خلال الشهور التي تلت ثورة 25 يناير 2011 وحتى يونيو 2014، عاش الشعب المصري أجواء استثنائية، فقد شهدت تلك الفترة أحداث متلاحقة وحالة من السيولة داخل الدولة، كما شهد الشارع المصري حشودا متعددة من مناصرين لقضايا وأفكار وتنظيمات، كما تخللت تلك الفترة لحظات عنف ومواجهات بين قوات الأمن ومتظاهرين، كما حدثت مواجهات بين متظاهرين من اتجاهات مختلفة.
ازدادت حدة تلك الأجواء في الفترة من أغسطس 2013 وحتى يونيو 2014، وهي الفترة التي تلت فض اعتصام رابعة وحتى انتخاب المشير عبدالفتاح السيسي رئيسا للجمهورية، كانت أكثر الجمل تكرارا هو سؤال “مصر رايحة على فين؟”، وهو سؤال يعبر بوضوح عن الحالة التي عاشتها الجماهير خلال تلك الفترة.
رأينا خلال تلك الفترة تحولات وتغيرات في المواقف، فقد تحول عدد من الساسة الإصلاحيين أثناء حكم مبارك الى الخطاب الراديكالي خلال فترة حكم الاخوان ، كما تحول أشد المعارضين لنظام مبارك الى مؤيدين لنظام السيسي، وقد شهدت الفترة التي تلت 2014 وحتى الأن تغيرات أخرى في مواقف ومراجعات لتلك الشهور التالية لثورة يناير.
الطبيعي أن تمضي تلك الفترة الى سبيلها وتخلف الدروس والعبر من المواقف والأفكار، ولكنها تركت مع دروسها ألاف من السجناء كانوا هم العبرة، فقد انتقلت أحداث تلك الفترة الى المحاكم ليتم إعمال القانون في أحداثها، وهو ما نتج عنه عشرات القضايا وآلاف المتهمين وارتباك واضح في مفاهيم القانون للتهم السياسية، كما ظُلم القانون بإحالة المتظاهرين إلى المحاكم بقوانين “البلطجة”، والتي بذاتها وضعت لوضع استثنائي آخر.
لا يمكن بحال أن نطبق نفس القوانين التي وضعت لتنظيم حياة المواطنين وحماية حقوق الفرد والمجتمع، في ظل الظروف العادية التقليدية، على لحظة استثنائية اختلط فيها الصواب بالخطأ، واضطربت فيها مفاهيم الحق والواجب، كما كانت الأحداث جماعية يشارك فيها عشرات الآلاف، وهو ما يصعب معه تحديد مسئولية أي من المشاركين عن التهم التي يوجهها القانون إليهم.
قابلت في السجن العشرات ممن تم الحكم عليهم بمدد طويلة لمجرد تواجدهم في مكان تظاهر، تمت محاكمتهم وفق قانون البلطجة، بتهم التجمهر وقطع الطريق وإتلاف الممتلكات الخاصة والعامة وغير ذلك من التهم، كثيرا منهم وجد بالصدفة في المكان الخطأ، وآخرين ربما تغيرت مواقفهم وقناعاتهم منذ واقعة القبض عليهم وبعضهم تم إخلاء سبيلهم ثم إعادة القبض عليهم بعد صدور حكم غيابي.
شارك في اعتصامي رابعة والنهضة الآلاف كما شارك في أحداث مجلس الوزراء 2011 الآلاف، هؤلاء الآلاف يعيشون حياتهم الطبيعية في هذه اللحظة، بعضهم قد نسي مشاركته في تلك الأحداث، وآخرون نادمون على المشاركة، والبعض لازال فخورا بمشاركته ومتمسكا بموقفه، تحتمل السياسة كل تلك المواقف، ولكن القانون لا يتحملها فلازال هناك مئات من المشاركين في تلك الأحداث يقضون أعواما في السجون، لمجرد أن حظهم العسر تسبب في القبض عليهم من مكان الحدث.
تتعالى خلال الفترة الماضية أصوات بالإفراج عن كل المتهمين في قضايا سياسية، وشهدت الجلسة الأولى لمجلس أمناء الحوار الوطني، عددا من المطالبات بالإفراج عنهم، وصلت الى مطالبة المنسق العام للحوار في المؤتمر الصحفي بسرعة الإفراج عنهم، كما يتذمر العديد من المشاركين في الحوار من تباطؤ عملية الإفراج عن السجناء، والتي ربما تكون عقبة حقيقية في سبيل نجاح الحوار.
لازالت لجنة العفو الرئاسي تعمل دون آلية واضحة أو معايير لمن يتم الإفراج عنهم، دور اللجنة هو مجرد جمع الأسماء وتقديمها “لمن يهمه الأمر”، وهو ما يبدو للمتابع وكأن الإفراجات تتم وفق أهواء ورغبات ومساومات سياسية دون أي درجة من درجات الشفافية.
أعتقد أن لجنة العفو من الممكن أن تضع في أولويتها كل المحكومين سياسيا في القضايا التي تخص الأحداث من يناير 2011 وحتى يونيو 2014، وهي الفترة التي شهدت سيولة شديدة دون ظهور دور واضح للقانون والدستور، وكانت ظروفها شديدة التميز والخصوصية بحيث أنها لا يجب أن تحاكم وفق القوانين الاعتيادية الخاصة بالظروف العادية، بل أن يتم النظر فيها بعين سياسية تضع في اعتبارها كل ملابسات تلك الفترة.
أتصور أنه لحل أزمة “سجناء الرأي” في مصر يجب أن يكون هناك عمل واضح ومعايير شفافة، وأن يكون العمل بالتوازي بين قضايا التحقيق، وهي التي لا يتم إحالتها إلى المحاكم ويخلى سبيل المتهمين أثناء فترة الحبس الاحتياطي ثم يتم حفظ القضايا، كما يجري العمل على القضايا التي تم الحكم فيها وفق مبدأ “شيوع الاتهام” والتي تم الحكم على الألاف فيها بسنوات من السجن تصل الى 15 عاما، بتهم التظاهر، ثم يتم الإفراج عن كافة المتهمين في كل قضية في وقت واحد، وتقفل القضايا إلى الأبد.
ربما كان الحل لهذه الإشكالية هو تطبيق مادة العدالة الانتقالية في الدستور، ولكن لأسباب لا نعلمها فلا زالت المادة مجمدة بين سطور الدستور دون تفعيل.