في كل مرة أفتح “فيسبوك”، يظهر لي منشور من إكرام يوسف والدة زياد العليمي، المحبوس منذ ثلاث سنوات، يحمل الفكرة ذاتها ضمنيا، ودون أن تتفوه بها مباشرة: لا تنسوا زياد.
دوما ما اعتقدت أن الجزء المرعب في الحبس على خلفية قضايا الرأي، هو أن ننسى أسماء من تعرضوا له، أن يسقطوا لا في قاع السجن نفسه، بل في هوة مظلمة في ذاكرتنا. وهو أمر للأسف حقيقي ويليق بنا ليس لأننا سيئون، بل لأننا بشر ولأن قوائم المسجونين بسبب قضايا رأي، أكبر من الاستيعاب.
أحيانا أفكر أن المقصود من المدد الطويلة للحبس الاحتياطي أو تدوير القضايا ودون محاكمات هو أن ننسى، أحيانا أسمع عن أشخاص أفرج عنهم، وقد نسيت سبب حبسهم غير العقلاني في الأغلب، أو أنهم كانوا في السجن من الأساس، هذا مؤسف، لكن رسالتهم ناجحة.
كل ما تفعله السيدة إكرام يوسف هو كتابة يوميات مكررة عن رحلتها إلى السجن، أو دعاء للتهوين عليه وعلى مساجين مصر، أما صباحها فيبدأ هكذا، كل يوم تقريبا “يسعد صباح الطيبين.. ربنا يحفظكم ويثبتكم ويسندكم يا عشاق الأمل ويحميكم وينصركم، وترجعوا لنا عاجلا بالسلامة”، رسالة عادية كرسائل أم مصرية، لا سياسية أو صحفية أو مثقفة، بل اختزلت نفسها إلى ما هو جوهري وحاسم: محض أم قلبها مخلوع على ابنها. النتيجة مذهلة: لا أنسى زياد، أتذكره معها كل يوم، وأتذكر معها أن هناك مئات المسجونين في قضايا رأي لا أعرف أسماءهم، لم أنس أن الحبس من أجل خلاف سياسي أو سوء فهم أو لايك أو منشور عابر هو أمر حقيقي.
هكذا تكتب، في كل مرة تعود من زيارة
“الحمد لله وبفضل دعواتكم سلمت الأكل والعلاج بتوع زياد وهروح” لكنها لا تنسى أبدا أن ابنها ليس الوحيد، وأنه جزء من سياق “فيه ناس يا حرام فضلوا مستنيين في الحر ده اكتر من اربع ساعات، وبعدين قالوا لهم أن ولادهم اترحلوا لسجن تاني، كان هيجري إيه لو كانوا بلغوا الأهالي الأول، بدل ما يتشحططوا ويقعدوا يستنوا في الحر والأكل اللي معاهم يبوظ”
**
“مش عايزين شفقة وصعباينات! ولادنا مش مكانهم بالسجون”
الجميل أن طريقتها الأمومية تتجاوز بالفعل فكرة الشفقة و”الصعبانيات”، بساطة الطريقة تجعل الأمر حيا وحيويا ودافئا، ومحققا لغرضه: زياد، شخص من لحم ودم، ليس شبحا لفكرة أو لسياسة، بل إنسان في محبس، وهو الأصل في المسألة، فزياد لم يمسك قنبلة، لم يقتل، لم يسرق، بل تحلى بالأمل، قال كلاما، آمن بفكرة. والأفكار والآمال والكلام ليس مكانهم في السجون، وإن كانت السياسة والرأي ليست مبررا كافيا للتنكيل، فإن التذكير بإنسانية صاحب الرأي، تضع يدها على الأزمة، ما تحرم منه مسجونك السياسي هو حياته ومستقبله، إهدار لعمره.
لكنها أيضا لا تتخلى عن الأمل، رغم مشقته، لكنها تتحمل كل أوجاعه بشجاعة، تحتضنه في كل مرة تفكر أن زياد قد يخرج تلك المرة رغم قناعتها أن ذلك الحبل الذائب مسنون، كأنها تحي عمليا ما ذاقه ابنها: أمل مدمى. حتى إن قرارها الأمومي في بساطته، الهائل في مشقته، بأن تحرم نفسها من التكييف رغم درجات الحرارة الصعبة التي نعيشها، كي تذكر نفسها بما يعيشه ابنها من حر الزنازين، يبدو عاديا مقارنة بما تعيشه يوميا، لم تستعمل إكرام المروحة إلا بعد أن سمح بدخولها إلى زياد في محبسه.
تلك الأمومة لا تمتد لتشمل زياد، بل تحمل فرحا حقيقيا بكل من أفرج عنه، كأنها تلتمس شيئا من القوة والونس في أن يذوق آخرون حريتهم، أن يردوا سالمين إلى أمهاتهم وعائلاتهم.
تكتب عن مصطفى جمال كامل، الذي حبس احتياطيا 46 شهرا، أي ما يقارب 4 سنوات:
“الحمد لله أخد إخلاء سبيل النهارده، بعد ما ضاع أكتر من أربع سنين من عمره في السجن ظلم، وما لحقش يودع والده اللي فضل مستني خروجه، لغاية ما حان أجله! يا ترى اللي بيقدروا يبرروا ضياع أعمار الشباب في السجون، حييجوا يوم ويحسوا بالجريمة اللي شاركوا فيها؟”
وهي أيضا تحتفي بخروج حسام مؤنس بعفو رئاسي بأريحية كبيرة، وهو المحبوس مع ابنها بسبب القضية نفسها المعروفة إعلاميا بقضية تحالف الأمل، وتكتب في عيد ميلاده مهنئة:
“أول عيد ميلاد في الحرية، حسام مؤنس، كل سنة وإنت حر، وربنا يعوضك وأسرتك أفراح كتير”
تتحول صفحتها إلى تذكرة بأمهات المحبوسين، حيث تحرص إكرام على أن تشارك بانتظام منشوراتهن عما يتعرض له أبنائهم وبناتهم.
في كل يوم، بلا كلل تبدأه بدعائها الطيب بالسلامة والسعادة والطيبين، ثم تحكي شيئا عن ابنها وأشياء عن الباقين، هي لا تطلب الكثير، كل ما تطلبه منا: لا تنسوا زياد.