يبدو أن التاريخ ضحية الصراعات السياسية هذه الأيام بصورة ربما تكون غير مسبوقة، تحت تأثير وسائل التواصل الاجتماعي التي أجبرت الجميع على إعادة النظر في مسلمات غير مختبرة، لكنها سمحت أيضًا بترديد أكاذيب ومعلومات زائفة على نطاق واسع، والأخطر أن التاريخ بات مفعولًا به تستخدمه التيارات السياسية كأداة، لذا تحول تاريخ المنطقة وتراثها إلى مجموعة من الخنادق والمتاريس يستخدمها كل طرف للهجوم والدفاع في حرب عبثية تكشف عن خطل معارك هذه الأيام.
القراءة الفوتوغرافية للتاريخ، هي مصطلح أقصد به محاولات البعض تحويل التاريخ إلى منصة إطلاق إيديولوجي لخدمة أهداف سياسية فجة، يفقد التاريخ هنا أي علمية تسعى لفهم قرارات أي حاكم أو حكومة في إطار عصرها والمعطيات المتوفرة، لصالح بناء تبريرات تخدم مشروعها السياسي أو تنتقد المشروع السياسي المناقض، عبر عملية انتقاء تخفي وقائع وتحرفها بحسب الغرض والهدف، كأنها مجموعة من الصور المنتقاة بعناية من حياة شخص لإعطاء تصور معين عن هذا الشخص، بطبيعة الحال لا يمكن الحكم على شخص من مجموعة صور، خاصة إذا كان الشخص الذي اختار هذه الصور صاحب غرض.
نحن هنا لا نتحدث عن تفسير وقائع بل عن عمليات تشويه متعمدة وواعية لإعادة إنتاج سردية غير تاريخية تطيح بالسردية التاريخية إلى الهامش. انظر مثلا التعاطي مع قرار النظام التركي بتحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، هو قرار سياسي بامتياز يخاطب به نظام أنقرة داخله المأزوم في إطار الخلطة المعتمدة بين القومية والإسلامية، لكن ما يهمنا هنا هو الزج بالتاريخ في الصراع، فبعض المولعين بالعثمانيين سارع بالترويج لوجود وثيقة وهمية تتحدث عن شراء السلطان العثماني محمد الفاتح لكنيسة هاغيا صوفيا وحولها إلى مسجد آيا صوفيا، بعد فتح مدينة القسطنطينية العام 1453، وهي خطوة لا تحتاج لأي تبرير من وجهة نظري في إطار فهم عصر محمد الفاتح، لكنها تخضع لمحاولات أسر التاريخ وتوجيهه وجهة إيديولوجية حاكمة في ظل سعي تيار العثمانيين الجدد لإعادة كتابة تاريخ سلاطين العثمانيين في إطار ملائكي، ولي الحقائق بهدف عدم تعكير صفو الرواية التاريخية المخترعة.
ففكرة شراء محمد الفاتح للكنيسة كلام لا أصل له، فالرجل أصبح حاكم المدينة الجديد والوحيد، ووارث الإمبراطورية الرومانية أو إمبراطورية الروم، لذا أطلق على نفسه على الفور لقب قيصر الروم، واعتبر نفسه إمبراطورًا رومانيًا، وجعل المدينة العظيمة عاصمة لإمبراطورية العثمانيين، وكان من الطبيعي من وجهة نظري أن لا يبقى على الكنيسة الضخمة متحدية شرعية العثمانيين، فكيف لهذا المعلم المسيحي الضخم أن ينتصب في عاصمة سلاطين بنوا شرعيتهم حتى هذه اللحظة على الجهاد ضد المسيحيين في البلقان؟
كانت مبررات السياسة والتحدي الحضاري الذي تمثله الكنيسة التي كانت الأضخم في أوروبا، وراء قرار تحويلها على يد محمد الفاتح إلى مسجد جامع، متجاوزًا حتى فكرة الرجوع لاجتهادات الفقهاء في التعاطي مع المدن المفتوحة صلحا أو عنوة، فهو لم يكن في حاجة لاستخدام وثائق مزورة لتبرير الواقعة.
لكن على أي حال تحولت آيا صوفيا إلى عقدة حضارية للعثمانيين، الذين لم يصلوا إلى المستوى الحضاري الكافي لبناء معلم حضاري يوازي عظمة آيا صوفيا، وانتظروا أكثر من نصف قرن حتى بدأوا في بناء نماذج على غرار آيا صوفيا، سواء جامع السليمانية أو جامع السلطان أحمد، فالمقصد الحقيقي لمحمد الفاتح هو إعطاء المدينة صبغة إسلامية سريعًا بتحويل رمزها الأبرز إلى معلم إسلامي، في وقت لم يكن لدى العثمانيين القدرة الحضارية على مقارعة آيا صوفيا، فهنا نحن أمام قرار سياسي للسلطان اتخذه وفقا لمقتضيات عصره سواء اتفق فعله مع آراء الفقهاء أم لا، وهو ما لا يعجب بعض الذين يحاولون إعطاء صبغة إلهية لأفعال سلاطين العثمانيين، الذين كانوا بطبيعة الحال بشرا يصيبون ويخطئون.
نترك العثمانيين وجدل آيا صوفيا، لننتقل إلى جدل آخر يتعلق بتقييم عهد محمد علي باشا، هناك الكثير من الأمور التي تحتاج إلى إعادة نظر في مثل هكذا تجربة تركت آثارها العميقة والعريضة في المجتمع المصري ومجمل العالم العثماني الذي كانت تتحرك داخله، وهي ليست بالآثار الإيجابية في المطلق، لكن هذا موضوع قد أعود إليه فيما بعد، وسنركز هنا على نقطة واحدة، تكشف كيف يتم تحويل التاريخ إلى مفعول به وأسير ينطق بلسان آسريه، دون أن يملك قدرة الدفاع عن نفسه، فالنقطة التي يتم إثارتها هي أن محمد علي لم يقم بتأسيس نموذج الحكم الرشيد، بل أن البعض يتحدث عن أنه لم يقم ببناء نموذجه الديمقراطي!
هذا الرأي بات منتشرًا ويكاد يتحول إلى يقين عند البعض، والأنكى أنها ينتشر بين التيارات المتباينة، فالجميع يحمل الباشا جرائم ما جرى في القرنين المنصرمين، بل أن محمد علي متهم بتجريد المصريين من السلاح (عن أي سلاح نتحدث؟) فأصبحوا فريسة سهلة أمام الغزو الإنجليزي العام 1882، بعدما كانوا يملكون القدرة على الدفاع عن أنفسهم مع ضرب المثل بثورة المصريين ضد الاحتلال الفرنسي (ثورة القاهرة الأولى والثانية).
هنا تم تقطيع التاريخ بمبضع جراح إيديولوجي يعمل على انتقاء أحداث معينة، ويعيد بناء سردية تاريخية على أساسها، تقوم على الحذف والإخفاء المعلوماتي للوصول إلى رواية تاريخية تخدم تصورات ذهنية متخيلة، لا علاقة لها بواقع ما جرى في سياق تاريخي مرتبط بزمنه وعصره، ولا يمكن الخروج عليه لأن ما نطرحه عليه من تصورات بنت عصرنا لم تكن مطروحة أصلا للنقاش وقتذاك، لأن الطبيعي أن نضع محمد علي في سياق عصره، وتكون محاولة فهمه في هذا الإطار.
مثلا من يتحدث عن إدانة محمد علي بسبب غياب الديمقراطية، لا يخطر على باله سؤال بسيط؛ وهو هل كان النموذج الديمقراطي معترفًا به في العالم حينذاك كي يمكن أن نتخيل ورود هذه الفكرة على بال محمد علي؟ الإجابة لا، مثلا السلطان العثماني الذي يخضع له محمد علي بالولاء كان مستبدًا مطلق الصلاحيات، والثورة الفرنسية عندما تولى الباشا حكم مصر كانت انتهت إلى إمبراطورية نابليونية، ثم عادت الملكية العام 1815، بمعاونة معظم الملكيات الأوروبية. ربما يكون النموذج الفريد هو نموذج الولايات المتحدة، وهو نموذج بعيد جدا عن أن يترك أي انطباع في ذهن محمد علي، فهل يمكن لباشا مصر ألا يكون مستبدا كما كان السلطان العثماني وغيره من حكام عصره؟ السياق التاريخي هنا حاكم وحاسم في فهم هذه النقطة، يمكن لك إدانة محمد علي من منطلق أخلاقي، لكنه سيكون هنا بعيدًا عن روح التاريخ في هذه النقطة، فالتاريخ يسعى للفهم لا أكثر ولا أقل.
نقطة أخرى تتعلق بنزع السلاح من يد المصريين وتركهم لقمة سائغة بين أنياب الاستعمار الغربي. المصريون لا علاقة لهم بالجيش الذي استولت عليه طبقة المماليك الهرمة مع بقايا قوات العثمانيين، والتي هزمت شر هزيمة أمام الغزو الفرنسي، بينما فشلت ثورة القاهرة الأولى والثانية في زحزحة الاحتلال الفرنسي، الذي كان من الممكن أن يستمر لسنوات لولا التدخل البريطاني للأسف، وليس بطولات المصريين ولا غضب العثمانيين العجزة.
فالأسطول البريطاني هو من دمر الأسطول الفرنسي في معركة أبو قير البحرية، وهو من فرض الحصار على القوات الفرنسية في مصر، ولندن في النهاية هي من قامت بإجلاء القوات الفرنسية، ومن المفارقات أن الفرنسيين سرقوا مجموعة من الآثار المصرية عند خروجهم، لكن بريطانيا استولت عليها وعلى رأسها حجر رشيد الشهير الموجود حاليًا في المتحف البريطاني!
الحديث عن أن محمد علي دمر قدرة المصريين على المقاومة تحريف للوقائع، لأن المصريين لم يكن لديهم هذه المقدرة أصلا لتدمر بعد قرون طويلة كانوا بعيدين عن أمور الحكم، ولم يكتشفوا ذواتهم من جديد إلا بعدما دخول في أجهزة الدولة التي أسسها الباشا على الطراز الأوروبي -وهنا نستطيع أن نتحدث عن مظالم عصر محمد على بشكل تاريخي لا متخيل- والهوية المصرية الحديثة أخذت في التشكل حتى وصلت إلى تجسدها الواقعي مع ثورة 1919، وهي هوية رافضة للاحتلال الغربي والسيادة العثمانية معًا.
أما الغزو البريطاني فقد تم بعد مقاومة مصرية تحت قيادة أحمد عرابي وخيانة عثمانية ممثلة في السلطان عبد الحميد والخديوي توفيق، لكن بهما أو دونهما كانت بريطانيا ستنجح في غزو مصر لأن أثر الثورة الصناعية والعتاد الجديد كان فارقًا وكاشفًا عن التطورات التي حدثت منذ غزوة الإنجليز الفاشلة المعروفة باسم حملة فريزر، والغزو الثاني العام 1882، فالمتغير هنا هو أثر الثورة الصناعية وليس ضياع كرامة المصريين على يد محمد علي.
لا يعني هذا التبرير المجاني لمحمد علي، فهو كأي حاكم عثماني كان يسعى لمجده الشخصي، وما فعله من مشروعات وتطوير في مصر لم يكن هدفه تحقيق نهضة مصرية (وإن تحققت هذه كأثر جانبي غير مقصود)، فهو العثماني فكرًا وولاءً ظل يفكر في الباب العالي حتى النهاية، ربما بصورة مخالفة عن طريقة تفكير ابنه إبراهيم، لكن هذا لا يعني أن مشروع الباشا -العسكري في صلبه والحداثي بالنسبة لمجمل العالم العثماني- كان شرًا في المطلق على مصر، كما لم يكن نعيمًا خالصًا على المصريين بأي حال من الأحوال، فمصر قد استفادت من إصلاحات محمد علي حتى ولو لم تكن مقصودة، ولكنها استفادة دفعت ضريبتها من دماء أولادها.
ومن الغريب أن بعض الذين ينتقدون محمد علي باعتباره المستبد الذي استغل خيرات المصريين في بناء مجده الشخصي، هم أنفسهم الذين يتغنون بأمجاد سلاطين المماليك والعثمانيين، بل ترى المرء منهم يتحدث بكل فخر عن الآثار المملوكية ويتناسى المظالم المرتكبة في حق الفلاحين المصريين الذين كانوا في أوضاع إنسانية شديدة البؤس، وهو نفسه وضع الفلاح في العصر العثماني، فالبعض يتحدث عن مجتمع القاهرة (مجتمع النخبة) تحديدًا، ويتناسى واقع غالبية الشعب المهمل في خانة التاريخ اللا مفكر فيه، وهو نفس موقف من ينشر بعض صور القاهرة الخديوية دليلا عن تقدم العصر الملكي، ويتناسى أن غالبية المصريين كانوا حفاة. أنها آفة القراءة الفوتوغرافية للتاريخ، التي تعتمد على مشاهد مقتطعة من سياقها ثم بناء تاريخ متخيل فوقها وتقديمه في صورة دعائية على أنه حقيقة دامغة، وهو ليس كذلك بكل تأكيد.