أصبحت شبه مقتنع بأن الثقة المطلقة التي يتحدث بها كثير من المحللين والمسئولين العرب ويقطعون بها وعلى أساسها بأن زيارة الرئيس بايدن الراهنة إلى المنطقة ستخرج خاوية الوفاض وستنتهي حتما إلى لا شيء، إنما هي ثقة مبالغ فيها وربما أو على الأصح هي عملية تضليل متعمدة .
وأصبحت شبه مقتنع ثانيا بأن موجة التصريحات الأمريكية الإسرائيلية المتعمدة منذ اجتماع النقب المشؤوم في مارس/آذار الماضي، ومنذ الإعلان بعدها عن زيارة بايدن الحالية للمنطقة، لم تكن إلا قنبلة دخان كثيف متعمدة لإلهاء الشعوب العربية التي ملأ عيونها دموع دخان القنبلة عن رؤية التنازلات الحقيقية التي سيحصل عليها بايدن من الدول العربية.
أقول ذلك لأن الأمريكيين والإسرائيليين يعرفون مسبقًا أن الشعوب العربية تستفز استفزازًا شديدًا من هذه التصريحات [راجع البيانات التي أصدرتها أحزاب وتجمعات سياسية ونخب عربية ضد الناتو العربي- الإسرائيلي وتضمن بعضها الدعوة لمؤتمرات وحتى إلى تظاهرات شعبية ضد هذا الناتو المقترح، وهي لا شك تطورات تثير قلق الحكومات العربية.
يعلمون مسبقا أن هذا يشكل قيدا شعبيا على حرية حركة النظم الحاكمة العربية مهما بلغ اعتدالها السياسي ومدى رغبتها في استمرار التحالف مع واشنطن ومهما بلغ أيضا مستوى تطبيعها العلني أو السري مع إسرائيل.
الأكثر من ذلك أن الأمريكيين والإسرائيليين الذين زعموا مرارا وتكرارا الشهور الماضية أن التحالف (التاريخي) بات قيد أنملة من التحقق يعلمون أكثر من أي أحد آخر أنه مهما بلغت الشكوك في رشادة وعقلانية صنع القرار العربي، فإنه لن ينزل بقادته إلى حد قبولهم بأنفسهم المشاركة في خطوة لم تنضج ظروفها وتقود إلى تفجير المنطقة بحروب إقليمية يتورطون فيها أو حروب داخلية في بلدانهم وهي البلدان التي يتكون نسيج كثير منها من موزاييك سني وشيعي.
فمن شأن موافقتهم على حلف من هذا النوع مع إسرائيل – ليس له سوي معنى واحد صريح هو أنه حلف مصمم ضد إيران ومعاديا لها – سوى أن ترد طهران دفاعا عن نفسها ومصالحها باستخدام كل أذرعها الإقليمية إما لبدء صراعات أو الاستجابة لاستفزازات إسرائيلية للدخول في صراعات قد تمتد من العراق ولبنان وسوريا حتى تصل أيضا إلى إحياء الحرب المأساوية المتوقفة حاليا بهدنة “رخوة” في اليمن .
وأصبحت ثالثا شبه مقتنع أن الأمريكيين سيحصلون للأسف على معظم ما يستهدفون من زيارة بايدن، ولكن ليس على صورة تنازلات كبرى يصعب على القادة العرب نفسيا وعلى استقرار نظامهم شعبيا أن يقدموها الآن، ولكن على صورة تنازلات صغيرة متدرجة ومخطط لها، بحيث تصل إلى قيام الناتو الشرق الأوسطي في النهاية، وحدوث انقلاب استراتيجي كامل في نهاية فترة معينة تتصف زمنيا بالمرونة.
بعبارة أوضح أميل إلى أن الأمريكيين سيعيدون أسلوبهم المفضل في الخطوات الصغيرة المتتابعة التي تنتج في النهاية تطورا استراتيجيا حاكما للمنطقة، أي إعادة تطبيق سياسة أو تنازلات الخطوة خطوة التي نجح فيها هنري كيسنجر من قبل مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات – بمساعدة قيمة للغاية من شاه إيران والملك فيصل والملك الحسن الثاني – في البدء بخطوات صغيرة بين مصر وإسرائيل، انتهت بخروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي وانسحابها من دورها القيادي للعالم العربي. فما بدا أنه خطوة صغيرة محدودة لمباحثات ذات طابع عسكري صرف في الكيلو 101 تدحرج إلى اتفاقيات فصل القوات، سلمت مصر لمعاهدة سلام منفردة مع تل أبيب، غيرت شكل الشرق الأوسط تغييرا استراتيجيا كاملا.
ولم يكن مستغربا بعد توقيع الدولة العربية الأكبر أن تلحق بها الأردن ومنظمة التحرير، وجاءت بعدهما اتفاقات إبراهام بعد أربعين سنة إعلانا شاملا عن كامل الانقلاب الاستراتيجي الذي حدث للعرب وقضية فلسطين التي كانت يوما ما قضيتهم المركزية !!!
ولكن ما هي الخطوات الصغيرة أو التنازلات الممكنة التي ستقود في النهاية لتحول استراتيجي مشابه لخبرة كيسنجر التاريخية والتي يخطط بايدن للحصول عليها في زيارته الراهنة ومن المرجح أنه سيحصل عليها مطمئنا بالزيارات والاتصالات التحضيرية التي أجراها معاونوه للشرق الأوسط في الفترة الماضية، وأشك أنه كان ليجري الزيارة للمنطقة من أصله دون تأكيد هؤلاء المعاونين له مثل بيرنز وبلينكن أنهم حصلوا على توافق من الأطراف العربية المعنية على الاستجابة لهذه التنازلات .
- ورقة الاعتراف بالشرعية: ما طلت إدارة بايدن عمدا في الاعتراف بالأمير محمد بن سلمان ملكا مستقبليا للسعودية رغم أنها تعلم علم اليقين أنه القائد الفعلي في ظل تقدم عمر أبيه وتفويض الأخير له في سلطته، وفي ظل نجاح الأمير في إزاحة الأجنحة المنافسة له في الأسرة المالكة وإحكام سيطرته على مؤسسات القوة السعودية وعلى المؤسسة الدينية النافذة.
هذه المماطلة ليست من قبيل إنكار الحقائق على الأرض، فهذا آخر ما تفعله السياسة البراجماتية الأمريكية. ولكن الهدف من المماطلة كان تحويل شيء من العدم تقريبا إلى ورقة ضغط تساوم بها السعودية. وذلك على النحو التالي:
سنعترف بشرعية الأمير ونؤيد انتقالا هادئا للسلطة إليه في الرياض عندما يأتي الوقت في مقابل 3 تنازلات رئيسية: الأولى هي البدء في خطوات تطبيع صغيرة ولكن متصاعدة حتى تجئ لحظة مناسبة داخليا للنظام السياسي السعودي يستطيع فيها أن يقرر الإعلان عن تطبيع رسمي كامل كما فعلت جارتيه في أبو ظبي والمنامة، ودون أن يعرض ذلك استقراره الداخلي مع شعبه إلى اضطراب كبير.
وهذا التنازل الذي أميل إلى أنه سيحدث ولكن دون الإعلان الصريح عنه لتفادي هز مصداقية الخطاب السعودي التقليدي عن الدفاع عن فلسطين والمسجد الأقصى .
- إعادة النظر في حجم إنتاج النفط والغاز لتعويض النقص الذي تسببت به العقوبات الغربية على روسيا.
هذه أيضا لن تكون على صيغة إعلان يتنكر لكل المواقف السعودية والخليجية المعلنة بالالتزام بصيغة أوبك بلس، وتشمل دول أوبك وروسيا، ولا تراجعا صريحا عن مواقف القيادة السعودية بالالتزام باستقرار سوق وسعر النفط مهما كانت الضغوط الأمريكية منذ اندلاع الحرب الأوكرانية. كما لن تتضمن قفزات جبارة في الإنتاج السعودي والإماراتي، ولكن زيادات متدرجة في الإنتاج النفطي وفي الاتجاه الذي تريده واشنطن وهو اتجاه تتحدد قيمته الاستراتيجية في أنه يوجه رسالة موجعة من واشنطن لكل من موسكو وبكين أنها استعادت نفوذها التقليدي على أوبك ومنتجي النفط العرب.
3- استمرار واشنطن في مساومة تجميد مفاوضات الاتفاق النووي مع إيران مقابل إبقاء دول الخليج العربية على النهج الاستراتيجي المشكوك فيه والقائم لدى ثلاثة عواصم منها على الأقل؛ ألا وهو: أن إيران هي العدو الرئيس لها ولإسرائيل معا. وأن طهران بنظامها المتحالف استراتيجيا وإن كان ضمنيا مع روسيا والصين تمثل خطرا على المصالح العامة المشتركة لكل من هذه الدول وحلفائها الغربيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة.
سيستخدم بايدن في زيارته الورقة الإيرانية؛ هذه الحيلة القديمة المستخدمة كل مرة بنفس النجاح من قبل رؤساء أمريكيين سابقين مع عواصم الخليج العربية، خاصة منذ سقوط نظام الشاه وقيام جمهورية ولاية الفقيه الإسلامية؛ ألا وهي التحذير من الخطر الإيراني على أنظمة حكمهم وتهديد عروشهم سواء بالإيحاء المبالغ فيه إلى نفوذ إيران على السكان الشيعة في دول الخليج أو بالتخويف من الطموحات النووية الإيرانية، وأخيرا وليس آخر بالإلحاح على تحديات التمدد الإقليمي الإيراني في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن .
الإبقاء على النهج الاستراتيجي الخليجي المشكوك في صحة بوصلته، والذي يعتبر إيران وليست إسرائيل هي العدو، لا يبقي فقط أسطورة حماية أمريكا لأمن دول مجلس التعاون من الخطر الإيراني، ولا يبقي فقط على صناعة السلاح الأمريكية مزدهرة بمبيعات أسلحة لدول الخليج لمواجهة الترسانة الإيرانية، ولكن يضمن لواشنطن المضي في تخطيطها الكوني بمنح الأولوية لمواجهة الصين، وهي مطمئنة على أن تركيز انتباهها ومواردها على آسيا والمحيط الهادئ مستقبلًا لا يعني خسارة النفط والموقع الجيوسياسي للشرق الأوسط؛ إذ ستتكفل خطوات التطبيع الصغيرة المتتابعة بين إسرائيل والسعودية والدول الأخرى ونشوء منتدى أمني وربما سوق مشتركة يضمان العرب وإسرائيل، باستمرار الهيمنة الأمريكية على المنطقة، مع دور ذي طابع قيادي إشرافي أكبر لواشنطن، ودور قيادي يومي بالوكالة تقوم به إسرائيل الحليفة المؤهلة عسكريا واستخباراتيا وتكنولوجيا والتي هي في النهاية وكما قال وزير الدفاع الأمريكي الأسبق ماكنمارا وأيده في ذلك آرييل شارون “إسرائيل هي حاملة الطائرات الأمريكية التي لا تغرق”.