كتبت- فاطمة الزهراء بدوي
لا تزال الفجوة بين المهارات المتوفرة فعليًّا لدى مُخرجات التعليم المصري وبين المهارات المطلوبة لوظائف سوق العمل المستقبلي في اتساع شديد. حيث تستقبل الجامعات سنويًّا مئات الألوف من الطلاب وبعدها ترسلهم إلى سوق العمل غير مؤهلين وغير أكفاء للعمل.
ووفقا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فإن هناك نحو 3.4 مليون طالب كانوا مقيدين بالتعليم العالي للعام الجامعي 2020/2021. واستحوذت الكليات النظرية على العدد الأكبر منهم. مثل كليات التجارة والحقوق والآداب.
ورَغم الأسباب الواضحة لبطالة الخريجين وضعف مؤهلات عدد كبير منهم. والتي تتضمن في ثناياها مثلا الخلل في توزيع الطلاب على التخصصات المهنية. غياب التنسيق بين المؤسسات التعليمية من ناحية ووزارة القوى العاملة وجهات التوظيف من ناحية أخرى. والتغيرات المتلاحقة في سوق العمل. وضعف وجود قاعدة بيانات للقوى العاملة. والتباين الواضح بين مزايا وظائف القطاع الحكومي ووظائف القطاع الخاص. والنظرة الدونية لبعض المهن وبالتالي ضعف الإقبال عليها. فإن هناك العديد من الخريجين في تخصصات مختلفة يستعرضون لـ”مصر 360″ أسبابًا أكثر عمقًا ويوضحون معاناتهم بعد التخرج.
ملل ما بعد التخرج وضياع حلم الوظيفة
لم تكن فرحة معظم الطلاب بعد تخرجهم إلا فرحة مؤقتة. لا تلبث أن تختفي ويحل محلها كآبة ومشاعر سلبية وانعدام الطاقة.
“أكتر حاجة صعبة قابلتني بعد التخرج هو ملل ما بعد التخرج. إني مش عارفة أنا رايحة على فين. وغير مُدركة الخطوة القادمة اللي المفروض أعملها. ولما فكرت في الشغل لم أجد أي فرصة مناسبة على الإطلاق. والتزمت فترة في عمل لكن تركته لسوء المعاملة. أشعر بأن وقتي يمُر ويومي يمُر بلا فائدة”. هذا ما قالته زينب رضا خريجة كلية الخدمة الاجتماعية لعام 2021.
ويقول خريج في كلية العلوم -رفض نشر اسمه- إن اليأس يغلب على سلوكيات حديث التخرج ويُفضل البقاء وحيدًا برفقة مخاوفه وقلقه. كما تغيب الرؤية الواضحة. لأنه بجد نفسه فجأة في سوق عمل مختلف جذريًّا عن بيئة الجامعة والدراسة. وأكثر ما أزعجه بعد التخرج هو التعامل مع أُناس أنانيين بشكل مطرد: “كله في العمل ماشي بمبدأ مصلحتي أولاً”.
اشتراط وجود خبرة
“أنا اتخرّجت من سنة وإلى الآن للأسف ماتقبلتش في أي وظيفة. وطبعًا ده سبب لى إحباط كبير”. هكذا بدأت إيمان فؤاد خريجة كلية “تجارة إنجلش” لعام 2021 حديثها لـ”مصر 360″.
وتستطرد: “أنا تخصص مُحاسبة وكنت أسعى للحصول على فرصة عمل في مجالي. لكن أغلب مقابلات العمل كانت محتاجة لناس خبرة. وهذه هي أغلب أسباب الرفض: “هما عاوزين حديثي التخرج ويكونوا اشتغلوا قبل كده! بالإضافة إلى أنه في أغلب مقابلات العمل أشعر أن الـHR أو مسئول الموارد البشرية بيتكلم على أساس أنت كده كده هتترفض. وهناك عدم مصداقية بشكل كبير جدًا ده غير الأسلوب السيئ”.
تضيف أن مكاتب المُحاسبة إذا قبلوا توظيفك عندهم سيعرضون عليك مرتبًا زهيدًا: “1000 جنيه شاملة المواصلات”. لأن العمل لديهم ليس من المكتب بل يحتاج إلى كثرة الحركة والمشاوير الكثيرة. ليجد الفرد في النهاية أنه لم يحصل على أي مرتب من عمله بحجة أنك حديث تخرج ونحن نعطيك خبرة. فليس لك أن تطالب بحقك.
وتوضح أن أكثر الفرص تكون في مجالي الـCall center كول سنتر والسيلز Sales. وهما مهنتان للتعب والإرهاق والاستهلاك فقط دون أي طموح أو مكسب. فقط يعتمد العمل فيهما على الـCommission.
وتوافقها الرأى نادية مدحت -خريجة كلية الآداب قسم اللغة العربية- فتقول: “إزاي هقدر أعمل سنوات خبرة وأنا لسة متخرجة؟!”. وترى أن تأخر استخراج شهادات التخرج أيضًا كان عائقًا أمامها عند تقدمها لأماكن العمل.
وتشير إلى أنه إذا تدرب حديث التخرج في مكانٍ ما وحصل على سنوات من الخبرة وذهب بعدها ليُقدم في وظيفة سيقولون له إنهم يحتاجون إلى خريج لهذا العام أو طالب يدرس في عامه الأخير ليسهل قبوله بمرتب ضعيف.
وظائف شبه مجانية.. المرتب مجرد فكرة
هناك خلل واضح في نظام الأجور والمرتبات في مصر. حيث إن المرتبات في مصر لا تزال ضعيفة أمام تزايد أعباء المعيشة. وهذه الضائقة تزداد عنفًا واستغلالاً لحديثي التخرج باستحلال طاقاتهم من قبل أرباب الأعمال. فضلاً عن أن الكثير من الشركات لا تفي بالتزاماتها المالية وتتأخر في صرف الرواتب.
وفي هذا الصدد تقول “نادية مدحت” إن المرتبات بشكل عام ضعيفة جدًا. لا تكفي ثمن المواصلات ووجبة الإفطار يوميًا. ولإعطاء مرتبات جيدة يستوجب وجود خبرة. وهو الأمر الذي يُرجعنا إلى الحلقة المُفرغة فحديثو التخرج لا يحصلون على الحد الأدنى من الأجور.
وبشكل عام الموظفون الذين لديهم خبرة من سنتين إلى خمس سنوات يكسبون في المتوسط 32٪ أكثر من المبتدئين في جميع الصناعات والتخصصات. ويختلف التغيير في الراتب بناءً على الخبرة بشكل كبير من موقع إلى آخر ويعتمد على المجال الوظيفي أيضًا. ويعتبر 25٪ من السكان يكسبون أقل من 4860 جنيها.
تخبط البدايات
ويُلخص باسل -خريج كلية الهندسة قسم عمارة- مشكلات عديدة لحديثي التخرج. ومنها التشتت والتخبط في البداية وعدم معرفة التخصص الأنسب في العمل أو عدم وضوح المجال.
“طبعًا في الفترة الأولى الواحد كان بيحاول يبحث عن فرصة عمل وهو ليس لديه خبرة. وأغلب الشركات عاوزة خبرة. فبيبقى الموضوع فيه تعجيز. واشتغلت في مكان لمدة 3 شهور لكن ماكنتش مرتاح وشعرت إن مش ده التخصص اللي حابب أكمل فيه”. هكذا كانت فضفضة “باسل” لـ”مصر 360″.
ويضيف أنه بكثرة المشاريع والتدريبات بدأت تأتيه أفكار أخرى وعرف أي تخصص يريد.
ويرى أن حتى هذا الأمر البسيط لم يأت إلا من خلال الخبرة والاحتكاك بسوق العمل. وأن أسوأ ما في الأمر هو اعتبار أن طالما الشخص “فريش/حديث التخرج” فيحق لنا استغلاله وإعطاؤه أقل راتب: “لو الواحد في الشغل مطلوب منه الجزئية 1 و2 و3 هيدوله كمان 4 و5. لإنه حديث التخرج وهو اللي محتاج خبرة ومحتاج يتعلم!”.
ويشير إلى أن فريق العمل عليه عامل كبير: “من أكتر الأشياء اللي خليتنا نقدر نكبر بأماكن هي فريق العمل. وإننا كان همنا مصلحة بعض وتطوير مهاراتنا. ودي تعتبر نقطة مهمة جدًا. لأن كان في فترة تعاملت فيها مع فريق كان سيئ وغير متعاون وده أدى لعدم استقرار ونفور في النهاية لحد ما الفريق كله اتغير. بخلاف فرق العمل الأخرى قدروا يكملوا واكتسبوا صداقات هايلة فيما بعد”.
دينامو عملية التنمية الاقتصادية
“هناك علاقة وثيقة بين سوق العمل والتنمية الاقتصادية”.
هذا ما يؤكده الدكتور محمد راشد -أستاذ الاقتصاد بجامعة بني سويف. ويقول إن سوق العمل المرنة القائمة على التدريب والتطوير تعتبر المحرك الأساسي لعملية التنمية الاقتصادية. فالموارد البشرية التي تمتلك المهارات والمعرفة بمنزلة وقود التنمية الاقتصادية والاجتماعية نظرًا لانعاكسها على استيعاب العاطلين في سوق العمل وإدماجهم في العملية الإنتاجية.
كما يتعين القيام بالدراسات اللازمة لتحديد بوصلة سوق العمل بعد آخر المستجدات. وتحديد نوعية وأعداد الوظائف المطلوبة في كل قطاع. علاوة على تحديد المهارات والمعارف التي ينبغي أن يمتلكها الداخلون لسوق العمل وترجمة هذا الأمر إلى تطوير بنية التعليم. بالإضافة إلى أهمية التوسع في تفعيل التدريب التحويلي لسد الفجوة بين المهارات المتاحة ومتطلبات سوق العمل. مع ضرورة تعزيز الاهتمام بالتعليم الفني والتدريب المهني.
وأشار د. “راشد” إلى أنه يمكن فرض 1% على أرباح الشركات التي تتجاوز أرباحها المليون جنيه. لصالح صندوق لإعادة تأهيل وتدريب العمالة لإدماجهم في سوق العمل. وهو أفضل من إعطاء مبلغ للعاطلين تحت اسم “إعانة بطالة”.
البرامج المهنية والسراب
يختار عدد كبير من الطلاب في مصر البرامج المهنية أملاً في الحصول على وظيفة في القطاع العام. لأن الرواتب أعلى نسبيًّا. لكن هذا الحلم لم يتحقق بالنسبة لكثير منهم وفقًا لمسح أجراه مؤخرًا مكتب مصر لمجلس السكان “منظمة بحثية دولية غير ربحية”.
وتنقل سميحة عبد الغفار تجربتها حيث إنها بعد تسع سنوات من إكمال برنامج تدريب مساعد إداري في أسيوط ما زالت تكسب 700 جنيه مصري شهريًّا في منصبها بمكتب محاماة. بعد أن توقعت أن يؤدي تدريبها إلى حصولها على وظيفة أفضل. ولم تتمكن من الحصول على وظيفة في القطاع العام غير أن الرواتب في القطاع الخاص منخفضة كثيرًا.
وفي كل عام يكمل نحو 450 ألف طالب برامج مهنية في المرحلة الثانوية في مصر -إحصاء رسمي لعام 2017. فنحو 48٪ برامج صناعية و37٪ يركزون على الأعمال و12٪ يدرسون في مجال زراعي و3٪ في برامج الضيافة.
لكن عندما يدخلون سوق العمل فإن خبراتهم تكون سيئة. فضلاً عن الأجور المنخفضة وظروف العمل القاسية التي تجبر بعضهم على ترك وظائفهم. ففي عام 2018 كان نحو 49٪ من خريجي التعليم المهني في مصر عاطلين عن العمل. وفقًا لدراسة مجلس السكان. وإن معظم خريجي التعليم المهني الذين تم توظيفهم يعملون في القطاع غير الرسمي في ظروف عمل غير مناسبة.
عدم أهمية بعض الكليات في نظر القيادة السياسية
مع تزايد أعداد الخريجين الجامعيين سنويًّا بمصر وعدم وجود فرص عمل ملائمة لهم تحدث الرئيس في خطاب له مؤخرًا حول عدم أهمية بعض الكليات لسوق العمل. وأشار بشكل خاص لكلية الآداب التي تُخرج كل عام آلاف الطلاب ممن لا حاجة بسوق العمل إليهم. خاصةً من قسمي التاريخ والجغرافيا -حسب قوله.
ونصح الرئيس السيسي المصريين وقتها قائلاً: “على الناس أن تُجهز أبناءها للوظائف التكنولوجية الجديدة. بدلاً من تخريج آلاف الطلاب من كليات مثل الآداب وليس لهم مكان في سوق العمل”.
ولفت إلى أن الحكومة تلقت طلبات 300 ألف خريج للتدريب على تقنية المعلومات والبرمجيات. وذلك لتأهيلهم لوظائف تبلغ رواتبها نحو 20 ألف دولار،.لكن لم يجتز الاختبارات منهم إلا 111 فقط -على حد قوله.
وتعتبر من ضمن الوظائف التقليدية التي ستختفي في المستقبل القريب كما جاء في دراسة تحليلية: مُدخل بيانات-عامل التجميع في المصانع-مدير متجر-سائق السيارة-مدير حسابات-وكيل خدمة العملاء-مدقق مالي-السكرتير الإداري-ومسئول خدمات البريد.
في المقابل ستوفر سوق العمل العديد من المهن والوظائف الجديدة في المستقبل. ومنها: اختصاصي ذكاء اصطناعي-اختصاصي أمن سيبراني-مطور تطبيقات- مطور الواقع المعزز-اختصاصي خدمات تكنولوجيا المعلومات-اختصاصي تحول رقمي-فني روبوتات-ومهندس تقنية النانو.
نصائح للخريجين وتوضيح المهارات المطلوبة
يُنصح الخريجون بالتحضير لسوق العمل والحياة العملية حتى قبل التخرج. لكن هذا ليس بالأمر السهل ما لم تتم دراسة سوق العمل جيدًا قبل بدء رحلة البحث عن عمل.
وتم مؤخرًا إجراء مسح بعنوان “الخريجون الجدد في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 2021″ لمساعدة الخريجين الجدد على الاستعداد لدخول سوق العمل في مصر واختيار الأساليب المناسبة للبحث عن وظيفتهم الأولى. حيث إن البحث عن عمل بعد الجامعة أمر مجهد للخريجين الجدد الذين لم تكن لديهم خبرة كافية كمحترفين بدوام كامل في القوى العاملة.
وعند البحث عن عمل من المهم معرفة اهتماماتك المهنية أولاً. لأن الوعي الذاتي الكافي يساعدك على اتخاذ قرارات أكثر استنارة. وعدم الاعتماد كليًا على مؤهلاتك الورقية للحصول على وظيفة. ومن الأمور المهمة أيضًا التحدث إلى المدربين المحترفين والحصول على المشورة بشأن رحلتك المهنية.
وإذا كانت شخصيتك غير مناسبة للوظيفة فهناك احتمال كبير بأنك لن تدوم طويلاً في هذه الصناعة.
وتعتقد بعض الصناعات أن أنواعًا معينة من الشخصيات أكثر ملاءمة لشركاتها من غيرها. فعلى سبيل المثال قد تتطلب وظائف التسويق والمبيعات عمالًا بشخصيات من النوع B بينما قد يحتاج مقدمو الخدمات المالية إلى عمال بشخصيات من النوع A.
وتوفر WSG التنميط الشخصي لعملائها كجزء من خدمات المطابقة المهنية. مثال على ذلك هو اختبار الشخصية لمؤشر مايرز بريجز (MBTI). والذي يساعدك على استكشاف العناصر الأخرى لشخصيتك.
ولفهم نوع شخصيتك يمكنك تضييق نطاق البحث عن الوظيفة ليشمل شركات من مختلف الصناعات التي تناسب نوع شخصيتك.
ويفضل ترتيب العوامل التي تحفز أداءك -الحالة والراتب والشغف وما إلى ذلك. حدد ما يحفزك أكثر ووجه عملية البحث عن الوظائف في هذا الاتجاه.
أهمية الـ Soft skills واستغلال سنوات الجامعة
رغم أهمية المهارات التقنية أوالـHard skills التى يدرسها الطلاب من خلال المناهج والمُقررات الدراسية لإدارة الدور الوظيفي. ومكانتها المرموقة بين الأكاديميين والمهنيين فإن الـ Soft Skills العامل الأكثر أهمية لمعظم أصحاب العمل. وهي تلك المهارات التي تبحث عنها سوق العمل في الخريجين. وتشمل مهارات الحياة اليومية كـ”التواصل والتفاعل مع الآخرين والقدرة على التكيف مع الظروف والرغبة في التعلم من خلال التجربة”.
وفي هذا الصدد يقول الدكتور محمد عبد الرازق -مدرس مناهج وطرق تعليم العلوم والتكنولوجيا بجامعة حلوان- لـ”مصر 360″ إن هناك طلابًا لا يدركون أهمية السنوات الدراسية ويضيعونها في اللعب وخلافه. فضلاً عن عدم استغلالها في أشياء مفيدة وأخذ كورسات تؤهلهم لسوق العمل.
ويذكر أن المؤهلات العلمية لم تعُد كافية وحدها للحصول على وظيفة مرموقة. فقد أضحت المهارات الشخصية أكثر أهمية بالنسبة لأرباب الأعمال. بعدما وجدوا أن الأشخاص الذين عملوا على تحسين مهاراتهم أصبحوا أكثر تفاعلا ونجاحًا في حياتهم على الصعيدين المهني والشخصي. لذا ينصح الشباب الجامعيين باستغلال سنوات الجامعة في أخذ كورسات سواء أون لاين أو أوف لاين.
ويؤكد ضرورة تنظيم الوقت وترتيب الأولويات وتعلم اللغات -خصوصًا اللغة الإنجليزية- والتطوع في الأنشطة الطلابية لتنمية مهارات مختلفة مثل مهارة العمل الجماعي. فضلا عن تكوين علاقات مع فئات وكليات مختلفة وأيضًا التعلم الذاتي Self learning وعدم الاقتصار على تعليم الجامعة.