا في أعمالنا الفنية دون ملمح إنساني وبالطبع فإن الشباب والنشء هم أكثر الفئات تأثرا بالحوادث المستغربة. فيزداد الإقبال على العنف عبر استهلاك مواقع التواصل التي لا تترك لأحد أي فرصة للتعقل”.
حلول لا تزال ممكنة
بحسب أساتذة علم الاجتماع فإن الحلول لن تكون مسئولة عنها جهة واحدة. فنحن في مجتمع متشعب وليس منفصلا عن العالم. لكنهم ركزو على دور المؤسسات الإعلامية أولا. حيث إننا نفتقر لبرامج الأطفال التي كانت تكمل دور الأسرة في التربية. بل صارت هذه البرامج تشجع على كل سلوك عنيف دون وعي”.
الدكتور وليد هندي استشاري الطب النفسي يلفت إلى أن بعض الحوادث مسئول عنها التشدد في كل شيء. خاصة التشدد الديني الذي يرمي بذور التطرف عموما في المجتمعات.
فالشعور بالاستعلاء الديني يقود مع الوقت إلى تصور الأفضلية في الدنيا والآخرة. ما يبرر مسائل كارثية وكأنها عادية جدا. يستكمل: “بعض برامجنا تستضيف القتلة ليمثلوا جرائمهم ويستعرضون تفاصيل لا يجب عرضها على الملأ. فنرى الزوجة التي قتلت زوجها ثم وضعت جثته في حوض استحمام وسكبت عليه مادة كاوية تحكي حكاياتها كبطلة. هنا لا يجب أن نندهش من تحول الجمهور العادي إلى فعل المحاكاة بتأثير ما شاهده. فيمعن في الابتكار حين يتحول هو إلى نموذج القاتل الجديد”.
من منظور علم النفس -حسب “هندي”- أن الشخصية التي تتصالح أو تميل إلى العنف نشأت في بيئة غير سوية. وتفتقر للحوار وتتعمد التنكيل أو الإساءة. وهنا يلفت إلى ضرورة حصص الموسيقى والألعاب والرسم لتفريغ الطاقات والترفيه. حتى لا يتحول كسر الإطار بالعنف هو الحل الوحيد للطفل والنشء. منبها إلى ضرورة كسر دوائر العنف واختراقها. إما بوقف الانتشار المخيف لظاهرة إدمان المخدرات. وإما بملاحقة الشباب وإدماجهم في عالم الرياضة ليدخل في دوائر إيجابية بعيدا عن إنتاج العنف. مع الاهتمام بالفنون والثقافة كمنابع للقيم وكحائط صد أول وأخير أمام كل مشوهات المجتمع.