حقق فيلم “كيرة والجن” إيرادات ضخمة وصلت حتى هذه اللحظة إلى ما يزيد عن 70 مليون جنيه في ظل توقعات باستمرار تلك الإيرادات الكبيرة. الفيلم من تأليف أحمد مراد وإخراج مروان حامد، وبطولة أحمد عز وكريم عبد العزيز وهند صبري وغيرهم. تقع أحداث الفيلم خلال فترة ثورة 1919 حيث يتتبع قصص مجوعة من الأشخاص الذين اشتركوا في مقاومة الاحتلال البريطاني.
هدف الفيلم كما قال صانعوه تسليط الضوء على شخصيات منسية من تاريخ المصريين في النضال ضد الاستعمار. تبدو الفكرة للوهلة الأولى محاولة إبداعية للخروج عن إطار الأعمال الفنية التقليدية التي تناولت تلك الفقرة سابقًا، لكن التنفيذ وعلى أقل تقدير كان مخيبًا للآمال.
اقرأ أيضًا.. كيرة والجن.. كيف نتجاوز غيرة النجوم وغرورهم؟
الكليشيه كقصة
الفيلم يغذي مصطلح “الكليشيه”. كما لعب على الأنماط القديمة الموجودة تقريبًا في جميع قصص الدراما. البطل الفاسد أخلاقيًا الذي يتغير للأفضل بعد تعرضه لظروف صعبة (الجن). رجل العائلة المثالي (كيرة). الصديق الذي خان أصدقائه (الهلباوي). الفتى المرفه الذي يتحدى التوقعات (إبراهيم).
يداعب الفيلم مشاعر مرتبطة بكليشيهات اجتماعية. استحضار كافيه “ريش” كان لعب على الكليشيه المنتشر في المجتمع حول أصالة “كافيه ريش”، ليصبح الكافية موقعًا للفيلم. بدا أن القصة كلها وضعت حول هذا الكليشيه. كما يفعل نفس هذا الأمر أيضًا بإقحام الإنفلونزا الإسبانية بطريقة غير مفيدة دراميًا في أغلب أحداث الفيلم لربطها بأزمة فيروس كورونا في عصرنا الحالي، كان لمداعبة كليشيهات اجتماعية مجددًا.
شكل سينمائي ركيك وقصة أكثر ركاكة
فشل الفيلم في إثارة عاطفة المشاهد. ففي اللحظات التي من المفترض أن يثير فيها العواطف لم ينجح في هذا. حتى المشهد الأخير، الذي هو من المفترض أن يكون أكثرهم إثارة للعاطفة فشل فشلًا ذريعًا.
هذا الفشل يرجع في الأساس إلى ضعف بناء الشخصيات طوال الفيلم، والذي يظهر في جميع الأبطال تقريبًا. لم يفسر الفيلم تطور شخصية نجيب الهلباوي ولم يوضح دوافع تحوله المفاجئ على سبيل المثال.
حتى الشخصيات الرئيسية لم تنجوا من سهولة توقع الأحداث. مثل موت الأب الذي غير شخصية “الجن” أو موت الزوجة الذي أثر على شخصية “كيرة”، جميعها أحداث متوقعة. لكن ليس لبراعة صناع العمل في التلميح سينمائيًا (بصريًا أو في السيناريو) بل لأنها كليشيهات محفوظة. الأب الوطني خاب ظنه في نجله، بالطبع سيموت مما سيغير الابن. والزوجة التي تموت من الإنفلونزا الإسبانية لاختبار البطل بعد أن قام “كيرة” في مشهد سابق بمحاضرة “إبراهيم” حول أهمية السرية وعدم معرفة أبيه بما يفعل.
سبب أخر لضعف الفيلم في مخاطبة المشاعر هو تماشي الفيلم بصريًا مع ركاكة القصة. سينمائيًا بدا الفيلم بصريًا كإعادة إنتاج فيلم أكشن أمريكاني يفتقر إلى الإبداع. ما جعل الفيلم يبدو كالأفلام الأمريكية التجارية. إذ أنه عند مقارنة الفيلم مع أي نظيره من نوعية الأكشن الأمريكاني لن يجد المشاهد أي فروق تذكر.
هذا النوع من الأفلام لا يعبر عن السينما الحقيقية التي يظهر فيها المخرج إبداعه بصريًا وسينمائيًا. إذ يخلو الفيلم من مشاهد ذكية سينمائيًا تلمح أو تخاطب المشاهد بصريًا.
التستوستيرون الأمريكاني في مواجهة نضال المصريين
الفيلم في جوهره استعراض لذكورة كريم عبد العزيز وأحمد عز. إذ أنه لا يمر مشهد إلا ويعقبه شجار بين “كيرة” و”الجن” بدون مبرر درامي. ما جعل الفيلم يطابق كليشيه البطل الأمريكي الأوحد ذو الذكورة المفرطة وما يصاحب هذا من رائحة التستوستيرون -هرمون الذكورة- المفرط. ربما في أحيان كثيرة وصل هذا الإفراط إلى حد إثارة الإعياء عند المشاهد وليس العواطف.
شخصيات “كيرة والجن” أو بالأحرى كريم عبد العزيز وأحمد عز هم بالضبط كالأبطال البيض الذكور أصحاب الامتيازات الاجتماعية في الأفلام الأمريكية. ولكن هؤلاء هم النسخ المصرية بالقيم الذكورية المصرية بالامتيازات الاجتماعية.
ذلك البناء حول قصة من المفترض أن تناقش النضال الجمعي للمصريين ونضال المهمشين ضد المحتل البريطاني إلى بطولة فردية تشبه أفلام الأكشن الأمريكية ذات البطل الأوحد. حتى مشاهد الثورة التي كانت تصور جموع المصريين كان بطلها كريم عبد العزيز وأحمد عز. حيث تحول المصريون العاديون إلى خلفية للأبطال.
المهمشون: صامتون أحيانًا وأدوات أحيانًا أخرى
استعراض الذكورة طغى على الكل بل أسكت الجميع. الرجل اليهودي لم يجعله صناع الفيلم صامتًا فقط، بل جعلوه فاقدًا للقدرة على الكلام، وضحوا به في النهاية بلا مبرر واضح. الرجل المسيحي الذي كان يطبع المنشورات ظهر كديكور شبه صامت، يتكلم أحيانًا.
بالطبع كان لدولت فهمي (هند صبري) نصيب ليس قليلًا من قصة الفيلم ولكن صناع العمل قاموا بما هو أسوأ من جعلها صامتة. حوّل الفيلم دولت فهمي التي مثلت فتاة صعيدية ومسيحية إلى أداة لتحسين شخصية “الجن” من أجل أن يصبح ملتزمًا أكثر بالأخلاقيات السائدة ويبتعد عن المخدرات وفتيات الليل.
فقدت دولت استقلاليتها -برغم الإمكانيات الأعمق في شخصيتها- وتحولت إلى أداة تخدم شخصية الذكر صاحب الامتيازات الكثيرة. وعندما انتهت من دورها ضحوا بها أيضًا، لأنها أصبحت بلا فائدة بعد أن أدت دورها في خدمة الذكر صاحب الامتيازات الاجتماعية ليصبح في صورته المثلى. ولكن أحمد عز بالطبع لم ينس الدفاع عن “شرفها” بعد موتها ليستمر في التأكيد للمشاهد على ترسخ القيم الذكورة و”الشهامة” فيه، المطلوب تواجدها في الذكر المصري المثالي، برغم عدم أهمية المشهد دراميًا.
الشخصية الأنثوية الأخرى التي عوملت نفس المعاملة كمجرد أداة لخدمة البطل هي زوجة كيرة (روبي). لا يوجد أي فائدة لموتها إلا لاختبار البطل لإثبات قوة شخصيته كذكر في مواجهة الصعاب. وللأسف، حتى روبي لم تخفف من حدة التستوستيرون في هذا الفيلم.
حتى شخصية إبراهيم (أحمد مالك)، تم تهميشها بالرغم من أنه من عائلة ثرية، ولكن هذا لم يشفع له للحصول على الامتيازات التي منحها صناع العمل للجن وكيرة. لأنه لا يتوافق مع معايير الذكورة المثلى التي صورها كريم عبد العزيز وأحمد عز (بعد تطوره) التي تتوافق مع الأخلاقيات السائدة. فإبراهيم ذو جسد هزيل وشعر أشقر وحبيبة أجنبية. ليس رجل مصري مفتول العضلات ومتزوج وله أبناء أو يسعى للزواج. لذلك حكم عليه الفيلم بالموت.
أحمد عز ينتصر على جثث المهمشين
المهمشون جميعهم ماتوا بصمت وبعيدًا عن عين الكاميرا، كأنهم لا يستحقون أن تثار عاطفة المشاهد نحوهم. أما كريم عبد العزيز عند موته استغرق المشهد عدة دقائق لمحاولة إثارة عاطفة المشاهد. ولكن في النهاية، ولحسن الحظ، فشل صناع العمل في تحقيق هذا بأية حال.
في النهاية ظهر البطلين الأكثر ذكورة وأصحاب الامتيازات الاجتماعية في مشهد قرب النهاية منتصرين وإن مات منهم واحد، وعاش منهم أحمد عز بعد أن تم قولبته ليصبح رجل مثالي يتوافق مع المعايير الأخلاقية السائدة. حتى شخصية كريم عبد العزيز هي الوحيدة التي بقيت بعد موته في ابنه ليحتقل مع أحمد عز. عكس باقي الشخصيات التي انتهت وشبه انتهى ذكرهم نهائيًا بعد موتهم.
في فيلم كيرة والجن لم ينتصر نضال الشعب على الاحتلال البريطاني. المنتصر الوحيد كان أحمد عز وكريم عبد العزيز وما يمثلاه من امتيازات اجتماعية، ولكنهما لم ينتصرا على الاستعمار بل انتصرا على المناضلين المصريين الحقيقيين الذين من المفترض أنهم محور الفيلم. جميهم تمت التضحية بهم أو وضعهم في الخلفية لأجل أحمد عز وكريم عبد العزيز. مات المناضلون المهمشون المصريون وخرج الاثنين فقط منتصرين.