في قرار يبدو أنه يحاول التماهي مع تحديات العصر الجديد وتجديد دماء الثقاقة العامة، أصدرت وزيرة الثقافة الدكتورة إيناس عبد الدايم قرارًا بتشكيل لجنة جديدة لإدارة مكتبة الأسرة برئاسة الدكتور أحمد زايد، على أن تكون مهمة اللجنة وضع رؤية جديدة للمشروع الثقافي وإطلاق نسخة رقمية لأول مرة في تاريخ المكتبة.
النسخة المزمع إطلاقها ستتاح للقراء على منصة الهيئة العامة للكتاب التي حققت نجاحًا كبيرًا، وهذه هي الدورة الأولى التي تشهد تواجد قوي للكتاب الإلكتروني، كما سيتم بث القسم الرقمي من مكتبة الأسرة على منصة معرض القاهرة الدولي للكتاب على أن يتاح ـ مجانا ـ التحميل والقراءة في تركة ضخمة من الكتب تمثل ميراثًا إنسانيًا مهمًا للبلاد.
ومع الاعتراف بأهمية المشروع والدعم لإعادة تدويره وإنتاجه لكن تطرح بعض الأسئلة نفسها عن المحتوى وانحيازاته الفكرية والسياسية ونوعية الكتاب الذين سيتم النشر لهم، وهل سيتجاوز المشروع في ثوبه الجديد المشكلات التي تعرض لها سابقًا لأسباب عدة على رأسها أزمة الرقابة والقيود على الأعمال الفكرية والاجتماعية رغم الكثافة الكبيرة في ضخ الكتب النوعية من أغلب المجالات بما يستلزم نوعا من التذكير بالماضي وإنجازاته وإخفاقاته أيضًا ضمن سطور هذا التقرير.
اقرأ أيضًا.. مهرجانات مصر الفنية.. تسويق هابط للمحتوى وأثر سلبي على الإيرادات
عن مكتبة الأسرة
في عام 1994 تمخضت فكرته داخل اللجنة العليا لمهرجان القراءة للجميع برئاسة سوزان مبارك زوجة الرئيس الأسبق حسني مبارك والتي كانت ترأس اللجنة أنذاك. ومن تجمع شمل المجلس الأعلى للشباب والرياضة ووزارات التربية والتعليم والتنمية المحلية والإعلام والشباب وجمعية الرعاية المتكاملة انطلق مشروع مكتبة الأسرة.
وجود سوزان مبارك على رأس المشروع وفر له تمويلاً ضخمًا من وزارة التخطيط وبعض الجهات الآخرى لهذا بلغ دعم المكتبة حسب ميزانية عام 2010 حوالي 38 مليون جنيه، حسب تصريح حلمي النمنم وزير الثقافة الأسبق.
هذا التمويل السخي منح المشروع الأهلية للتطور وأصبح ينشر الكتب ولا يكتف بعرضها في المكتبات العامة فقط. إذ أصدرت مكتبة الأسرة عددًا كبير من الكتب في مختلف المجالات وبأعداد لم تسبق في تاريخ النشر المصري بهدف تشجع الجميع على القراءة وبعث حالة من النشاط في أوساط الثقافة العامة المصرية، ليصبح شعار المهرجان منذ بدء الحملة: القراءة لـ«الطفل ـ الشاب ـ الأسرة».
حتى الآن يعتبر رموز عصر مبارك مكتبة الأسرة من أهم ملامح إنجازات نظام الرئيس الأسبق. كتب تباع بأسعار زهيدة ـ لاتتجاوز سعر رغيف عيش حاليًا ـ وتستهدف نشر الثقافة والوعي من خلال تسويقها بين أكبر قطاع من المواطنين، وما ميز المشروع توفير أمهات الكتب والترجمات في شتى المجالات الإبداعية والفكرية والفلسفية. انعكس ذلك على ترسيخ القراءة في أغلب أوساط المجتمع المصري وأصبحت المكتبة من أساسيات الكثير من المنازل المصرية.
ساعد أيضًا في إنجاح المشروع وجود وزير عال الثقافة بحجم فاروق حسني، الذي قاد خلال فترة ترأسه لوزراة الثقافة مشروع مواز لترجمة 6 آلاف كتاب، وفي وجود قيادات تعي قيمة وقدر الوعي والعقل أصبحت مكتبة الأسرة تضخ 20 إصدار كل ثلاث أشهر بدعم يصل إلى 50% خلال مرحلة البيع للجمهور.
أين يقف المشروع الآن؟
نعمل بقوة في مشروع مكتبة الأسرة رغم ضعف المخصصات المالية مقارنة بالسابق، هكذا قال هيثم الحاج رئيس الهيئة العامة للكتاب في لقاء إعلامي له منذ أشهر، وقبل هذا التصريح بعامين كان “الحاج” يكشف أيضا وبشكل أكثر إيضاحا عن ميزانية المكتبة مؤكدا أنها تقف عند حدود 7 ملايين جنيه.
بالعودة إلى أحداث ثورة 25 يناير عام 2011 نجد أن المكتبة وبالتبعية مهرجان القراءة للجميع توقفا عن العمل إلى أن جرى إعادة تجويد الفكرة وتكليف الأديب الكبير إبراهيم أصلان برئاسة المشروع وبدوره شكل لجنة عليا تضم ثمانية أعضاء من كبار الكتاب والنقاد والمفكرين ـ من غير العاملين بالهيئة ـ لتخليص مكتبة الأسرة من رواسب الماضي وتقديمها للمجتمع في صورة أكثر قيمة وإنتاجية.
لكن أصلان وافته المنية في يناير 2012 قبل أن يجني ثمار خطواته الإصلاحية، بيد أن إصدارات مكتبة الأسرة في ثوبها الجديد بعد الثورة طرحت في معرض القاهرة الدولي للكتاب بدورته الثالثة والأربعين وهنا ظهر الخلل، إذ بحكم تركيبة إدارة اللجنة جرى التركيز في مجمل الإنتاج على الجانب الأدبي فقط، وأهُمل في المقابل النشر العلمي والفكري ما أسقط الرهان على المشروع في إعادة تشكيل العقلية المصرية من خلال التثقيف والإنفتاح على تجارب الإصلاح والتنوير في العالم.
حاولت الحكومة أنذاك مدفوعة بضغوط من نشطاء ثقافيين انقاذ المشروع ودعمته بمبلغ 8 ملايين جنيه فقط، إذ كانت تتوخى الحذر في الانفتاح على دعم المكتبة بسبب ارتباطها العضوي بزوجة الرئيس الذي قامت ضده الثورة وأسقطت عرشه. ومع ذلك لم يحقق المشروع نفس الزخم الذي كان عليه في التسعينات وخلال العقد الأول من الألفية الثانية عندما كان يصدر عن مكتبة الأسرة عشرات الملايين من الكتب تخدم 1500 عنوان في مختلف فروع العلم.
الضخ المكثف الذي كان عليه المشروع في مختلف ألوان العلوم والفنون دفع اليونيسكو للإشادة بالفكرة كتجربة ثقافية رائدة، ونادت بتعميمها على مستوى العالم وبالفعل تحفزت عدد من الدول لدراسة الحالة المصرية ونقل التجربة.
تحديات على طريق المشروع
سواء في السنوات الماضية أو خلال السنوات القادمة يمكن القول إن التحدي الرئيسي الذي لا يزال قائما هو كيفية تنسيق مكتبة الأسرة لعملها مع الهيئات الحكومية الأخرى لاسيما ذات الوظيفة المماثلة سواء داخل الهيئة المصرية العامة للكتاب، أو الهيئات الآخرى مثل الهيئة العامة لقصور الثقافة، والمجلس الأعلى للثقافة بحسب المترجم طلعت الشايب عضو لجنة مهرجان القراءة للجميع بعد الثورة.
يوضح الشايب أن التنسيق والتوفيق بين هذه الهيئات كان ضمن بنود تكليف اللجنة لإيجاد نوع من التوافق بين مطبوعات المكتبة ومطبوعات الهيئات الأخرى حتى لا يكون هناك ازدواجية في الجهود.
الرقابة والمحاباة.. أخطر أدوات الفشل
يمكن القول أن وعي الاوساط الثقافية في مصر بأهمية مشروع مكتبة الأسرة ومكانته الكبيرة بغض النظر عن أن أحد أهدافه كان تجميل وجه نظام مبارك دفع العديد من الأسماء اللامعة للموافقة على الانضمام لعضوية اللجنة العليا لمهرجان القراءة للجميع بعد ثورة يناير منهم أحمد زكريا الشلق، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة عين شمس وعضو مجمع اللغة العربية.
بحسب الشلق هذه الثغرة وغيرها حاولت اللجنة بعد إندلاع ثورة يناير الاشتباك معها وجعل مكتبة الأسرة مفيدة لجميع المصريين ومعالجة المشكلات القديمة مثل المعايير الغامضة التي يتم على أساسها اختيار الكتب لإعادة نشرها، والمحاباة والتفضيل للكتاب المنتمين إلى نظام مبارك، كما كانت طباعة صورة جيهان مبارك على ظهر كل كتاب منشور ضمن أحد أسباب عدم الرضا عن المشروع.
حاولت لجنة الإصلاح التي تشكلت بعد ثورة 25 يناير وفقا لـ”الشلق” الاستقلال تماما عن الدولة والتركز فقط على تطوير الجوانب الفنية للجودة مثل وضع معايير اختيار قوية بجانب رؤية شاملة للمشروع، إذ كانت تعاني المكتبة من الرقابة على أنشطتها رغم كل هذا المجهود والضخ الكبير في شتى ألوان الكتب، ولم تطبع أبدًا نصوصًا تنتقد الانظمة السياسية أو تدعو إلى العدالة الاجتماعية أو أي من القيم الحديثة لإدارة النظام السياسي.
وعدم استمرار لجنة الإصلاح لا يعني أن الأسباب التي وضعتها لم تعد تصلح للواقع الحالي، بل تكشف التجربة في كل مراحلها أن إنجاح المشروع يستلزم التخلص أولا من هذه القيود والانتصار بتجرد لـ الوعي والثقافة والمعرفة.