قصة تقليدية تمامًا -ربما تافهة بمعنى “قليلة”- حتى في نظر أغلب من تناولها بانعدام ثقة في بطلها محبوب النساء –تامر حسني. رجل يخوض قصتَي حب يتخبط في حياته بين فتاتين. يظهر اختلاف مدى صدق التعبير عن الحب بين الرجل والمرأة. فيلم “بحبك” بطولة وتأليف وإخراج تامر حسني. فيلم سيئ على مستويات وبمعايير السينما كافة. فما الذي يجعلنا نتحدث عنه؟ ربما لأنه بكل “تفاهته” يشير إلى أشياء جذرية في السينما المصرية منذ نشأتها كما تشير إيراداته المليونية إلى ملاحظة شديدة الأهمية في سياق السينما التجارية.
ثمة شيء تاريخي عام يمكننا طرحه والبدء من خلاله: كانت النشأة التجارية للسينما المصرية قد فرضت على الفيلم المصري أن يتجه منذ البداية إلى أن يكون هدفه هو “الترفيه”. فالترفيه وحده هو ضمان نجاح وضمان ربح كبير للمنتج فقط الذي لا تمثل له الصناعة نفسها أي شيء.
(تريلر الفيلم)
لماذا تنجح أفلام على هيئة تامر حسني؟
من هنا سقط الفيلم المصري كما أكد مرارًا الناقد الراحل رجاء النقاش في عيوبه الخطيرة وتكونت نتيجة ذلك شخصية خاصة من أبرز ملامحها “ضعف الفكر” في الفيلم المصري. وتوقفه عند درجة واضحة من “الثبات في التخلف” الذي ما زالت آثاره واضحة في السينما منذ زمن حتى الساعة. فلماذا استمر ذلك؟ هذا المقال يحاول تتبع الأمر في إيجاز.
إذا عدنا على سبيل المثال إلى موسم 1945 الذي يعتبر أكثر المواسم تدليلًا على ما أريد قوله لاستطعنا أن نستخرج 23 فيلما ميلودراما من بين مجموعة من الأفلام بلغت 52 فيلما في هذا العام.
هذه الأفلام موزّعة موضوعاتها الداخلية بعد تصنيفها كالآتي:
فتيات غرر بهن من شباب طائش في تسعة أفلام. اغتصاب في فيلمين. خيانة زوجية في ثلاثة أفلام. انتحار في ثلاثة أفلام. محاولة انتحار في فيلمين. حالة جنون في فيلمين. لماذا اختار كل هؤلاء اللجوء لتلك المظلوميات وقصصها؟
ثمة إجابة منطقية. لأن الجمهور يستعذب ذلك. يحبه ويتأثر به مهما كان ضعف حبكة صنعه أو انعدام سياقه. أو حتى عدم منطقية كتابته أو إخراجه. ويمكننا أن نلخص كل تلك الصفات والحبكات الرديئة في أغلبها بكل هذه الأفلام في فيلم تامر حسني الجديد. في طبخة سيئة لكنها مضمونة النجاح للجمهور العام الذي يذهب لطبخة النجم غير مهتم بفكرته.
هذه الأفلام عمومًا تعتمد على “الميلودراما” التي تعتبر الحل الأكثر سحرية إذا أردنا صناعة “رابحة”.
المصري يحب السهل
في عدد خاص عن “السينما والفكاهة” تنقل مجلة الهلال تصوّرا عاما عن وضع السينما بعد أربعين عاما بأن الجمهور المصري عمومًا “متخلف” يحب الأسهل والأكثر تناسيًا من وضعه البائس الفقير الهارب إلى خيالات المصادفات والأقدار التي تتعدل فجأة دون مقدمات. يستمر الاعتماد على هذا التصور بوعي أو غير وعي من قبل المنتجين.
الظروف العسيرة التي جعلت الشعب فقيرًا منذ أربعين عامًا مع السينما لا تزال هي ذاتها ظروفنا الحالية. تجعل الجميع أميل إلى تصديق ذلك وأكثر تأثرًا مع الحزن والكآبة دون سياق. وقصص الحب الممطوطة التي تحمل كل شيء من سطحه: حب شديد وخيانات وحرقة ورومانسية سائحةفي كل مكان. تمامًا تمامًا مثلما فعل تامر حسني الذي نقل مآزقه الغنائية وبكائيات شاب معذب ودونجوان إلى السينما.
تامر حسني وفرهدة المشاعر
هذا النقل الحرفي والتأويل الذي أقوله ربما يصبح تفسيرًا بسيطًا لعنترية تأليفه وإخراجه: الرجل لا يرى أهمية لأي شيء إلا تلك الطبخة التي تعج بالرومانسية والميلودراما دون سياق. ما يهم “جمهوره” وجود قصة حب طفولية مليئة بالطاقة والأمل والبعد والهجر والعذاب وكل تلك الفرهدة المدغدغة للمشاعر. وقد كان.
عمومًا ليس لدينا حرية تعبير. لدينا حرية كلام. “فهل تدرك الفرق؟”.
العالم يتوسع ويزداد جهله وغضبه من المنطق وربما في ذلك الوقت الأنسب للكلام الصامت. يخلق كل ذلك لحظة تاريخية مناسبة جدًا لرجل لا تساعده حنجرته كثيرًا. ومجتهد تمامًا يستغل ذلك في إطار التفاهة العامة وينجح في كل مرة ما دام الأمر كله “كلام”. خطاب تافه يزرعه لجمهوره لا يدّعي الحكمة كما خطابات كثيرة تتصور أنها تقدم عصارة أفكار عصرها. بينما لا يمكنها أن تقول أي شيء. هي وأصحابها كالعدم.
بوستر: أيها المراهقون تحت التراب
البوستر الرسمي لفيلم تامر حسني الأخير كان يقول كل شيء عنه: أيها المراهقون تحت التراب جئت أبكي. استمعوا إليّ عبر بكائيات كربلاء الجديدة تلك ولا تلتفتوا لسخرية العالم مني ومنكم.
استعطاف تشتريه مراهقات تمتلئ حياتهن بخطابات عنف وغضب عام وخاص. يتشبثن بالرجل الوسيم الحنون كحلم يقظة لا يحتاج الأمر إلى عباقرة يفسّرونه؟ انظر المعادلة التي صنعها الحظ ومررها الغباء العام: فرشة زمانية ومكانية تغلق الأبواب أمام أي شيء حقيقي. ورجل لا ينام لصناعة طبخة تذوق نجاحها منذ سنوات وألزم نفسه بتكرارها دون هوادة. وجمهور غاضب يشارك أخباره بدافع السخرية فيخلق ذلك نتيجة عكسية بكسب تعاطف جمهور أوسع مرة بعد الأخرى. امتعاض. سخرية. تقبل. امتعاض/ سخرية/ تقبل. وهكذا دواليك. فيربح تامر حسني وحده ويخسر الجميع.
خطاب تامر حسني يشتري رضا أكثر الخطابات النسوية تسطيحًا: براءة الحب لدى الفتيات وخيانة الرجل المولودة بمولده في إطار قصة مستهلكة يقدمها رجل غني وسيم طائش. قصة مهما احتقرتها يصبح من الجنون تجاهل انتشارها بين كثيرين وتأثرهم بها.
تقول الفتاة لصديقتها الزاهد الذي يحبها: “الواد زي القمر إزاي مش بتحبيه؟”.
وأسمع الضحك والآهات التي تؤكد حلاوته بنفسي في السينما من جمهور مراهق يتقبل ذلك بينما يحتقره آخرون دون منطق.
ثمة “أنماط” عديدة وواحدة تعتمد عليها السينما منذ نشأتها ترتبط بأشخاص بعينهم. علي الكسار مثلًا البواب الطيب الساذج. نجيب الريحاني الموظف البسيط. فؤاد الجزايرلي الزوج الضعيف المغفل. فريد شوقي الفتوة. محمود المليجي الشرير. وهكذا.
التنميط والإبداع و”التفاهة” العامة
هذا التنميط الذي يساعد على فقر الفكر والإبداع لدى الممثل والمشاهد -وبالتالي الصناعة- يعتمد عليه المنتج والرأسمالي الذي يراهن على نجاح طبخة قديمة وربما هكذا يراهن تامر حسني أيضًا بأفكاره “التافهة”: دونجوان رومانسي أسير قصص حب مختلفة. في منطقة يمكن وصفها بالقمة حصد تامر حسني بنجوميته وحدها ووسامته “المصطنعة” نحو 40 مليون جنية إيرادات. وفي هذا يستمر رهانه ونجاحه مهما تمادى في تسطيح السينما.
ثمة لحظة فارغة نعيشها جميعًا على المستوى الأدبي والسينمائي بالتبعية. يحتكم فيها الجميع إلى المضمون. لا وجود للمقامرة بالأفكار والنجوم. يعلم تامر حسني مدى شعبية جمهوره الغنائي. يستغل ذلك بكل ذكاء بنقل هذا الجمهور إلى السينما من خلال فيلم يحمل ألبوما جديدا من الأغنيات التي تفصلها اسكتشات قصيرة تؤهل أغنية إلى أخرى. يعلم تمامًا أنه في إطار “التفاهة العامة” يصبح الاحتكام إلى النجومية والشكل العام دون تفاصيل أو سياقات. يربح رهانه ويبقى غضب الحقيقة التي تنتظر أن يتغير كل ذلك.
نحن الآن في 2022. الزمن تغير كثيرًا. هذا التأويل النقدي من وحي زمنه لا يتجاوزه. مبني على التاريخ ومكتوب لإثبات اللحظة. نقطة هواء لا تعني شيئا سينمائيًا. لكنها دون وعي تكشف غطاء فراغ فكري وسياسي يعيشه الجميع. موسم عيد أضحى في قلبه “كيرة والجن” و”عمهم” و”بحبك”. ولا نبالغ إذا قلنا إنه بين هؤلاء لا يوجد من يفهم جمهوره ومحدودية موهبته وسياقات الفهلوة الناجحة بين الجميع وانعدام تقديم أي خطاب جاد قدر ما يفعل تامر حسني -متوسط الموهبة الغنائية والسينمائية- بالرغم من كل شيء ينجح ويستحق الإشادة. فتحياتي.