مما يقال في مسألة الأخلاق، ويمتد إلى غيرها من شؤون الاجتماع، إنه إذا أمكن تلخيص كل التعاليم الأخلاقية والدينية في عبارة واحدة، فسوف تكون تلك العبارة هي “أحب لأخيك ما تحب لنفسك” أو “لا تقبل لأخيك ما لا تقبله على نفسك”. إنها حكمة موجودة بلفظها ومعناها أو أصدائها في مختلف الحضارات والثقافات والأديان، ولكن بالطبع، قلّما وجدت لها تطبيقًا على أرض الواقع، فالإنسان بارع في التهرب من ذلك المعنى الأساسي، وأكثر براعة في تأويله بألوان شتى من المعاني. وليس أكثر دلالة من ذلك في ثقافتنا – وهي التي تعنينا أكثر من غيرها – من تأويل كلمة “أخيك” لتصبح أخيك في الدين أو العقيدة، أو حتى في الفهم الديني أو الانتماء المذهبي داخل العقيدة الواحدة، أو مدى الالتزام بذلك الفهم، إلى آخر هذه التصنيفات، لينمحي في النهاية أثر العبارة وجدواها، الذي يفترض به أن يشير إلى الإنسان في كل مكان وزمان.
اقرأ أيضًا.. الشعراوي والفضاء: خواطر عن الخواطر
وبالطبع فإن التهرب من معنى “أحب لأخيك” لا يرجع فقط إلى الطبيعة الأنانية للإنسان، فعلى العكس، تشير “فطرة” المجتمعات الإنسانية في أطوارها الأصلية إلى التعاضد والتعاون وإلا ما عرفت النجاة والاستمرار، ولكن الأنانية هنا قد تحولت في كثير من الأحيان إلى أيديولوجيا، العنصرية هي أكثر تجسداتها وضوحًا، وإذا كانت العنصرية قد اتخذت في كثير من أنحاء العالم أشكالًا استهدفت أنواعًا من لون البشرة أو الأصول العرقية، فإن العالم الإسلامي، الذي افتخر دائمًا بأنه لا يحتفي بعربي على حساب أعجمي ولا بأبيض على حساب أسود، اتخذت عنصريته شكلًا دينيًا، وصار “الاستعلاء بالحق” أو “الاستعلاء بالإيمان” هو شكل عنصريته، وهو ما يبرر أن “تقبل على أخيك ما لا تقبله على نفسك”، أو أن “تحب لنفسك ما لاتحب لأخيك”، وذلك لأننا “نحن الحق وهم الباطل”، فمثلًا، إذا سألك أحدهم: لماذا نمارس الدعوة إلى الإسلام في الغرب ونملأه بالمساجد ومراكز الدعوة الإسلامية، بينما ننتفض رفضًا لأي شبهة “تبشير” على أراضينا؟ أجابك فورًا: “لأننا نحن الحق وهم الباطل، وما يجوز للحق لا ينبغي أن يجوز للباطل”. إنها، كما ترى، عملية عكس كاملة للمبدأ الأخلاقي الأساسي، وهي نوع من العنصرية الواضحة لكنها تتخفى وراء الدين تمامًا كما تخفت العنصرية العرقية الغربية طويلًا وراء مزاعم علمية تدعي أن ثمة عرقًا أرقى من آخر.
وبالطبع فإن مثال “الدعوة والتبشير” هو مجرد نموذج واحد لمسألة الاستعلاء، من بين نماذج لا تنتهي تذخر بها الحياة اليومية، فمنها ذلك الشاب الذي يتحرش بفتاة فإن سألته: هل تقبل ذلك على أختك؟ أجابك مستهجنًا بأن أخته “محترمة”، ويعني بذلك غالبًا أنها محجبة أو أنها تلتزم بزيّ معين يمثل الدين أو الأخلاق في نظره. إنه شكل آخر من الاستعلاء يطال عناصر من داخل المجتمع نفسه، كهؤلاء الذين ينتفضون غضبًا في بعض الأقاليم إذا وجدوا أن بعض الأقباط يصلون في أحد المنازل (لنقص الكنائس في المنطقة)، فيحاصروهم لمنعهم، بينما يذخر كل شارع بمساجد وزوايا الصلاة للمسلمين.
يمكن طرح نماذج لا تنتهي على مفهوم الاستعلاء الديني المدمّر، الذي ليس غريبًا أنه كان أحد الأركان الرئيسية في مشروع الفكر الإرهابي الذي صاغه سيد قطب، إذ بمجرد أن تعتبر نفسك أرقى من غيرك، تصبح جاهزًا لممارسة العنف ضدهم، فأنت ببساطة لم تعد تراهم بشرًا، ويزداد سخطك عليهم، إذا وجدت أن هذه الكائنات التي أصبحت تعتبرها أدنى منك، تجادلك وترفض “أوامرك”، إنها لا تكتفي بأنك “تسمح” لها بالحياة، بل تعتقد أنها تساويك في المقدار، بل إن بعضها قد يفوقك في الثروة أو النفوذ أو مجرد الاستمتاع بالحياة، من دون أن يدرك أن ثمة من جعلته أفكار الاستعلاء قنبلة جاهزة للانفجار في أي لحظة.
لكن التفكير الإرهابي ليس البعد الوحيد هنا، ثمة أيضًا حقيقة أن الاستعلاء لا يسمح لك بأن تتواضع وتتعلم من غيرك، بل يجعلك تبحث عن طرق وتفسيرات أخرى للواقع تحافظ من خلالها على إحساسك بالتفوق، لقد رأينا كيف أحدثت صور التلسكوب جيمس ويب صدمة في مجتمعنا بنفس الدرجة التي أثارت بها الانبهار والإعجاب في العالم المتقدم، وقد سارع بعض رجال الدين إلى إصدار طبعات جديدة من مفهوم “الإعجاز العلمي” لتلبية أولئك الذين أشعرتهم الصور المهيبة بالضآلة لا أمام الكون الواسع، بل أمام الغرب المتقدم، فكان لابد من “حقنة” سريعة تعيد لهم الإحساس بأن كل ما يتوصل إليه الغرب هو ذروة فيما نعرفه منذ مئات السنين، وبالطبع فإن هذا التفكير البائس، الذي منبعه الرغبة في الحفاظ على شعور الاستعلاء، لا يؤدي إلا إلى المزيد من التراجع، حتى أن الحديث عن “الأرض المسطحة” و”الفوتوشوب في صور ناسا” عاد يكتسب أنصارًا من بيننا، بعد أن كان قبل سنوات مجرد جزء من أحاديث السخرية.
تتعدد الأبحاث والأسئلة حول كيفية انتشال المسلم المعاصر من تخلّفه، (وأكبر أعراض التخلّف ألا يعترف به صاحبه)، وأزعم أن الحرب على مفهوم الاستعلاء وحده، إن نجحت، قد تكون خطوة مختصرة نحو مسلم لا يخاصم العصر.