يعيش العالم أزمات كبرى بسبب الزيادة السكانية، في ظل انخفاض وشح الموارد وتزايد الأمراض المصاحبة للفقر في بعض البلدان التي تغيرت ديموغرافيتها الاجتماعية وارتفعت فيها معدلات عدم الرضا، انعكس ذلك على تضخم مستويات العنف والجرائم بسبب ضغوط عدم المساواة وانعدام الفرص.

ومع ذلك قد تبدو الأزمة السكانية قابلة للاندثار خلال العقود المقبلة وبدلًا منها سيصبح انخفاض عدد السكان أعقد مشكلات العالم وفي القلب منها المنطقة العربية.

اقرأ أيضًا.. العالم يتفرج.. القرن الأفريقي على أبواب مجاعة قاتلة لم تحدث منذ 40 عامًا

‏سر التوقعات بانخفاض سكان العالم

خلال هذا العام سيقفز عدد البشرية إلى 8 مليارات إنسان ولن تتوقف الزيادة هنا بالطبع، إذ تتوقع التقديرات الدولية زيادة أخرى تصل إلى 8.5 مليار بحلول عام 2030، ثم القفز إلى 9.7 مليار في عام 2050.

لكن بعدها يبدأ العد العكسي. ستتوقف الزيادة عند حدود 10.4 مليار بحلول نهاية القرن ليدخل العالم في حسابات أخرى كما تشير الأمم المتحدة، إذ سيبدأ عدد البشر في الانخفاض بحلول عام 2100 وسيضرب هذا التسونامي نحو 61 دولة تبدأ مؤشرات الانخفاض تظهر لديها بالفعل من عام 2050 بنسبة 1 % على الأقل.

أكثر البلدان تضررًا ستكون بلدان القارة العجوز (أوروبا) التي تشهد من الآن ظاهرة مخيفة بإفراغ القرى والبلدات الحدودية من السكان لا سيما في إيطاليا وإسبانيا، ويتوقع خبراء المؤسسات الدولية المعنية بالسكان وقوع الضرر الأكبر على بلغاريا ولاتفيا وليتوانيا وصربيا وأوكرانيا بنسب تراجع في عدد السكان لأكثر من 20% خلال العقود المقبلة.

يتبع ذلك بالطبع انعكاسات مدمرة على الاقتصاد والتأثيرات الاجتماعية ومستوى التحضر في هذه البلدان.

موقع العرب في الأزمة

“لا تبتعد المنطقة العربية عن أسباب الانخفاض المتوقع للمواليد”.. يقول الدكتور حسن جمال أستاذ طب وجراحة النساء والولادة، ويضيف: “لو عدنا في المنطقة العربية عند حدود الثمانينيات فقط سنجد أن معدل الإنجاب للمرأة كان يبلغ 7 أطفال. أما الآن انخفض من 2 إلى 3 على الأكثر لأغلب السيدات، هذا على المدى القريب لكن على المدى البعيد ستزيد معدلات الانخفاض”.

تتأثر اقتصادات الدول بشكل كبير بسبب انخفاض أعداد السكان

يوضح أستاذ طب وجراحة النساء أن هناك مؤشرات عالمية على وجود انقلاب في الهرم السكاني بمعظم بلدان العالم والمؤشرات ستتجه في السنوات القريبة إلى صالح كبار السن في نسب السكان بما ينعكس على المستوى الاقتصادي والصحي والاجتماعي.

أحد أهم الأسباب الأساسية لهذه الظواهر في البلاد العربية لاسيما الدول الغنية يعود إلى الانفتاح على قيم الحداثة واندماج غالبية الأسر العربية مع التوجه العالمي للنزول بمعدل المواليد لكل أسرة مقابل الارتفاع في جودة الحياة بما يناقض الثقافة الإسلامية التي تجعل “البنون” ضمن أهم مباهج الحياة خاصة للمقتدرين ماديًا واجتماعيًا. يختتم الدكتور حسن جمال.

معدلات الخصوبة.. لماذا تتراجع بشكل مستمر ؟

تراجع معدلات الخصوبة واحدة من أبرز مشكلات تراجع السكان، وعند تبين مسئوليتها عن انخفاض عدد المواليد منذ 70 عامًا نكتشف أن معدلات الخصوبة في جميع أنحاء العالم تراجعت بنسبة تقترب من 50% خلال هذه الحقبة الزمنية.

تتحدث تقارير عن متوسط عدد الأسر عام 1952 إذ كان يبلغ عالميا 5 أطفال، والآن أغلب الأسر لديها أقل من 3، ويترتب على معدلات الخصوبة المنخفضة إلى جانب زيادة متوسط العمر المتوقع في جميع أنحاء العالم “شيخوخة السكان” ومعنى ذلك أن العدد الأكبر سيعاني من مخاطر جمة بما في ذلك ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية.

انخفاض سكان العالم

حسب تقرير صادر عن البنك الدولي بدأت ذروة تأثير تراجع الخصوبة على عدد السكان الذين بلغوا سن العمل عام 2012 وحذر التقرير من انعكاسات هذه المعدلات على التباطؤ الاقتصادي إذا لم تستعد البلدان لهذه الأزمة ومراعاة التسارع في شيخوخة السكان مع تباطؤ عدد المواليد.

كانت بعض البلدان الغربية بدأت بالفعل في تكييف سياساتها لمواجهة هذا الخطر من خلال تشجيع الهجرة لكن تتفاقم مشكلة ضخ دماء جديدة من الخارج بالقدر الكافي في هذه البلدان بسبب تشديداتها وانتقائيتها الصلبة في قبول السكان الوافدين إليها.

تستقطب البلدان الغربية العمالة الماهرة وعالية المهارة فقط، بما يجعلها غير قادرة على الوفاء باحتياجاتها من السكان لشغل القرى والبلدات التي أصبحت شبه خالية من البشر وكذلك الوظائف التي لا تجد من يشغلها أو الوفاء بالتزامتها. وستزيد المشكلة بنسبة كبيرة وستقفز أعداد العجز فيها خلال السنوات المقبلة مع ارتفاع أعمار معظم السكان وتقاعد الموظفين عن العمل.

السيناريوهات الأكثر خطورة

يرى الكثير من الخبراء أن قدرة العالم على عبور هذه الأزمة سيتضح خلال عقدين من الزمن، فالمطلوب خلال السنوات المقبلة التوصل إلى استراتيجية عالمية متماسكة للتعامل مع المشكلة ولايجب تجاهلها خاصة في البلدان النامية التي لاتزال تعوم على بحر من المشكلات المتعلقة بسوء توزيع الموارد والفساد والاستبداد والتطرف.

تشكل هذه المشكلات المستعصية على الحل في البلدان النامية عقبة أمام التوصل إلى صيغة عالمية تطور سياسات واقعية وقابلة للتنفيذ للاستعداد للمتاعب القادمة.

ويحذر الخبراء من تجاهل الفروض العلمية التي تتنبأ بأزمة كارثية للعالم إذ استمر الانخفاض في عدد السكان كما حدث من قبل في أزمة البيئة. إذ تجاهل غالبية الدول تحذيرات العلماء من الاحتباس الحراري قبل عقدين والآن الكل يدفع الثمن.

يكشف عن معطيات حجم الخطر في المستقبل، أن أكبر دولة في العالم من حيث السكان حاليًا ـ الصين ـ تعاني بالفعل من نقص العمالة في بعض المجالات بسبب انخفاض عدد سكانها. ولهذا يرى البعض أن الصين قد يتعين عليها خلال العقود القادمة الاعتماد على المهاجرين للحفاظ على اقتصادها نشطًا في ظل قناعة أغلب سكانها بالتقيد بعدد قليل للغاية من المواليد بعد عقود من تطبيق سياسات الإمساك التي نفذتها السلطة بحزم للتحكم في الزيادة السكانية، وبمرور الوقت أصبحت من مقومات الثقافة الصينية.

من المتوقع أيضًا أن تحذو الهند حذو الصين ربما بحلول عام 2070 عندما يبدأ عدد سكانها في الانخفاض وكل هذه الظواهر تحديات لما سيحدث إذا لم يصل العالم لاستراتيجية رشيدة تقوم على العدالة وتوزيع الثروات والنمو الاقتصادي والتعاون حتى لايتكلف الجميع ثمنًا باهظًا.

ليست كل الصورة قاتمة

الأرقام المتوقعة في انخفاض عدد السكان تعبر عن حقيقة واقعة على الأرض ولا مجال للتعامل معها بنوع من التفاؤل أو القلق. يحاول لؤي شبانة المدير الإقليمي لصندوق الأمم المتحدة للسكان التخفيف من أثر المشكلة ويصوغ لها تصور شديد العقلانية إذ يعتبر أن ـ الإنسان ـ في كل الظروف هو الحل.

يلفت شبانة إلى أن الاستثمار في الفرص وحقوق الإنسان من أهم أسباب الحفاظ على الحياة الإنسانية في الكوكب مستقبلا، لاسيما أن زيادة السكان في الوقت الحالي ببعض الدول لازالت تمثل تحديا كبيرا ربما أصعب وأكثر تعقيدا من التعامل مع سيناريوهات انخفاض السكان التي حتما ستضيف قيمة للتنوع وزيادة تقبل الآخر.

لايبتعد كثيرًا عن هذا الرأي الدكتور عبد اللطيف درويش أستاذ الاقتصاد وإدارة الأزمات، إذ يعتبر التكنولوجيا هي السحر الذي بإمكانه تعويض النقص في الأيدي العاملة وتسخيرها لخدمة الإنسان، لكنه أيضا يبقى أحد الحلول المتوفرة للبلدان المتقدمة، فماذا عن البلدان النامية أو الفقيرة؟

يشير أستاذ الاقتصاد وإدارة الأزمات إلى أن البلدان النامية معنية بدرجة كبيرة بالحل من الداخل من خلال توزيع الثروة بشكل عادل وسن سياسات أكثر عدالة لمواطنيها، كما أن هناك مسئولية خارجية على البلدان الكبرى بتصدير التكنولوجيا والخبرة والمؤن المطلوبة خارجها للقضاء على الظواهر المشينة في حق الإنسانية.

العرب ومشكلات السكان.. أي مواجهة؟

“المنطقة التي تشكل حوالي 5.7% من سكان العالم تصدر حوالي 50% من اللاجئين عالميًا أغلبهم من الشباب”.. يقول لؤي شبانة المدير الإقليمي لصندوق الأمم المتحدة للسكان. ويضيف: “المنطقة لازالت شابة وستزيد معدلات النمو فيها لعقود قادمة لاسيما في عدد من البلدان على رأسها مصر لكن هناك عدد آخر من الدول التي بدأ يظهر فيها تباطؤ بالفعل في عدد السكان لاسيما أغلب بلدان الخليج كما هو الحال في بلدان أوروبا الغربية”.

التغلب على المشكلة السكانية التي لها أبعاد أخرى على المستوى المرحلي والمستقبلي في نظر شبانة يكمن في أهمية الاستثمار عربيًا في الأجندة الاجتماعية والحقوق، من التعليم والنظم الصحية وفرص العمل، وهذا هو الاستثمار الحقيقي في الشباب الذي يهرب بكثافة للخارج.

يختتم المدير الإقليمي لصندوق الأمم المتحدة للسكان: “الأزمة المزمنة في المجتمع العربي أنه يحاول معالجة مشكلات الشباب عبر ضمان أنه لا يشكل عبئًا سياسيًا وأمنيًا بدلًا من الاستثمار بشكل أساسي في تعليمهم وحقوقهم وفرصهم وهذا ما يجب تغيره”.