في يوم 9 يوليو/تموز الجاري شاهد العالم أجمع المشاهد التي التقطت من مدينة كولومبو عاصمة سريلانكا. حيث لم تتمكن قوات الشرطة من منع المتظاهرين الغاضبين من اقتحام القصر الرئاسي ومقر إقامة رئيس الوزراء. وتلتها بعد ذلك أنباء عن نية الرئيس الاستقالة بعد هروبه من البلاد.
تأتي تلك التظاهرات العنيفة تتويجًا لموجة غضب متصاعدة منذ أشهر على خلفية أزمة اقتصادية ومعيشية طاحنة ضربت البلاد. وصفها الكثيرون بأنها الأكثر قسوة في تاريخ هذه الجزيرة المستقلة حديثًا عام 1948م.
لطالما صُنفت سريلانكا دولة ذات دخل متوسط. تعداد سكانها 22 مليون نسمة ويصل متوسط الدخل فيها للفرد إلى نحو 3600 دولار سنويًا. تعتمد سيريلانكا “درة المحيط الهندي” بشكل أساسي على كونها وجهة جاذبة للسياحة التي يعمل بها نحو 2 مليون مواطن. وتحقق عوائد تقدر بـ5 مليارات دولار تمثل 12% من مصادر الدخل القومي. لتأتي في المرتبة الثانية بعد تحويلات المغتربين التي تقدر بـ7.1 مليار دولار.
اطمأنت سريلانكا لعقود للاعتماد فقط على السياحة وتحويلات المغتربين وبعض الزراعة المحلية وصادرات ضئيلة من المطاط. دون اكتراث بعمل خطة تنمية حقيقية ومستدامة تعتمد على قدراتها المحلية.
فلا وجود للصناعة داخل سريلانكا أو البحث العلمي المتطور أو سياسة لإحلال الواردات. كما اتجهت العديد من الدول الشرق آسيوية في التنمية مثل فيتنام وتايوان وماليزيا وغيرها. نسبة الاستثمار الأجنبي متدنية للغاية بواقع 0.5٪ فقط من الناتج المحلي الإجمالي الذي يصل إلى 83 مليار دولار سنويا. وبالتالي فبرغم تحقيق هذا البلد لسنوات طويلة معدلات نمو في حدود ٧٪ فإنها تثبت مدى هشاشة هيكلها الاقتصادي وغياب مشروعها التنموي.
يبلغ عجز الميزان التجاري لسريلانكا -الفارق بين الصادرات والواردات- نحو 3 مليارات دولار سنويا. مع ضعف صادراتها للخارج والاعتماد على الاستيراد في تأمين احتياجاتها الأساسية باستمرار. ما يعني ضغط دائم على العملة الأجنبية بشكل يفتح شهية الحكومات على الاقتراض. خاصة مع وجود تتنافس إقليمي عليها بين الصين والهند يسمح لها بجلب القروض منهما.
سياسيًا كانت عائلة الرئيس راجابكسا هي المسيطرة على مقاليد الحكم في معظم العقدين الماضيين. ضمت العائلة شقيقين هما باسل وشامال. واللذان توليا مناصب وزارات المالية والري على التوالي.
أما الرئيس الهارب بوغاياتا فتولى منصب وزير الدفاع 10 سنوات “2005-2015” تحت حكم شقيقه الأكبر الرئيس السابق ماهيندا راجاباكسا. وقاد الجيش السريلانكي في مواجهاته مع قوات التاميل الهندوسية. ليقوم بإنهاء الحرب الأهلية التي استمرت 30 عامًا بين السنهال والتاميل. ليتم اعتباره بطلًا قوميًا للسنهال أصحاب الأغلبية في هذا البلد متعدد الديانات.
في مطلع عام 2019 انتخب غوتابايا راجابسكا رئيسًا وأتى بأخيه الرئيس السابق ماهيندا ليصبح رئيسًا للوزراء حتى مايو الماضي.
قدم غوتابايا وعودًا انتخابية شديدة الشعبوية بمنح “أكبر تخفيضات في الضرائب” في تاريخ سريلانكا. فيما يشبه الرشوة الانتخابية للمواطنين. وكلفت تلك الشعبوية خزانة الدولة نحوالي 1.4 مليار دولار سنويًا. رغم شدة احتياج الحكومة إلى هذه الأموال في تأمين الاحتياجات والاستثمار الضروري في البنية التحتية.
تزامن ذلك مع تفجيرات إرهابية استهدفت الكنائس داخل سريلانكا أدت لضرب مورد السياحة. وتضاءل الاحتياطي النقدي الأجنبي لـ7.6 مليار دولار فقط في نهاية 2019. ومع ذلك لم يتراجع غوتابايا عن هذه السياسة.
ارتبطت عائلة راجاباكسا تاريخيًا بالصين وتعاونت معها في مشروعات بنية تحتية ضخمة لم تدرس بشكل كاف. جعلت من الصين أكبر دولة مُقرِضة لسريلانكا. معظم تلك القروض والمشروعات كانت بالقرب من محل إقامة عائلة راجاباكسا. فيما يشي بشبهات فساد وإهدار للأموال.
أهم تلك المشروعات هو ميناء “هامبانتوتا” الذي يعتبر أحد مشاريع مبادرة “الحزام والطريق” الصينية. وتم تشييده بقرض صيني تكلفته 1.4 مليار دولار. واستحوذت بكين لاحقًا على 70% من أسهم الميناء. وحظيت بعقود تأجير وصلت إلى 99 عامًا. بعد فشل المشروع في سداد قروضه وعدم نجاح تشغيله. مع وجود تخوفات من تحول الميناء لاحقًا لقاعدة عسكرية صينية متاخمة للهند.
بجوار ذلك الميناء، هناك أيضًا مطار راجاباكسا الذي شُيد بقرض صيني آخر قدره 200 مليون دولار وتحول أيضًا لمشروع خاسر. لا يستطيع تغطية تكلفته من الكهرباء. وربما يدفع ذلك البعض للتفكير في أن سياسة الصين “دبلوماسية الديون” أوقعت سريلانكا في فخ سبق وأن وقعت فيه دول أخرى اضطرت للتنازل عن أصول هامة لبكين. ومع ذلك لا يزال الكثير من الديون المستحقة للصين غير معلوم. فهناك قروض يصعب تتبعها لصالح شركات حكومية والبنك المركزي السريلانكي. ما يقوض الاقتصاد السريلانكي أكثر وأكثر نتيجة هذا المستوى من غياب الشفافية.
مع قدوم عام 2020 وبداية جائحة كورونا توقفت السياحة وحركة الطيران وانحسرت بالتالي احتياطيات النقد الأجنبي لأقل من ٢ مليار دولار في مارس من ذلك العام. وفقد العديد من المغتربين السريلانكيين وظائفهم وانكمش الاقتصاد السريلانكي بنسبة 3.5٪. وأصبحت الحكومة محاصرة بين ضبط الإنفاق والمالية العامة والاستدانة لتلبية الاحتياجات الضرورية.
تدخلات راجابكسا الشعبوية غير المدروسة وصلت هذه المرة إلى قطاع الزراعة والغذاء. فقرر في إبريل/نيسان الماضي حظر استيراد الأسمدة الكيماوية. مدعيًا تشجيع الفلاحين على التحول نحو الزراعة العضوية.
لكن في الحقيقة هي كانت ذريعة للتهرب من كلفة استيراد الأسمدة التي بلغت 400 مليون دولار سنويًا. والنتيجة كانت انخفاض إنتاجية المحاصيل الأساسية مثل الأرز والشاي والخضراوات. وتراجع الحكومة عن هذه القرارات بعد احتجاجات الفلاحين.
أسعار الغذاء المرتفعة عالميًا بسبب الحرب الأوكرانية أدت لارتفاع مستويات تضخم الغذاء محليًا في يونيو/حزيران الماضي لـ54% على أساس سنوي. ومع فقدان أغلب السريلانكيين الوقود والغاز اتجهوا لاستخدام الحطب للطهي.
وبحسب منظمة الفاو فإن 9 من كل 10 أسر سريلانكية أصبحت تقلل من تناول وجبات الغذاء مضطرة لذلك. وبالتالي فسريلانكا مرشحة بشدة أن تتحول لأزمة إنسانية خطيرة.
مع كل هذه الأسباب المتداخلة التي تلتهم العملة الأجنبية تدهورت الحالة المعيشية كثيرًا للمواطنين. إذ قلت حركة السيارات نتيجة ارتفاع أسعار الوقود. فضلًا عن عدم توفره. والتكلفة وقلة توفر المخزون. بما كان يضطر أصحاب السيارات ومركبات الريكشا “التوكتوك” من الانتظار لأيام أمام محطات الوقود للحصول على البنزين. ما دفع تكلفة التنقل للارتفاع بنسبة 128% مقارنة بالعام الماضي. حتى اضطرت الحكومة في شهر يونيو/حزيران لتشجيع الناس على البقاء في منازلهم لتوفير الوقود ومنحهم يوم راحة إضافي لتشجيعهم على الزراعة المنزلية. قبل امتناع العديد من الموردين عن إيصال الوقود للمواني السريلانكية بسبب تراكم مستحقات الموردين لدى الشركة الحكومية.
أزمة العملة والوقود امتدت بالضرورة للكهرباء التي أصبحت تغيب عن منازل السريلانكيين لأكثر من 13 ساعة يوميًا. ما يجعل التعايش معها أمرًا غير محتمل. ولا سيما مع تقادم البنية التحتية وغياب الاستثمارات الكافية في مجال الطاقة. برغم توفر أجواء مثالية بسريلانكا للاتجاه نحو الطاقة المتجددة من الرياح والشمس. لكن ليست هذه الأنواع من مشاريع البنية التحتية التي كان يحبذها راجابكسا.
* إنفوجراف لزيادة أسعار منتجات الوقود المختلفة في سريلانكا في العامين الماضيين.
دفعت الأزمة عددا متزايدا من السريلانكيين إلى طلب الهجرة للخارج بحثًا عن عمل. ورحبت الحكومة بذلك واعدة موظفي الحكومة المهاجرين بإجازات مفتوحة. وامتلأت وسائل التواصل الاجتماعي باستغاثات الأطباء بحثًا عن الأدوية والمعدات الضرورية. فالأزمة تلقي بظلالها على كل شيء.
مع نمو الديون المتراكمة لجأت سريلانكا بشكل مطرد إلى السندات السيادية الدولية لتجديد الديون الحالية وتقديم أسعار فائدة جذابة للأموال الساخنة كغيرها من الأسواق الناشئة. حتى أصبح حجم ديونها من السندات الدولية يزيد على 35 مليار دولار.
ومع استمرار تدهور وضعها المالي انخفض التصنيف الائتماني للبلاد. ما أدى إلى قطع وصولها إلى القروض والتمويلات الدولية والتي فاقمتها الحرب الروسية الأوكرانية.
انهيار قيمة العملة المحلية بنسبة 80% وانخفاض قيمتها أمام الدولار لم يفلح معهما رفع أسعار الفائدة. فاستمر جفاف الاحتياطي النقدي لما يقل عن 50 مليون دولار فقط. في ظل التزامات تقدر بـ7 مليارات دولار هذا العام. ما فاقم من تراكم الأزمات. خاصة أن الحكومة كانت تختار لفترة طويلة سداد ديونها السيادية بدلًا من إعادة التفاوض عليها وتأمين احتياجاتها الأساسية. فوصلت في النهاية إلى الإعلان عن تخلفها عن سداد الديون -الإفلاس- في إبريل/نيسان الماضي وطلب المساعدة العاجلة من صندوق النقد الدولي.
إدمان سيريلانكا للاستدانة دون الاكتراث بمعالجة اقتصادها الهش المعتمد على العالم الخارجي وعدم القيام بإصلاحات هيكلية لتنمية الصادرات وتعميق الصناعة وتحسين مستويات الأمن الغذائي وحسن اختيار مشروعات البنية التحتية الملائمة والضرورية لاحتياجات الاقتصاد السريلانكي.. جميعها أسباب دفعت سريلانكا لهذا الوضع المتأزم.
أزمة سريلانكا لن تكون الوحيدة في ظل الضغوطات التي تضعها الحرب الروسية الأوكرانية على الأسواق الناشئة. وتداول ديونها السيادية عند مستويات متعثرة. وتخارج الأموال منها إلى الاقتصادات القوية. غانا وتونس والسلفادور وباكستان والأرجنتين وغيرها من الدول الواقعة في التصنيف نفسه تخشى من تأثير الدومينو عليها. ويحين وقت التساؤل والنقاش بداخلها: “هل هذه الأزمات هي فقط نتيجة الحرب أم نتيجة سوء الإدارة وضعف الاقتصاد أيضًا؟”.