لأشعلت روسيا فتيل الحرب الاقتصادية القصوى مع أوروبا، بعدما أغلقت خط نقل الغاز “السيل الشمالي-1″(نورد ستريم 1)، بحجة إجراء أعمال صيانة لمدة عشرة أيام، وقبل أن تحصل الدول المستوردة على فرصة لتنفيذ خطتها ببناء مخزونات لفصل الشتاء.
وتحبس أوروبا أنفاسها، إذ ستواجه أزمة كبرى حال استمرار وقف تدفق الغاز عن طريق (نورد ستريم). فلا طرق بديلة مع حظر استخدام خط “ياما-لأوروبا” عبر بولندا، وإيقاف كييف في مايو الماضي طريق عبور آخر بدعوى وقف تقدم القوات الروسية.
“نورد ستريم” يمتد عبر بحر البلطيق، الذي يتدفق من خلاله الغاز الطبيعي الروسي إلى ألمانيا منذ عام 2011، وينتهي في لوبمين بالقرب من جرايفسفالد، وحال إغلاقه، يتبقى طريقًا واحدًا لإمداد الغاز الروسي لأوروبا عبر أوكرانيا. ويحمل الخط 40 مليون متر مكعب يوميًا عبر محطة القياس Sudzha في غرب روسيا.
لا يستبعد مسئولون ألمان احتمال أن تعلق نورد ستريم تدفقات الغاز لما بعد فترة الصيانة المقررة، في ظل اشتراطات موسكو التي أوقفت استيراد بولندا وبلغاريا وفنلندا وهولندا لشحنات الغاز الطبيعي، لرفضها الرضوخ لمطالب موسكو بتسديد الدول “غير الصديقة” ثمنه بالروبل.
روسيا تخنق أوروبا بإمدادات الغاز
تتحكم موسكو بالغاز عبر ذراعها الطولى “غازبروم” التي خفضت شحنات الغاز إلى 40% من طاقتها إلى ألمانيا الشهر الماضي. وذلك من إجمالي حصتها البالغة 55 مليار متر مكعب من الغاز، تحصل عليها سنويًا، منذ بدء تشغيل الخط عام 2012.
جاء توقيت الصيانة الروسي وسط استعدادات للموسم الشتوي لأوروبا. وفي وقت تتسابق فيه الحكومات الأوروبية لملء المخزن تحت الأرض بإمدادات الغاز لتزويد الأسر بالوقود الكافي للحفاظ على الأضواء والمنازل دافئة خلال فصل الشتاء.
يعتقد كلاوس مولر، رئيس هيئة تنظيم الطاقة في ألمانيا، بأن الكرملين قد يستمر في خنق إمدادات الطاقة بأوروبا لما بعد انتهاء أعمال الصيانة المقررة. ويضيف أنه لا يمكن استبعاد إمكانية عدم استئناف نقل الغاز بعدها لأسباب سياسية.
ويتفق محللو الطاقة على أن الانقطاع الدائم محتمل. خاصة أن تدفقات الغاز الروسي انخفضت بالفعل بنحو 60% في الأشهر الأخيرة. ذلك بحجة أن شركة سيمنز للطاقة الألمانية أخرت تسليم المعدات التي تستخدمها الشركة الروسية في خط الغاز.
وتنتج سيمنز تلك المعدات في فرعها بكندا التي تفرض عقوبات ضد روسيا تشمل قطاع الطاقة، واضطرت إلى تعطيلها بنهاية الأسبوع، من أجل إعادة التوربينات الغازية التي تم إصلاحها إلى ألمانيا مجددًا من أجل استخدامها في خط أنابيب نورد ستريم 1.
ألمانيا وخطتها الطارئة للغاز
بحسب المحللين في مجموعة أوراسيا الاستشارية للمخاطر السياسية، فإنه إذا قطع بوتين إمدادات الغاز، من المرجح أن تضطر ألمانيا إلى الانتقال للمستوى الثالث من خطتها الطارئة للغاز، المكونة من ثلاث مراحل. وسيتعين على المنظم الألماني حينها أن يقرر كيفية توزيع الإمدادات على الصعيد الوطني.
قال هينينج جلويستين، مدير الطاقة والمناخ والموارد في مجموعة أوراسيا، إن تلك الخطوة ستمثل سيناريو “الحرب الاقتصادية القصوى”. خاصة برلين التي تحولت إلى نقطة ساخنة بالنسبة للاتحاد الأوروبي بأكمله.
ألمانيا لديها أكبر عدد من السكان في أوروبا. وهي أكبر اقتصاد، وأكبر مستهلك للغاز، وأكبر مستورد منفرد للغاز الروسي، ولديها تسعة حدود برية ما يعرضها للضغط حال حدوث أزمات اقتصادية من الجيران. والروس يستخدمون الغاز كورقة المساومة معها لمنع تشديد الأوروبيين للعقوبات حتى يتمكنوا من الانتقام.
قال متحدث باسم الوزارة الفيدرالية الألمانية للاقتصاد والعمل المناخي إن الحكومة تراقب عن كثب وضع سوق الغاز قبل أعمال الصيانة المجدولة. وأضاف أن أمن الإمدادات لا يزال مضمونًا في الوقت الحالي، لكن الوضع خطير.
فرنسا تحذر من زلزال في الجغرافيا السياسية لأوروبا
في فرنسا لا يقل الخوف أيضًا، فوزير الاقتصاد والمالية برونو لو مير، يتوقع أن توقف موسكو إمداداتها إلى أوروبا. ذلك في خطوة بمثابة زلزال للجغرافيا السياسية العالمية، تفسد عقودًا من التنمية في القارة العجوز وروسيا المبنية على مبيعات الطاقة.
لو مير تحدث في منتدى اقتصادي بجنوب فرنسا بشكل صريح. قال: “دعونا نستعد لإغلاق كامل للإمدادات”. “هذا هو الحدث الأكثر احتمالًا”. وقد طالب فرنسا للاستثمار بسرعة في مصادر الطاقة مثل الغاز الحيوي والتقنيات النووية حتى تصبح مستقلة عن الطاقة الروسية.
الغاز يهدد صناعات كاملة بالانهيار
وترجح رئيسة تجمع النقابات الألمانية ياسمين فهيميإن انهيار “صناعات بأكملها” بسبب نقص الإمدادات. ويرى ألكسندر جابوف، الزميل الأول في مؤسسة “كارنيجي”، أن “الغاز هو السلاح الأكثر فاعلية لموسكو التي يبدو أنها قررت اتخاذ الخطوة الأولى الآن دون إعطاء أوروبا الوقت للاستعداد وتعطيل ملء المستودعات”.
وتعتقد برلين أن الإمدادات لا تزال آمنة حاليًا ويمكنها شراء الوقود المفقود من مصادر أخرى، وإن كان بأسعار أعلى. لكن تقليص الإمدادات الروسية سيجعل من الصعب ملء مخزون الغاز قبل الشتاء. ما قد يعرض المصانع والمنازل في جميع أنحاء القارة للخطر.
قال رئيس غازبروم، أليكسي ميلر، إن الشركة مرتاحة لخفض إمدادات الغاز لأن الأسعار ارتفعت. وفي الأشهر التي أعقبت غزو موسكو لأوكرانيا، قطعت الشركة صادراتها إلى شركات في بولندا وهولندا وبلغاريا وأماكن أخرى. لأنها لم تمتثل لأمر الرئيس فلاديمير بوتين بدفع ثمن الغاز بالروبل.
ونقلت غازبروم الضغط لمراحل اعنف وقطعت الإمدادات عن الشركات التي التزمت بمرسوم الكرملين. وقالت شركة Uniper SE الألمانية و OMV AG النمساوية و Eni SpA الإيطالية، والتي تمثل ثلاثة من أكبر شركات الطاقة في القارة، إن عمليات التسليم من روسيا انخفضت. وكذلك فعلت مجموعة Cez وهي مرفق في جمهورية التشيك، وشركة الطاقة الفرنسية Engie SA.
متحدث باسم المفوضية الأوروبية، الذراع التنفيذية للكتلة، قال إن موسكو تبتز الاتحاد الأوروبي بإمدادات الطاقة. وأضاف أن ممثلي المفوضية والدول الأعضاء اجتمعوا ورأوا أنه لا يوجد تهديد فوري للإمدادات.
ماذا يحدث لو قطعت موسكو للغاز كاملًا؟
خيارات أوروبا محدودة على المدى القصير. فالبنية التحتية لاستيراد الغاز الطبيعي المسال في القارة تقترب من بلوغ الحد الأقصى. وهي على أي حال موزعة بشكل غير متساو في جميع أنحائها.
الكاتب الصحفي هاميش مكراي تساءل: “ماذا سيحدث إذا أقدمت روسيا على قطع الغاز عن أوروبا؟”. وقال إنه بناءً على ما حدث خلال الشهور الأربعة الأخيرة، فإن على أوروبا أن تخطط لمواجهة أسوأ السيناريوهات، ومن بينها احتمال إقدام روسيا على قطع تام لإمدادات الغاز.
وأضاف أن السيناريو لو حدث فسيشكل معضلة كبرى للبلدان المعنية فصل الشتاء المقبل. حيث اعتادت هذه البلدان على أن تتراكم مخزونات الغاز صيفًا. ثم يبدأ المخزون في الانخفاض مع بداية الطقس البارد.
قبل أيام، وقع بوتين مرسومًا للسيطرة على “سخالين 2” أو بالأحرى تأميمها، ما قد يجبر شركة شل البريطانية ومساهمين آخرين، بما في ذلك شركتي التجارة اليابانيتان “ميتسوي” و”ميتسوبيشي”، على الخروج من المشروع. خاصة أن غاز بروم التي تديرها الدولة حصة 50%، بينما تمتلك “شل” 27.5%.يزود “سخالين 2” العالم بنحو 4% من الغاز الطبيعي المسال، ويحمل قيمة كبيرة للمشترين في آسيا بسبب قربه من أسواقها.
الأسواق الروسية البديلة
أمنت روسيا أسواقًا بديلة للغاز الروسي، ووقعت “غازبروم” عقدًا طويل الأجل مع شركة الوطنية الصينية “سي إنبيسي” لتوريد 10 مليارات متر مكعب من الغاز عبر مسار “الشرق الأقصى”.
وقالت “غازبروم” إن “توقيع العقد يعد خطوة مهمة في مسار تعزيز التعاون متبادل المنفعة بين روسيا والصين، وبعد وصول المشروع (الشرق الأقصى) إلى طاقته الكاملة سيزداد حجمًا لإمدادات بمقدار 10 مليارات متر مكعب، إلى 48 مليار متر مكعب سنويًا.
كذلك وقعت شركة الطاقة الروسية “روس نفط” اتفاقية مع شركة “سي إنبيسي” (CNPC) الصينية لتوريد 100 مليون طن من النفط إلى الصين عبر كازاخستان على مدى 10 سنوات.
وتمثل الهند السوق الثانية، فرغم أنها توفر قرابة 75% من احتياجاتها بموجب عقود طويلة الأجل. فإن ارتفاع درجات الحرارة والانقطاع المستمر في الكهرباء يجبران المرافق في البلاد على تعويض النقص من روسيا.
وتشهد الهند أيضا طلبًا كبيرًا على الغاز بقطاع الأسمدة مع خطط حكومية لاستبدال الوقود التقليدي بالغاز الطبيعي لتقليل استهلاك النفط ومواجهة تلوث البيئة.
واشترت الشركات الهندية شحنات الغاز المسال الروسي من خلال مناقصات فورية طُرحت مؤخرًا، بعد عرض هذه الشحنات بأسعار رخيصة. ما يعني أن الهند المستفيدة من شراء النفط الروسي بسعر مخفض لن ترضخ الضغوط الغربية الخاصة بالعقوبات.