وُجِدت الأشياء والظواهر أولًا ثم أتى من بعدها الفِكرُ الإنساني. فالفكر هو انعكاسُ في ذهن الإنسان لكل ماهو موجودٌ وقائمٌ، وهو أساسُ الوعي الذي يدفع الإنسان بموجبه لأن يكتشف ما هو ممكن على طريق التطور. من هنا تأتي أهمية “الجَدل” الذي يختلف عن “الجِدال”، فالجدل يمكن تفسيره باعتباره تبادلًا مُتكافئًا للرؤى والأفكار بين طرفين أو أكثر للوصول إلى مساحات مشتركة من التفاهم لغرض التعايش على أرضية من تراضي القبول، أما الجِدال فينطوي على قدرٍ من المنازعة التى ربما تتحول في السياق التنظيمي إلى ما يشبه المناظرة لغرض المُغالبة على أرضية من الهيمنة أُحادية الطابع. يشترك الجَدل والجِدال في أن منطلقهما واحد وهو “التناقض” بين طرفين أو أكثر بحيث تكون المرحلة التالية لتجلي التناقض هي مناط الاختيار لانطلاق المسار، إما “الجَدل” وإما “الجِدال”.
ما يهمنا على المستوى النظري لعملية الحوار الوطني التي ستنطلق قريبًا هو مسار “الجَدل” الذي تحكمه ثلاثة قوانين هي التناقض، والتراكم الكمي والتغيير النوعي، ثم نفي النفي. التناقض في المجتمع ليس أُحاديًا أبدًا وبالتالي هو ليس تناقضًا ميكانيكيًا يسير في خطٍ واحدٍ وإنما هو تناقضٌ مُركبٌ مُتَعَدِدُ المستويات وإن ارتكز على تناقضٍ رئيسي، والتراكم الكمي عادة ما يفضي إلى تناقض نوعي شامل في كل عناصر المجتمع الاقتصادي منها والسياسي والاجتماعي، وبالتالي فإن وَعي عملية التحول من الكم إلى الكيف الذي يسمح بفهم الأشياء والظواهر والربط فيما بينها هو الذي يُمَكِنُ من الانتقال إلى القانون الثالث وهو الأهم، “نفي النفي” أو “التركيب”. وهنا تجدر الإشارة إلى ضرورة التفرقة بين “النفي” و”نفي النفي”، فالنفي يعني أن يتحول النقيض إلى نقيضه بشكل مُطلق أما “نفي النفي” فهو يعنى تعايش التناقضات في “تركيب” جديد، وهذا على وجه التحديد ما يهمنا فيما يتعلق بالسردية النظرية المتصلة بالحوار الوطني. فنجاح عملية الحوار مرهون بفهم المشاركين أن طرفًا لن ينفي الآخر وأن مُناظَرَةً لن تقع وأن مفاوضةً لن تحدث بل هو توافق عام يفضي لاحِقًا إلى مُنطَلقَاتٍ تفصيلية حسب الاتفاق.
ولعل تشكيل مجلس أمناء الحوار الوطني وسواء اتفقت أم اختلفت على شخوص أعضائه، قد جاء -بحكم تنوع خلفياتهم الفكرية- تعبيرًا عن هذا مفهوم “نفي النفي” الذي يشكل في ذاته ضمانةً مبدئيةً على عدم هيمنة تيار بعينه على إدارة الحوار ومن ثم على مخرجاته فيحيد به عن أهدافه ويشوش مقاصده.
على مستوى الممارسة العملية، تشير ياديرا سوتو، المنسق السابق لبرنامج تعميق الحوار وتسوية النزاعات التابع لمنظمة الدول الأمريكية إلى مسألتين بالغتي الأهمية كانت قد خَبرت تجربتهما عندما كانت تدعوها بعض حكومات دول أمريكا اللاتينية لمساعدتها في إطلاق أعمال حواراتها المجتمعية، وهما “المشاركة” Engagement و”إنهاك الحوار” Dialogue Fatigue وهما مسألتين مرتبطتين من حيث الجوهر والأثر المتبادل. كان مواطنو بعض مجتمعات تلك الدول يحجمون عن المشاركة في أي حوار لأسباب متفاوتة، ما جعل من تماسك عملية الحوار وتعبير المتحاورين عن تمثيلٍ ثقافيٍ مقبول في ضوء معايير مجتمعية مُتَفَقٌ عليها أمرًا بالغ الصعوبة حيث لا يمكن -عمليًا- لمن لا يرغب بالمشاركة في شيء ما أن يتم إرغامه على مثل هذا الفعل، وهو ما يبرز أهمية ترسيخ القناعة بجدية الحوار ويؤكد ضرورة توافر الدافع للمشاركة من خلال إدراك المواطنين لأهمية تلك المشاركة كممارسة عامة ومن خلال إحساسهم بأن مشاركتهم الشخصية سينتج عنها قيمة مضافة من شأنها أن تسهم بشكل إيجابي في تطوير عملية الحوار التي تتبلور نتائجها في صورة تراكمية لمساهمات فردية من المشاركين جميعًا.
من زاوية أخرى، فإن الإسراف أو الإسهاب في عملية الحوار قد يخرج بها عن نطاقها المحدد وهو ما يفضي إلى مزيدٍ من التواصل لكن مع قليلٍ من التفهم بما قد ينتهي إلى نتائج لا ترقى للمستوى المأمول. وقد أشارت “سوتو” في سياق عرضها لهاتين المسألتين إلى عدة تحديات تختبر فعالية أعمال الحوار تمثلت في كيفية التعامل مع مستوى تعقيد القضايا المطروحة في إطار المحاور المختلفة، وضرورة الاتفاق على المفاهيم والمعاني، وأهمية الإدارة بشكل يسمح بالتشاور والمداولة (لا المُناظرة أوالمفاوضة)، مع حتمية التركيز على إنجاز نتائج مبتكرة ومستدامة.
لا أحد يملك ترف إهدار فرصة الحوار الوطني السانحة سواء بالتعالى عليها والإحجام عن المشاركة بها، أم بالإسراف في “الجَدل” الذي ينحى بالعملية كلها صوب “الجِدال” الذي يفرغها من أهدافها ومقاصدها فيخرجها عن مسارها بتفاصيل مُرهِقَة تفقدها قيمتها الثمينة، فلا التقتير واجب ولا الإفراط جائز.
*راجع كراس “الجدل والتصور المادي للتاريخ” للمرحوم سلامة كيلة.
**انظر الصفحة 15 من الرابط
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا