سافر القس أثناسيوس حنين لمرة أخيرة، وككل المرات التي سافر فيها طالبًا للعلم أو مستبعدًا من الكنيسة فإن سفره إلى السماء لا يقل صخبًا عن رحلاته الأرضية تلك وهو الرجل الذي خدم في كنيستين (القبطية الأرثوذكسية وكنيسة الروم الأرثوذكس) لا لشيء إلا لإيمانه العميق بالأرثوذكسية كطريقة للحياة وليس مجرد طائفة تفرض على رعاياها طقوسًا أو تعاليم.
أثناسيوس حنين بين جرحى النفي والاستبعاد
حمل اثناسيوس حنين في قلبه جرحي الاستبعاد والنفي وكأنهما صنوان متلازمان، فقد جاء قرار شلحه من الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في عصر البابا شنودة الثالث باعثًا له ليكمل رحلة ترحاله التي بدأها باحثًا في اللاهوت متنقلًا بين جامعات اليونان وفرنسا حتى استقر به المقام في اليونان ليؤسس كنيسة قبطية مصرية هناك قبل أن يباغته قرار الشلح فيقلب حياته رأسًا على عقب فيتحول من قس مبتعث للدراسة بالخارج إلى مشلوح لا يتمتع بصفته الكهنوتية كقس قبطي فما كان منه إلى أن انضم لكنيسة الروم الأرثوذكس لمداواة جرحه من ناحية ولتقليل شعوره بالنفي من ناحية أخرى بعد أن جرده قرار البابا شنودة من كل شيء بضربة واحدة، وطنه الفعلي وهو مصر ووطنه المجازي أي كنيسته.
لماذا تم شلحه من الكنيسة القبطية؟
في حوار سابق معه أجريته في العام 2019 كشف حنين أسباب شلحه تلك فقال: كنت مكلفا بتأسيس الكنيسة المصرية في اليونان، وقد عملت من أجل رفع اسم مصر ورعاية أقباط المهجر واستقبلت في أثينا السيد عمرو موسى وعدد من الشخصيات الكبيرة، واعتدت أن أرفع صوتي للمطالبة بحقوق الأقباط عبر وقفات احتجاجية هناك، وذهبت إلى فيينا فى مؤتمر حقوق الإنسان وقلت لأول مرة أن الأقباط لا يواجهون اضطهادا منظما ومبرمجا فى مصر ولا يوجد مخطط للقضاء على أقباط مصر ولكن هناك تجاهل لثقافتهم وتاريخهم وهويتهم إعلاميا وتعليميا مع إنها سوف تساهم في حال اهتمام الدولة بها في إعادة هوية مصر إلى الساحة وهنا امتعض الجميع وقامت الدنيا ولم تقعد ضدي وساقوني إلى قرار الشلح كما تساق الأنعام إلى الذبح.
كان مستقرًا لدى حنين إن أسباب شلحه لم تكن عقائدية وإن كانت نشأته كباحث قد تزامنت مع بزوغ نجم جورج حبيب بباوي أحد أشهر من استبعدهم البابا شنودة وحرمهم كنسيًا فقد كان حنين من ضمن الشباب الذين ابتعثهم مركز الدراسات الآبائية الذي أسسه الدكتور نصحي عبد الشهيد ليبعث الحياة مرة أخرى في حق الدراسات اللاهوتية القبطي بينما يرحل حنين بعد أقل من أسبوع من وفاة أستاذه الدكتور نصحي وكأنهما أرادا أن يستكملان نقاشًا لاهوتيًا في السماء.
اللاهوتي ذو الأربعين وجه
يقول مارك فلبس الباحث الأرثوذكسي عن اثناسيوس حنين: إن جاز لي أن استعير كلمة: “الهوية ذات الأربعين وجهًا” للمفكر الإيراني الكبير داريوش شايغان، فإن الاستعارة هنا تكون جائزة لوصف ذلك اللاهوتي الذي أجاد فنون صياغة معتقده المسيحي في ثياب الثقافة العالمية، الإنسان الذي عمل على رفع الحجاب المتوسط بين اللاهوت والحياة، وبناء الجسور بين القلاع الحضارية، وشق الدروب بين الكنيسة والعمل السياسي، بين الدين والفلسفة، وبين الكنائس الأرثوذكسية بعائلتيها الخلقيدونية واللاخلقيدونية.
يرى مارك فلبس إن اللاهوت عند أثناسيوس حنين، هو تجربة للارتحال ورفيق درب في آن واحد، ليس فقط للهجرة بين الأماكن: مصر واليونان والشام وأوروبا الغربية، بل أيضًا بين ألسنتها وأزخامها الحضارية وطرائق تفكيرها متابعًا: يكتب أثناسيوس كثيرًا عن أسفاره بين البلدان والأديرة والجامعات، وما كان ذاك الارتحال سوى حركة نحو قهر هذا الاغتراب الذي حدثَّنا عنه ذات مرة في احدى مخطوطاته: “صار القبطي يتيمًا ثقافيًا وتائهًا لاهوتيًا ومتغربًا ناسوتيًا”.
الكنيسة القبطية فقدت بوصلتها اللاهوتية
إذا كان أثناسيوس حنين يرى دائمًا إن الكنيسة القبطية فقدت بوصلتها اللاهوتية فإن مارك فلبس يصف حنين بالرجل الواحد ذو الأربعين وجه الذي يسافر بين الثقافات دون أن يغترب فيها، فظلَّت جذوره مصرية خالصة، تلك التي شبَّ عنها بلا انفصال إذ كانت رسالته للماجستير في كلية اللاهوت جامعة أثينا عن: ” مكانة البرية في التراث الرهباني القبطي في القرن الرابع “، سبقتها رسالة الدكتوراه في جامعة LIMOGES ليموج بفرنسا 2010م عن “الرهبنة المصرية والهوية القبطية” معقبًآ: كانت كلماته مليئة بالتعبيرات والأمثال الشعبية المصرية، كان يُحب العامية كثيرًا، وربما –حال صدورها- نقرأ لأول مرة لاهوتًا باللهجة الصعيدية!
يصف مارك فلبس، أثناسيوس حنين بالإنسان الذي تعلَّم الطيران من أجل الهجرة نحو “إنسانيته المتلهوتة” كما كان يحب أن يُسميها، أي تلك الإنسانية المشغولة بالآفاق الإلهية أينما رحلت، وهو في الوعي القبطي يُمثِّل ذلك الإنسان الكوني المتأهب دومًا للانطلاق نحو عوالم مغايرة يرغب أن يعيش فيها بكل قواه وخلجاته حقًا، بدون أن ينعتق عن هموم وطنه السياسية والدينية مضيفًا: كان أثناسيوس يعيش إنسانية بل وعلمانيته ووطنيته من خلال لاهوته، باستمتاع حقيقي بتلك الحياة، وبذائقة خاصة يندر أن تجدها في كنيسة تعلَّمت الانغلاق والانسداد وشربتهما شربًا.