خلال أقل من أسبوع كانت الفضائح والأزمات السياسية تواجه بريطانيا وفرنسا وإيطاليا؛ أكبر دول أوروبا وأكثرها دعمًا لأوكرانيا في مواجهة روسيا بالسلاح والعقوبات. الأمر الذي ربما يشير إلى معارك مخابراتية تديرها صاحبة الكرملين داخل القارة العجوز، التي تنتظر موسم شتاء قارس، محرومة من دفء الغاز الروسي.
“لعنة أوبر” تطارد ماكرون
إذ بات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خضم أزمة عنيفة. ذلك بعد أن أرسل مجهول وثائقًا إلى صحيفة “الجارديان” البريطانيّة، تتعلق بإدارة ماكرون ملف شركة “أوبر” حينما أرادت العمل بالسوق الفرنسية، في فترة توليه وزارة الاقتصاد في حكومة فرنسوا هولاند بين عامي 2014 و2016.
تقول الوثائق إن “أوبر” توصلت إلى “صفقة سرية” مع ماكرون بصفته وزيرًا للاقتصاد. وتشير إلى اجتماعات سرية تم عقدها بمكتبه ومواعيد ومكالمات ورسائل قصيرة بين فرق “أوبر فرنسا” من جهة وماكرون ومستشاريه من جهة ثانية، كان هدفها التفاف الشركة على التنظيم الحكومي الصارم لقطاع النقل.
إلا أن ماكرون دافع عن تلك الاجتماعات، مؤكدًا أنه من الصعب خلق وظائف بدون أعمال ورجال أعمال، وأنه سيستمر في مقابلة الشركات ورجال الأعمال لإقناعهم بالاستثمار في فرنسا وفتح القطاعات التي يتم فيها حظر النشاط من أجل خلق فرص العمل.
المعارضة: صفقة ماكرون نهب للبلاد
وقد اعتبرت النائبة ماتيلد بانو، رئيسة كتلة “فرنسا الأبية” البرلمانيّة، هذه الصفقة عملية “نهب للبلاد”. وقال زعيم الحزب الشيوعي فابيان روسيل إن الوثائق تظهر دور ماكرون في تسهيل تطور أوبر بفرنسا ضد كل القواعد والحقوق الاجتماعية للعمال. يقصد روسيل ملف سائقي سيارات الأجرة الفرنسيين الذين أضربوا قبل دخول أوبر السوق وعرقلوا حركة المرور بباريس في احتجاج وطني. ما سبب مشاكل في بلد يأخذ حقوق العمال على محمل الجد، ويدافع عنها بقوة.
نموذج أوبر فرنسا كان في عرف الكثيرين “لعنة” ترادف انعدام الأمن الوظيفي وإضفاء الطابع العرضي على العمالة. خاصة وأن سائقي سيارات الأجرة المرخص لهم في فرنسا يعملون في ظل نظام تنظيمي يتطلب 300 ساعة من التدريب الإلزامي. وهو ما لم يتم تطبيقه على سائقي أوبر.
يقول جون بارديلا، رئيس حزب التجمّع الوطني اليميني المتطرف، عبر “تويتر”، إن الوثائق تكشف أن مسيرة ماكرون المهنية كان هدفها “خدمة المصالح الخاصة، الأجنبية منها في كثير من الأحيان، قبل المصالح الوطنية”.
واستدل النواب الذين هاجموا ماكرون إلى تقرير آخر لـ”لوموند” قالت فيه إن مارك ماكجان، عضو جماعة الضغط المهني الذي قاد جهود أوبر للفوز بصفقات في أوروبا، دعم لاحقًا حملة ماكرون الرئاسية في 2016-2017.
استقالة جونسون وجاسوس موسكو
رغم استقالة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون من منصبه تحت ضغط موجة الاستقالات التي ضربت حكومته. يبقى لقائه ألكسندر ليبيديف، عميل الاستخبارات الروسية (كيه جي بي) في إبريل/نيسان 2018 من دون حضور أي مسؤول بريطاني معه، محل جدل قد يدفع إلى محاكمته. وقد أقر جونسون بهذا اللقاء، خلال استجوابه في 6 يوليو/تموز الجاري، من قبل النواب رؤساء اللجان المتخصصة في البرلمان البريطاني.
وكان ألسكندر ليبيديف جاسوسًا لـ”كيه جي بي” في لندن بنهاية الحرب الباردة. وفي عام 1988 بدأ يركز على الأعمال والاستثمارات، خصوصًا في مجال الإعلام. وقد تفاخر بعمله كجاسوس في مذكراته “اصطياد المصرفي”. وفيه يفصل خدمته كجاسوس التي تقاعد منها عام 1992 برتبة عقيد. وقد فرضت كندا حظرًا عليه الشهر الماضي بسبب الحرب في أوكرانيا، متهمة إياه بمساعدة الحكومة الروسية في جهود الحرب.
كان جونسون يشغل منصب وزير الخارجية، عندما أجرى رحلة سرية إلى إيطاليا عام 2018، ورفض الكشف عن تفاصيلها. لكن بعد فترة وجيزة، ظهرت صورة له بمطار في إيطاليا ليتضح لقائه بألكسندر ليبيديف. ذلك أثناء إقامة جونسون في قلعة في بيروجيا يملكها إيفجيني نجل لييديف، لحضور حفلة عطلة نهاية الأسبوع، مباشرة بعد حضور اجتماع وزراء خارجية الناتو في بروكسل، ناقش الوضع الأمني مع روسيا.
ويحقق نواب بريطانيون حاليًا في قرار جونسون تعيين إيفجيني ليبيديف في مجلس اللوردات عام 2020. رغم تقييم الأمر بأنه خطر على الأمن القومي.
استقالة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أثارت شماتة واضحة من موسكو. حتى أن وزير خارجيتها سيرجي لافروف قال نصًا: “غادر.. قال إنه يجب عزل روسيا، وفي النهاية، قام حزب جونسون بعزله هو شخصيًا”.
آثار الحرب تدفع حكومة إيطاليا للاستقالة
رغم ارتباط إيطاليا بمشكلة جونسون باعتبارها المكان الذي شهد اللقاء مع العميل السوفيتي السابق. لكن رئيس الوزراء الإيطالي، ماريو دراجي، الذي طالب أوكرانيا ألّا تستسلم في مواجهة العملية العسكرية الروسية وحمّل روسيا “المأساة الإنسانية الناجمة عن أزمة الغذاء العالمية، أعلن هو الآخر تقديم استقالته من منصبه إلى رئيس الدولة.
جاء ذلك بعد قرار حركة “5 نجوم”، ثاني أكبر حزب في البرلمان، عدم التصويت على الثقة في مرسوم دعم الشركات والأسر. بينما وصف رئيسها جوزيبي كونتي مرسوم الحكومة لدعم القوة الشرائية للأسر بـ”إعلانات نوايا ليست كافية”.
تعرض دراجي لضغوط متزايدة من عدة أحزاب في تحالفه الواسع الذين يريدون منه تخفيف الإصلاحات وربما تعديل وزاري. قبل أن يحدث انشقاق من قبل وزير خارجيته لويجي دي مايو وبرلمانيين آخرين.
اقترح زعيم الحزب الديمقراطي الإيطالي إنريكو ليتا، على دراجى، الإعلان عن برنامج لحكومته توافق عليه القوى البرلمانية الداعمة له لقيادة البلاد خلال ما تبقى من فترة توليه المنصب المتبقية. وذلك على خلفية بوادر أزمة حكومية جديدة تلوح في الأفق. لكنه قرر الاستقالة من منصبه.
المشكلة في إيطاليا تتعلق بقرار تخصيص 14 مليار يورو إضافية لدعم الأسر والشركات في مواجهة ارتفاع أسعار النفط التي سببتها الحرب الروسية. على أن تُضاف إلى 15.5 مليار يورو تم إقرارها سابقًا. ليبلغ الإجمالي 30 مليار يورو، ودون اللجوء إلى ملحق الميزانية.
صحيح، أن الحكومة استهدفت الدفاع عن القوة الشرائية للأسر والأكثر ضعفًا، وقدرة الشركات على الإنتاج. لكن نواب البرلمان شككوا فيها واعتبروها نوايا ليس أكثر.
استقالة رئيسة وزراء إستونيا.. توقيت صعب
في التوقيت ذاته، أعلنت رئيسة وزراء إستونيا، كايا كالاس، عن استقالتها رسميًا من منصبها مع أعضاء حكومتها. واقترحت عقد جلسة استثنائية للبرلمان في 15 يوليو/تموز لمنح التفويض إلى الائتلاف الحكومي الجديد.
وبحسب البيان الذي نشره موقع الحكومة، قالت كالاس: “جاءت حكومتنا لقيادة البلاد في وقت صعب للغاية، مع انتشار جائحة كوفيد وحرب روسيا وأوكرانيا وأزمة الطاقة. على الرغم من الوقت الصعب، قمنا بالعديد من الأشياء الجيدة والعظيمة لجعل الدولة الإستونية أقوى ولدعم شعبنا. فخلال الوباء، أبقينا المجتمع مفتوحا والأطفال في المدرسة.
كما ساعدنا الناس على مواجهة أسعار الطاقة المرتفعة، واستثمرنا مليار يورو في تعزيز القدرات الدفاعية لإستونيا، وحققنا تعزيز الدفاع عن الجناح الشرقي لحلف الناتو، وكنا أحد أكبر مؤيدي أوكرانيا. أنا ممتنة للوزراء الذين قدنا معهم البلاد لمدة عام ونصف. لقد كانت إستونيا في أيد أمينة”.
استقالة كالاس جاءت في ظل أكبر أزمة تشهدها البلاد منذ عقود مع ارتفاع التضخم إلى 20%، وتضرر دخل المواطنين من ارتفاع تكاليف الطاقة وأسعار الغذاء. إذ قفزت أسعار الكهرباء المنزلية بأكثر من 50% مع بطء النمو الاقتصادي، وهو ما جعل الوضع المالي صعبًا للغاية.
وتضررت البلاد أيضًا من العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، حتى أن ميناء مووجا القريب من العاصمة تالين يضم 12 ألف طن من “نترات الأمونيوم” شديدة الانفجار عالقة مع تطبيق عقوبات على شركات الكيماويات الروسية المالكة لها ما ينذر بحدوث كارثة أمنية في أي وقت، وفشلت الحكومة في إيجاد حلول لها.
وتحظر إستونيا قائمة طويلة من السلع الروسية مثل المشروبات الكحولية والأثاث والمنتجات الخشبية والإطارات الهوائية والإسمنت والكافيار والحاويات الصغيرة مثل القوارير الزجاجية، ردًا على الغزو الروسي لأوكرانيا.
وقد احتجت مؤخرًا لدى المبعوث الروسي على مدح الرئيس فلاديمير بوتن لحاكم روسي في القرن الثامن عشر كان قد استولى على مدينة أصبحت الآن إستونيا. ودعت موسكو أن تتوقف عن تهديد جيرانها وأن تدرك أن ثمن العدوان الذي شنته على “أوكرانيا باهظ بالفعل”.
المخابرات الروسية.. نفوذ كبير في أوروبا
توقيت الكشف عن صفقة أوبر في فرنسا، ولقاء جونسون بلييديف في 2018، إنما يكشف عن أدوار للمخابرات الروسية التي اكتسبت سمعة قوية وشهد نشاطها في السنوات الأخيرة انتعاشًا في أوروبا. وهو اتجاه يُحاط بدعاية إعلامية ليشهد على استخدام التجسس في المعارك الدبلوماسية بين موسكو والغرب.
فقبل سنوات تم طرد موظفَين روسيين بعد اعتقال ضابط في البحرية يسلم وثائق سرية إلى عسكري روسي. كما تم طرد العديد من الدبلوماسيين الروس بتهمة التجسس في الأشهر الأخيرة من بلغاريا وهولندا والنمسا وفرنسا وجمهورية التشيك.
وبحسب مارك جاليوتي، مؤلف كتاب “لمحة تاريخية عن روسيا”، فإن المخابرات الروسية تبنت عقلية الحرب، وتخوض معركة وجودية من أجل الحفاظ على مكانة روسيا في العالم. وهو اتجاه تشكل قبل 8 سنوات. خاصة أن فلاديمير بوتين لا يزال يعتقد بأن الثورة في أوكرانيا هي عملية نفذتها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وجهاز أم آي 6 البريطاني.
ويبدو أن موجة التظاهرات والإضرابات التي تشهدها دول أوروبية حاليا مثل إيطاليا واليونان وفرنسا وغيرها احتجاجا على ارتفاع الأسعار والمطالبة بتحسين الأجور تنذر بمزيد من الاستقالات في القارة العجوز. فموسم الشتاء على الأبواب، والحكومات عاجزة عن توفير مخزونات كبيرة للغاز تكفي ليس للإنتاج ولكن لتدفئة المنازل.