منذ إطلاق الدعوة للحوار الوطني الذي أعلن عنه رئيس الجمهورية في إفطار الأسرة المصرية يوم 26 أبريل الماضي، ولا تزال التفاعلات حول الدعوة تتراوح بين الحماس والإقبال على المشاركة، أو وضع ضوابط وضمانات لجدية الحوار، أو التشكيك والنأي عن الأمر برمته. فيما جاءت الخطوات الإجرائية التي تمت حتى الآن متمثلة في الإعلان في 8 يونيو عن اختيار نقيب الصحفيين ضياء رشوان منسقًا للحوار والأمين العام للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام محمود فوزي رئيسًا لأمانته الفنية، ثم الإعلان عن تشكيل مجلس أمناء الحوار في 26 يونيو (بعد شهرين من إطلاق الدعوة) بعد جولات من التشاور مع أحزاب المعارضة المصرية ليضم 19 عضوًا وعضوة، ثم اجتماع المجلس وبدء أعماله التحضيرية في 5 يوليو الجاري بإقراره للائحة تنظم عمل المجلس ومدونة للسلوك والأخلاقيات.
اقرأ أيضًا.. العفو منفرد وليس أول العلامات.. دلالات الإفراج عن حسام مؤنس
في هذا السياق ورغم تفاوت التقديرات والآراء والملاحظات حول اختيار المنسق ورئيس الأمانة الفنية وتشكيل مجلس الأمناء، وحتى حول بنود اللائحة ومدونة السلوك، إلا أن هذا كله يظل في إطار الشكل الذي يفترض أن يقدم دلالات على المضمون، لكنه ليس كافيًا وحده بالتأكيد، بينما تبقى هناك عدد من الأسئلة الرئيسية حتى لحظة كتابة هذه السطور معلقة دون إجابات واضحة ونهائية تحدد مسار الحوار المقترح والنتائج المتوقعة منه، وعدد من المخاوف المشروعة التي تحتاج للتعامل الجاد معها.
أول هذه الأسئلة، هو حول أسباب الدعوة للحوار في هذا التوقيت، بعد سنوات من إغلاق المجال السياسي والعام الذي بلغ ذروته في السنوات الأخيرة، وهو سؤال تتعدد التقديرات حوله ولا توجد إجابة قاطعة واحدة صحيحة، لكن أهميته تكمن في التعرف على ما إذا كان هذا الحوار هو تكتيك مؤقت أم بداية لطريقة مختلفة في التعامل مع الملف السياسي بشكل عام، وهنا لا يتعلق الأمر بالقناعات التي قد لا تتغير بقدر ما يتعلق بالخطوات والإجراءات التي يمكنها أن تخلق مناخًا مختلفًا ولو بشكل نسبي في المرحلة المقبلة.
ثاني الأسئلة هو حول أولويات وملفات الحوار الوطني، وهي بالتأكيد كثيرة ومتعددة، وحسب إعلان مجلس أمناء الحوار الوطني فإن هناك ثلاثة محاور رئيسية هي السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لكن يبقى أنه وفقًا لخطاب الرئيس في إطار الأسرة المصرية في سياق حديثه عن هذه الدعوة فإن ملف الإصلاح السياسي كان مؤجلًا بسبب الأولويات، وهو ما يعني أن السلطة باتت ترى الآن أنه آن أوان فتح ملف الإصلاح السياسي، وإتاحة الحوار والنقاش العام لكل القوى السياسية، وبالتالي فإن أول أولويات هذا الحوار يجب أن تكون بوضوح شديد ملف الإصلاح السياسي، الذي يشمل الكثير من القضايا، بما فيها ملف الحقوق والحريات، وفتح المجال العام سياسيًا وإعلاميًا ومجتمعيًا، وإدخال تعديلات تشريعية جادة على قوانين مباشرة الحقوق السياسية والأحزاب والانتخابات البرلمانية، والمواد القانونية المتعلقة بالحبس الاحتياطي والحبس في جرائم النشر والمحاكمات الاستثنائية وتحديد وتقييد بعض المفاهيم والمصطلحات المستخدمة في القانون التي يجرى التوسع في توظيفها، وتقييد سياسات التدوير في القضايا بنصوص قانونية، وقبل ذلك كله ملف سجناء الرأي الذي يشمل خطوتين رئيسيتين، أولهما هو تصفية ملف سجناء الرأي الحاليين المحبوسين سواء بأحكام قضائية أو على ذمة التحقيق بقرار من النيابة، وبطريقة سريعة وواضحة وبمعايير محددة ومعلنة، وثانيهما هو التوقف عن الملاحقة لأي صاحب رأي وعدم التعامل على أساس أن الحبس هو الأداة المطروحة للتعامل مع المختلفين مع السلطة أو المعارضين أو المنتقدين لها والتأسيس لمرحلة يكون فيها الرد على الرأي بالرأي وعلى الكلمة بالكلمة، طالما كانت في إطار الدستور والقانون والعمل السلمي.
ثالث الأسئلة هو حول سقف النتائج المتوقعة من هذا الحوار، وفيما يذهب البعض أنه يكفى الإفراج عن أكبر عدد من سجناء الرأي وفتح ولو ثغرات بسيطة في المجال العام لإتاحة بعض المساحة للأحزاب للحركة وبعض المساحة لأصحاب الرأي للتعبير عن رأيهم وبعض المساحة للإعلام لتناول قضايا وموضوعات مختلفة، يرى البعض الآخر إمكانية لسقف أعلى من المكتسبات التي تعيد التوازن النسبي لشكل الحياة السياسية والعامة في مصر، بما في ذلك تعديلات تشريعية جوهرية على بعض القوانين، أو تفعيل نصوص دستورية قائمة لم تفعل بعد، وهو ما يمكن اعتباره مفيدًا لكل الأطراف سلطة ومعارضة والأهم المجتمع بشكل عام، لكن يبقى أن اهتمامات وأولويات المجتمع بمعناه الواسع تركز أكثر على الجوانب والملفات الاقتصادية والموضوعات الاجتماعية، وهو أمر طبيعي وصحيح دون شك، وبالتأكيد يحتاج إلى أن يكون من بين نتائج وتوصيات هذا الحوار القابلة للتنفيذ بعض المخرجات المتعلقة بإجراءات اقتصادية عاجلة تحد من أثار الأزمة الحالية والواضح أنها ستستمر معنا لفترة مقبلة، وتخفيف وطأة الأوضاع المعيشية على عموم المواطنين بالذات طبقتهم الوسطى والفقيرة، لكن يبقى أن المدخل الحقيقي لضمان استمرار إمكانية التفاعل والنقاش العام وطرح مختلف الآراء ووجهات النظر والقدرة على التأثير لما فيه الصالح العام سواء في القضايا الاقتصادية أو الاجتماعية أو غيرها، هو ما يتعلق بملفات الإصلاح السياسي بفهمها الأوسع والأشمل.
أما المخاوف فهي تبدأ من أن يكون هذا الحوار مجرد مرحلة مؤقتة لحين تجاوز فترة بعينها أو أزمات بعينها، ثم يعود الوضع لما كان عليه، وهو تخوف حقيقي وجاد، لكن التفاعل معه بمنطق رفض الحوار ومقاطعته يبدو ترفًا لا يملكه أي عاقل أو مسئول أو مشتبك مع المجال العام، ثم أن الاشتباك مع الحوار والانخراط فيه والسعي لتحقيق أعلى قدر ممكن من النتائج هو أيضًا يحمل الداعين له والمشاركين فيه مسئولية واضحة عن ضمان استمرار تحقق نتائجه، وألا تكون مجرد دردشة وفضفضة تنتهي بدون نتيجة، أو بدون نتائج لا تفعل أو تنفذ، وصحيح بطبيعة الأحوال وبتوازنات القوى أن الحوار ونتائجه لن تحقق كل الأهداف أو المطالب المرجوة في كل القضايا والملفات، لكنها على الأقل تبدو فرصة سانحة تحتاج للاختبار وتتوقف نتائجها على الممارسة.
من بين هذه المخاوف أيضًا أن يمثل الدخول إلى ساحة الحوار قيدًا على المعارضة وممثليها والمشاركين منها على مواقفهم في قضايا ومواقف أخرى سواء طرحت ضمن ملفات وجلسات الحوار أو غيرها، وهو أمر لا يستقيم، فجزء من أهداف الحوار في حد ذاته هو التعبير عن آراء مختلفة وربما مناقضة، وينبغي أن يكون واضحًا للجميع أن المشاركة في الحوار لا تعنى التحاق المعارضة بالسلطة، ولا تبنى أيا منهما لمواقف الطرف الآخر بالكامل، ولا حتى الشراكة في مواقع السلطة، وإنما المطلوب أن تكون هناك بيئة مهيأة وأسس للنقاش العام وتقديم الأفكار والآراء ووجهات النظر المختلفة وتفعيل ما يتم التوافق عليه منها، فهذا حوار يجري بين أصحاب وجهات نظر مختلفة بالأساس للبحث عن مساحات مشتركة ممكنة قابلة للتنفيذ وخلق مناخ مختلف وأرضية مختلفة تسمح بالعمل والحركة والتعبير عن الرأي في مساحات آمنة دون تخوفات من ملاحقة أو عقاب.
أما أكبر المخاوف هو أن يتم تفريغ الحوار من مضمونه، بمعنى أن يتحول الحوار الوطني إلى حوار مغرق بالقضايا والملفات بحيث لا يستطيع بلورة مخرجات أو نتائج أو توصيات جادة في كل منها، أو أن تكون نتائجه مجهزة مسبقًا، أو أن تتحول جلساته إلى جلسات واسعة لا تتمكن من الاتفاق على مواقف أو توصيات محددة. وهنا يبدو دور رئيسي لمجلس الأمناء الذي تم الإعلان عن تشكيله، والذي يفترض أن يحدد أجندة الحوار والقضايا التي سيناقشها في كل محور، بما في ذلك قضايا مهمة وشائكة مثل بعض الموضوعات في الملفات الاقتصادية التي جرى طرحها قبل بدء الحوار (مثل وثيقة سياسة ملكية الدولة، وخطة الحكومة لمواجهة الأزمة الاقتصادية) أو ملفات السياسة الخارجية (مثلًا قضية التحالفات الإقليمية المطروحة حاليًا)، ويحدد طبيعة وشكل وآلية الجلسات التي لا بد أن تشهد توازنًا وتنوعًا في التعبير عن مختلف وجهات النظر وألا تتحول لمحاولات حشد لصالح رأي بعينه، فضلًا عن تحديد قائمة المتحدثين والحضور في كل جلسة بحيث تشمل كل أصحاب وجهات النظر وكذلك المسئولين والمتخصصين في كل قضية، وأيضًا تشكيل اللجان المسئولة عن محاور الحوار ومقرريها من خارج عضوية مجلس الأمناء الحالي لتوسيع قاعدة المشاركة من ناحية ولتعويض نواقص جوهرية في تشكيل المجلس مثل ضعف حجم مشاركة الأجيال الوسيطة والشابة على سبيل المثال.
وإذا كان ما سبق كله تساؤلات جادة ومخاوف مشروعة، فإن النتائج المرجوة (ولا أقول المتوقعة حتى تتضح الأمور بشكل أكبر) تستحق المحاولة، خاصة أنه في الحقيقة ليس لدى المعارضة المصرية ما تخسره أسوأ من الوضع الراهن، بينما لدينا جميعًا ما يمكن أن نخسره سلطة ومعارضة ومجتمع ما نخسره بالتأكيد إذا استمر الحال على ما هو عليه دون مساحات مختلفة، ويبدو الرهان على تجميد الأوضاع أو المزيد من احتقانها وصولًا إلى نقطة إنفجار اجتماعي أو شعبي رهانًا أحمق، لأنه في هذه المرة سيكون ضد الجميع وعشوائيًا وتحت ضغط أوضاع اقتصادية واجتماعية لا تحمل رؤية سياسية، ثم – وهو الأهم – فإن أي نظرة جادة وموضوعية لأوضاع السلطة من جهة – التي تواجه مشاكل وأزمات حقيقية لكنها لا تزال الطرف الأقوى من حيث موازين القوى – والمعارضة من جهة أخرى – والتي تعاني وعانت من أوضاع بالغة الصعوبة أدت لضعف كامل في تنظيماتها وحضورها وقواعدها – وللمجتمع – الذي يفتقد أطر سياسية وتنظيمية واجتماعية حقيقية تعبر عنه وعن مصالحه – تشير بوضوح لأن هذه لحظة تحتاج للإستفادة منها في تأسيس أوضاع مغايرة ومختلفة، أو على الأقل المحاولة في هذا الاتجاه.
لكن كي يكتب لهذه المحاولات حد أدنى من إمكانية النجاح، لا بد من بعض الخطوات الموضوعية والإجرائية، أولها كما سبق الإشارة تصفية ملف سجناء الرأي قبل بدء الحوار، حتى لو على مراحل متتالية لكن بأعداد معتبرة ومعايير واضحة ومدى زمني محدد، ثم ممارسة مجلس الأمناء لصلاحياته بشكل حقيقي بدءا من تحديد أجندة وموضوعات الحوار والمدعوين له وصياغة توصياته وحتى متابعة نتائجه وضمانات تنفيذها، ومرورًا بأولويات القضايا التي سيتم مناقشتها والمقصود هنا بالأولوية الترتيب الزمني وأن تكون المحاور بالتوالي وليس بالتزامن لعدة أسباب موضوعية أولها جاهزية الأطراف وإعداد الأوراق والأفكار والصياغات وثانيها تشجيع الخطوات والجلسات الأولى للحوار إن أسفرت عن نتائج حقيقية وجادة للمزيد من أطياف وأطراف المجتمع وشخصياته على المشاركة، وهنا ينبغي الإشارة لضرورة عدم التعجل في الجوانب الإجرائية لحين نضجها وإكتمالها وجاهزية كافة الأطراف لها، وأخيرًا ضرورة الوصول لتفاهمات وصيغ محددة بين أطراف السلطة والمعارضة حول ضمانات لتحقيق وتنفيذ النتائج التي سيسفر عنها هذا الحوار.