في أول رد لها على التصريحات الأمريكية المعلنة خلال قمة جدة ركزت إيران على كيل الاتهامات إلى الولايات المتحدة باعتبارها “العامل الرئيسي وراء التوترات في المنطقة”. فيما حاولت استمالة الدول العربية من خلال دعوتها إلى الحوار والتعاون الإقليمي بهدف اتخاذ خطوات بناءة لصالح الأمن الجماعي والسلام والتنمية المشتركة.
وتحاول إيران الاستثمار فيما تمخضت عنه القمة من مكاسب لصالحها. حيث كشفت القمة تباين وجهات النظر بين الولايات المتحدة والدول العربية. كما لم تنجح في تحقيق المآرب الأمريكية بشأن جذب الدول العربية في تحالف أمني إقليمي ضد إيران.
وجهة النظر الأمريكية
في ظل تعثر مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني ووصول إيران إلى ما يقرب من نقطة اللا عودة تجد أمريكا نفسها في مأزق أمام تعهدها بالوفاء بالتزاماتها الأمنية تجاه المنطقة. إضافة إلى أن إيران تشكل تهديدا شديد الخطورة على حلفيتها الأولى “إسرائيل”. وحاولت الولايات المتحدة خلال القمة اختزال المخاطر التي تهدد الدول العربية في النشاط الإيراني. في محاولة لشحذ الجهود العربية بالتعاون مع إسرائيل في مواجهة الخطر الإيراني. معتمدة في ذلك على أدوات هيمنة تحتاج إلى ترميم. بالإضافة إلى الحاجة الملحة إزاء فهم أن العالم صار متعدد الأقطاب مما يفسح المجال أمام العديد من الخيارات.
وجهة النظر العربية
تتبنى الدول العربية خلال السنوات الأخيرة استراتيجية تصفية الخلافات وإعلاء القيم الاقتصادية. وضرورة حلحلة الخلافات ووقف الاستنزاف المادي والبشري في الصراعات الدائرة بالمنطقة.
كما تبين من خلال توقيع اتفاقيات إبراهام وعودة العلاقات مع تركيا من خلال تكثيف التعاون في مختلف المجالات. وبالنسبة لإيران ترى الدول العربية أن طبيعة الظرف الحالي المرتبط بالمتغيرات الإقليمية والعالمية ترجح ضرورة حل النزاعات بالطرق السلمية. وأهمية استخدام الوسائل الدبلوماسية مع إيران لأجل تحييد الخطر الإيراني. وهو ما أكدته جميع الرسائل العربية قبل القمة. وكذلك خلال انعقادها. حيث توحد الموقف العربي حول إعلان سياسة اليد الممدودة إلى إيران.
مكاسب إيران من القمة
قبيل القمة بذلت إيران جهودا دبلوماسية متواصلة لأجل درء المخاطر التي تتوخى أن تسفر عنها القمة. لا سيما فكرة تكوين تحالف عربي إسرائيلي كإطار أمني مشترك لمواجهة إيران. كما توقع العديد من الخبراء أن زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بعد عام ونصف تقريبا من ولايته ستشكل نقطة تحول إيجابية في العلاقات الأمريكية الخليجية. ولكن جاءت القمة مخالفة للتوقعات من خلال بعض الدلالات. ومنها:
أمريكا ومصالحها فقط
عملت الحرب الروسية الأوكرانية على إعادة تعريف العلاقات الأمريكية الخليجية. حيث توالت التصريحات من جانب الرئيس الأمريكي منذ توليه لتؤكد عدم إدراج الشرق الأوسط في قائمة أولوياته.
ولكن منذ أن شنت روسيا الغزو سارع “بايدن” نحو جذب الدول العربية إلى المعسكر الغربي. كما عمل على حث دول الخليج على زيادة إنتاج النفط وزيادة الإمدادات إلى الدول الأوروبية. أي إن عودة اهتمام أمريكا بالخليج مرهونة بظرف الحرب وليس إدراكا حقيقيا من “بايدن” لأهمية تعزيز العلاقات مع دول الخليج.
وهذا ما أكدته قمة جدة حيث تضمنت أجندة “بايدن” الملفات الشائكة بالنسبة لأمريكا. وعلى رأسها الملف الإيراني والطاقة وحث الدول العربية على مزيد من التفاعل مع إسرائيل. دون النظر إلى ما يحتاج إليه الخليج أو تقديم امتيازات لأجل إعادة الود. “فماذا لو انتهت الحرب الروسية الأوكرانية؟”.
هذا ما أزعج الدول العربية التي تسعى إلى التزام ملموس من الولايات المتحدة بالعلاقات الاستراتيجية. حيث صرح رئيس مركز الخليج للأبحاث في الرياض عبد العزيز صقر: “أهم مطلب من القيادة السعودية وقادة الخليج الآخرين هو وضوح السياسة الأمريكية واتجاهها نحو المنطقة”.
تراجع النفوذ الأمريكي
بدأت العلاقات بين الولايات المتحدة وكل من الرياض وأبوظبي في التدهور منذ إطلاق القيود الأمريكية بشأن مبيعات الأسلحة. وكذلك عدم إشراكهما في محادثات إحياء الاتفاق النووي الإيراني. إضافة إلى فقدان الثقة بالقرار الأمريكي. لا سيما بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي عام 2018. ثم خروج القوات الأمريكية من أفغانستان. وبعد ذلك عدم رغبة أو الشك في قدرة أمريكا على حماية حلفائها الأوروبيين من وجهة نظر البعض مثلما حدث في حالة أوكرانيا. وهو ما ترك فراغا سياسيا واقتصاديا استغلته القوى الكبرى لأجل توثيق علاقاتها بالخليج. وكانت الحرب الروسية كاشفة لمدى عمق الخلاف بين أمريكا والخليج. حيث لم تنحز الدول العربية إلى أي فريق حفاظا على المصالح التي تجمعها بكل الأطراف والتزمت الموقف الحيادي على عكس الإرادة الأمريكية.
ويحاول “بايدن” إعادة تلميع صورة أمريكا كشريك استراتيجي. حيث أكد خلال القمة: “لن ننسحب ونترك فراغًا تملؤه الصين أو روسيا أو إيران”. في إشارة واضحة لمدى تعاظم خطر تلك القوى الثلاث على الوجود الأمريكي في المنطقة.
توترات أمريكا والسعودية
تعهد بايدن خلال حملته الانتخابية لعام 2020 بتحويل السعودية إلى دولة منبوذة. وقبل مجيئه إلى القمة أكد أنه لم يأت لأجل عقد لقاء ثنائي مع ولي العهد السعودي. وإنما زيارته تأتي في إطار المشاركة في قمة جدة واللقاء مع دول مجلس التعاون الخليجي والعراق ومصر والأردن. للتعامل مع أمن واحتياجات العالم الحر. وطبقا لجريدة نيويورك تايمز صرح بايدن بأنه أثار مقتل جمال خاشقجي خلال اجتماعه المغلق مع ولي العهد محمد بن سلمان. وعلى الجانب السعودي لم يبد القادة في السعودية حماسا تجاه زيارة بايدن. ونددت السفيرة السعودية لدى الولايات المتحدة ريما بنت بندر بالمرحلة التي وصلت إليها العلاقات الأمريكية السعودية. مؤكدة أن نموذج النفط مقابل الأمن “اختزالي وعفا عليه الزمن”.
الناتو العربي مرفوض
بعد انتهاء القمة نشرت وكالة أنباء “رويترز” تقريرا بعنوان “فشل في تأمين التزاماته تجاه محور أمني إقليمي يشمل إسرائيل”. حيث انطلق بايدن تجاه القمة بآمال تتعلق بإقناع القادة العرب بالاندماج مع إسرائيل كجزء من محور جديد يربط أنظمتهم الدفاعية الجوية معا لمواجهة الهجمات الإيرانية. وسكبت السعودية الماء البارد على آمال الولايات المتحدة في أن تساعد القمة في إرساء الأساس لتحالف أمني إقليمي -بما في ذلك إسرائيل– ضد إيران. إذ صرح وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان بأن قرار الرياض فتح مجالها الجوي أمام جميع شركات الطيران لا علاقة له بإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. وليس تمهيدا لمزيد من الخطوات. مؤكدا عدم وجود ما يسمى “الناتو العربي”. وأشار إلى أن منظومة العمل العربي المشترك وصلت إلى مرحلة “النضج”. مضيفاً: “نعرف ما نريد ونعرف كيف نحققه. لا ننتظر أي أحد ليحقق احتياجاتنا”. للتلويح بإمكانية الاستغناء عن الخدمات الأمريكية.
كذلك أكدت الإمارات عدم إمكانية إقامة تحالف في الشرق الأوسط على غرار حلف شمال الأطلسي.
الإمارات وعودة العلاقات مع إيران
تحاول الإمارات تحقيق التوازن بين واشنطن وإسرائيل وإيران مع سعيها لتجنب التوتر في المنطقة. للحفاظ على مصالحها الاقتصادية وقدراتها العسكرية. ولم تنجح التحايلات الأمريكية في تبني الإمارات نهجا تصادميا.
وعلى النقيض أعلن المستشار الدبلوماسي للرئيس الإماراتي -أنور قرقاش- أن الإمارات تعمل على إرسال سفير إلى طهران مع سعيها إلى إعادة بناء العلاقات معها. كما أكد أنه رغم مخاوف بلاده إزاء أنشطة إيران في المنطقة لكنها تريد العمل بجد لإيجاد حلول دبلوماسية.
السعودية وإيران وعلامات التقارب
أعلنت السعودية أن يدها ممدودة إلى إيران بهدف الوصول إلى علاقات طبيعية. كما أكدت جدوى المحادثات الجارية بين البلدين التي يرعاها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي. معلنة حسن نيتها بشأن إيجابية الحوار والدبلوماسية في حل الخلافات. خاصة فيما يتعلق بملف الأزمة اليمنية. والرغبة في التعاون مع إيران لأجل وقف إطلاق نار شامل باليمن ودعم الأمن والاستقرار هناك.
خسائر إيران
أما فيما يتعلق بالتداعيات السلبية للقمة على المصالح الإيرانية فهي:
فتح المجال الجوي للسعودية أمام إسرائيل
تعتبر إسرائيل نظام الملالي بمثابة العدو الأول لها. حيث تبنت إسرائيل مؤخرا عقيدة الأخطبوط. أي إنها تستهدف إيران ذاتها وليس أذرعها المنتشرة في مختلف الدول. وتحاول إسرائيل تدريجيا الانخراط مع الدول العربية. لا سيما مع الدول التي لم توقع بعد على اتفاقيات التطبيع.
واستطاع “بايدن” أن يكون أول رئيس أمريكي يطير من إسرائيل مباشرة إلى جدة. إذ تمخضت القمة عن قرار الرياض بفتح مجالها الجوي لجميع حركة المرور المدنية مع عدم التمييز بين الطائرات المدنية المستخدمة في الملاحة الجوية الدولية بموجب اتفاقية شيكاغو لعام 1944. ما يمهد الطريق للطائرات الإسرائيلية للقيام برحلات مباشرة من إسرائيل إلى السعودية ويثير مخاوف إيران.
التأليب ضد إيران
تبذل الولايات المتحدة جهودا مضنية لأجل تقويض نشاط إيران وتطويقها من مختلف الاتجاهات عبر الوسائل السياسية والعقوبات الاقتصادية والتشهير الإعلامي بسياستها.
ووقع كل من بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد اتفاقًا أمنيًا يعزز الجبهة المشتركة ضد إيران. حيث تعهد بايدن باستخدام القوة لمنع طهران من امتلاك أسلحة نووية. وبحضور رؤساء الدول العربية دعا بشكل خاص إلى تعزيز قدرات الردع المشتركة ضد التهديد المتزايد الذي تشكله المسيرات الإيرانية.
استخلاص عام إيران رابحة
من ذلك يتبين أنه رغم انطلاق الولايات المتحدة بكامل قوتها لمواجهة الخطر الإيراني فإن الأمر لا يتوقف على رغبة أو قدرة طرف واحد. ولكن موقف الأطراف الحاضرة بالقمة. وكذلك العلاقات البينية مع الولايات المتحدة ومع حلفائها الآخرين كانت عاملا رئيسيا وراء تقويض جزء كبير من الجهود الأمريكية وتحويلها إلى أوراق رابحة أمام إيران.