التحولات، هي الكلمة المفتاح في مسيرة سيد قطب الفكرية، وهو يقف بجدارة على رأس قائمة طويلة من الكتاب والمفكرين تقلبت بهم تحولاتهم بين المواقف والأفكار والانحيازات والمتناقضات، ولا شك أن حالة الانتقال من النقيض إلى النقيض في الفكر العربي تستحق الدراسة الموسعة والمتعمقة.
الناظر المدقق في سيرة ومسيرة نجيب محفوظ وسيد قطب يجد التباين جليًا بين شخصية وطبيعة كل منهما حد التناقض، فقد جرت حياة محفوظ في مسار متصاعد، لم يحدث خلاله أية التواءات أو تراجعات أو تحولات عكسية، فجاءت الحياة على وتيرة واحدة تتسق بداياتها مع خواتيمها، بينما شهد مسار قطب بمرور الوقت تبدل المواقف والمواقع وتضمن المسار تحولات تبدو فجائية وخارج التوقعات، تفصح عن شخصية دراماتيكية.
كان نجيب محفوظ يتلمس خطواته الأولى على طريق النشر، فيما كان سيد قطب يخوض معارك أدبية ذائعة الصيت، وكانت مقالاته اللافتة تملأ الصحف والمجلات، فمنذ بدايته القوية على صفحات جريدة «البلاغ» الوفدية، لم ينقطع عن الكتابة للصحف والمجلات المتخصصة، بالإضافة إلى أن مجلة «الرسالة» التي كان ينشر فيها قطب مقالاته النقدية، كانت هي الأعلى صوتا والأكثر تأثيرا من بين المنابر الثقافية والصحافية في ذلك الوقت.
**
اقتربا قليلًا، وسرعان ما افترقا، جمعهم الأدب في فترة مبكرة من حياة كلٍ منهما، وفي نهاية المطاف فرقتهما الأيدولوجيا، شهدت الأربعينيات من القرن العشرين فترة الذروة في علاقتهما، احتوتهم صحبة الأدب ورحابة الإبداع، في تلك الفترة كتب قطب عن محفوظ أربع مقالات، بينما كتب محفوظ عن قطب ثلاث مرات، مرتين في حياته، وكانت الأخيرة بعد رحيل قطب بستة أعوام.
صحيحٌ أن سيد قطب لم يكن أول من كتب عن نجيب محفوظ، لكنه بلا شك أهم من لفت النظر إليه بقوة، كان متحمسا له بقوة، وكتب أول مقال نقدي مهم عن رواية «كفاح طيبة» التي صدرت عام 1944.
الحماسة البادية في مقالات قطب عن أعمال محفوظ الأولى كانت هي السبب في رأينا وراء أن يظل نجيب محفوظ بوفائه المعهود والأصيل يردد أن سيد قطب: «هو أول ناقد يلتفت إليه وينتبه إلى أدبه»، رغم أنه -على الحقيقة- ليس أول من كتب عنه كما تقول بعض الروايات عن المعاصرين لتلك الفترة، من بينهم الكاتب الكبير وديع فلسطين، الذي يؤكد أنه سبق إلى لفت النظر إلى موهبة محفوظ الأدبية الظاهرة من أعماله الأولى.
**
بدا سيد قطب متيمًا بأعمال محفوظ الأولى، وتكفي قراءة سريعة لما كتبه عن رواية «كفاح طيبة» لنعرف هذه الحقيقة، فقد استهل قطب مقاله المنشور في 25 سبتمبر/أيلول 1944 بقوله: «أحاول أن أتحفظ في الثناء على هذه القصة، فتغلبني حماسة قاهرة لها، وفرح جارف بها، هذا هو الحق أطالع به القارئ من أول سطر، لأستعين بكشفه عن رد جماح هذه الحماسة، والعودة إلى هدوء الناقد واتزانه».
ولم يستطع أن يتخلص خلال المقال من هذه الحماسة للكاتب وللرواية معًا، وقد رأى أنها تحكي: «قصة استقلال مصر بعد استعمار الرعاة على يد «أحمس» العظيم، قصة الوطنية المصرية في حقيقتها بلا تزيد ولا ادعاء، وبلا برقشة أو تصنع، قصة النفس المصرية الصميمة في كل قطرة وكل حركة وكل انفعال».
على عكس عنفوان قطب في الكتابة النقدية نجده يرصد بعض الهنات التاريخية في الرواية ثم يلفت إليها بلطف، ويختم المقال بقوله: «لو كان لي من الأمر شيء لجعلت هذه القصة «كفاح طيبة» في يد كل فتى وكل فتاة، ولطبعتها ووزعتها على كل بيت بالمجان، ولأقمت لصاحبها، الذي لا أعرفه، حفلة من حفلات التكريم التي لا عدد لها في مصر، للمستحقين وغير المستحقين».
**
مقال سيد قطب الثاني عن أدب نجيب محفوظ كتبه عن رواية «خان الخليلي»، ورأى أنها تستحق أن تُفرد لها صفحة في سجل الأدب المصري الحديث، ويعقد مقارنة بينها وبين «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، ولم يخش قطب أن يُعلِّي من شأن «خان الخليلي» على «عودة الروح»، رغم أن الحكيم آنذاك كان من أساطين وأساطير الأدب في مصر، فيكتب: «من الحق أن أقرر أن الملامح المصرية الخالصة في «خان الخليلي» أوضح وأقوى، ففي «عودة الروح» ظلال فرنسية شتى، وألمع ما في عودة الروح هو الالتماعات الذهنية والقضايا الفكرية بجانب استعراضاتها الواقعية، أما خان الخليلي فأفضل ما فيها بساطة الحياة، وواقعية العرض، ودقة التحليل».
ورغم أن قطب حذر محفوظ في مقاله الثاني من الغرور لأنه «لا يزال أمامه الكثير لتركيز شخصيته والاهتداء إلى خصائصه»، إلا أن مقاله الثالث الذي كتبه بمناسبة صدور رواية محفوظ «القاهرة الجديدة»، في مجلة «الرسالة» يوم 30 ديسمبر/كانون الأول عام 1946، وجاء غاضبا على الحياة النقدية في مصر، التي تغفل كاتبا ومبدعا شابا مثل نجيب محفوظ، وذكر أن دلائل غفلة النقد في مصر، أن تمرّ «القاهرة الجديدة»، من دون أن تثير ضجة أدبية أو ضجة اجتماعية.
**
ومرة أخرى يعقد مقارنة بين بدايات توفيق الحكيم وبين بداية نجيب محفوظ ويشير إلى أن توفيق الحكيم قبل 15 عاما كان شابا عندما أصدر أولى رواياته التمثيلية «أهل الكهف» فتلقاها الدكتور طه حسين، وأثار حولها فرقعة هائلة، كانت مولد الحكيم الأدبي. ثم يصل إلى ذروة الثناء عندما يقول: «كان على النقد اليقظ لولا غفلة النقد في مصر أن يكشف أن أعمال نجيب محفوظ هي نقطة البدء الحقيقية في إبداع رواية قصصية عربية أصيلة، فلأول مرة يبدو الطعم المحلي والعطر القومي في عمل فني له صفة إنسانية».
آخر مقالات سيد قطب ورابعها عن نجيب محفوظ جاء عن رواية «زقاق المدق» ونشره في مجلة «الرسالة» مارس عام 1948، كرّر فيه الإشادة بفن محفوظ وأدبه، والأهم أنه أشار إلى إنجاز محفوظ على صعيد فن الرواية، فقال: «نملك اليوم أن نقول إن عندنا قصة طويلة، أي رواية، كما نملك أن نقول إننا نساهم في تزويد المائدة العالمية في هذا الفن بلون خاص، فيه الطابع الإنساني العام، ولكن تفوح منه النكهة المحلية، وهذا ما كان ينقصنا إلى ما قبل أعوام».
**
نجيب محفوظ من ناحيته كتب عن سيد قطب، ثلاث مرات:
الأولى، عندما صدر كتاب «التصوير الفني في القرآن»: «ها أنت تبين لنا في عصر الموسيقى والتصوير والقصة بقوة وإلهام، أن كتابنا المحبوب هو الموسيقى والتصوير والقصة، في أسمى ما ترقى إليه من الوحي والإبداع»، ثم يؤكد على أن الكتاب جاء كالمرشد للقارئ والمستمع العربي من أبناء جيلنا، يدله على مواطن الحسن ومطاوي الجمال، ويجلى له أسرار السحر ومفاتن الإبداع. كان القرآن في القلب فصار ملء القلب والعين والأذن والعقل جميعا. ثم يثني على فصلي (التناسق الفني) و(القصة في القرآن) ويختم بأن «القرآن قد بارك مجهودك فرفعك إلى مرتقى يتعذر أن يبلغه ناقد بغير بركة القرآن».
المرة الثانية عندما نشر قطب رواية «أشواك» عام 1947، عن قصة حب حقيقية عاشها المؤلف مع خطيبته، وقد أهداها إليها، وأطلق عليها اسم سميرة، كما سمى نفسه سامي، وقد رأى «وديع فلسطين» حين عرض هذه الرواية على صفحات مجلة «المقتطف» في مايو عام 1947 أن ثمة مشابهة ملحوظة بين «أشواك» سيد قطب و«سارة» عباس محمود العقاد، فالقصتان على ما يتضح من سياقهما مستمدتان من حياة كاتبيهما وموضوع كل منهما يكاد يكون واحدا، فمحوره أن شابا يحب فتاة فتبدي له الفتاة من الصد ما يقطع الصلة بين العاشقين.
**
مقال نجيب محفوظ عن «أشواك» سيد قطب، نشر عقب صدور الرواية مباشرة، ذكر فيه أن الرواية هي سيرة ذاتية للكاتب، مستشهدا بالإهداء الذي قدم به قطب الرواية: «إلى التي خاضت معي في الأشواك، فدَميتْ ودميتُ، وشَقيتْ وشقيتُ، ثم سارت في طريق وسرت في طريق، جريحين بعد المعركة، لا نفسها إلى قرار، ولا نفسي إلى استقرار.
في التقييم الختامي لرواية قطب أشار نجيب محفوظ إلى أن «القصة وهي تجربة شخصية، فهي معفاة من ضرورات الخلق في الموضوع والشخوص، وينبغي أن نذكر بأن القصاص لا يستحق هذا الاسم حقًا حتى يخرج من نطاق ذاته، ويكتب عن الآخرين، ولكن ليس من شك أن من حقه أن يعالج تجربته الشخصية ولو لمرة واحدة، ومن حقه كذلك إذا فعل فأحسن وأجاد أن نشهد لفنه بما هو أهله من السمو والبراعة».
**
المرة الثالثة والأخيرة التي كتب فيها محفوظ عن سيد قطب كانت في روايته الشهيرة: «المرايا»، والتي قدم فيها «بورتريه» أدبيا يتناول شخصية قطب، حمل فيها اسم عبد الوهاب إسماعيل.
هذه المرة رصد محفوظ التحولات الفكرية التي طرأت على سيد قطب، كما رآه في المرة الأخيرة التي التقاه في بيته بحلوان، رغم معرفة محفوظ بخطورة هذه الزيارة، وبما يمكن أن تسببه من متاعب أمنية، خاصة أنها جاءت عقب خروج قطب من السجن بعفو صحي.
كان طبيعيًا أن يدور الحديث في تلك الزيارة في الأدب ومشاكله، ثم تطرق الحديث إلى الدين والمرأة والحياة، ولمس محفوظ عمق التحولات الكبيرة التي طرأت على شخصية وأفكار سيد قطب، يقول: «رأيت أمامي إنسانا آخر، حاد الفكر، متطرف الرأي، يرى أن المجتمع عاد إلى الجاهلية الأولى، وأنه مجتمع كافر لا بد من تقويمه بتطبيق شرع الله، انطلاقا من فكرة الحاكمية، وأنه لا حكم إلا لله. وسمعت منه آراءه، من دون الدخول معه في جدل أو نقاش، فماذا يفيد الجدل مع رجل وصل إلى تلك المرحلة من الاعتقاد المتعصب».
**
في تلك الزيارة كانت مجموعة من أصحاب اللحى تتحلق حول قطب، الذي لم يعد يشبه صديق محفوظ القديم، ولكنه -كعادته في إطلاق الدعابات -حاول كسر حدة الصمت الثقيل، يقول: «أطلقت دعابة عابرة، وافترضت أن أساريرهم ستنفرج وسيضحكون، ولكنهم نظروا إليَّ شزرا، ولم يضحك أحد حتى سيد نفسه، وعندها غادرت البيت صامتًا».
أدرك محفوظ أن تحولًا كبيرًا طرأ على صديقه القديم، وأن هذه التحولات شملت شخصيته وطريقة تفكيره ومواقفه من الحياة والمجتمع وكل ما يدور حوله، بعد ذلك نما إلى علم محفوظ أن تحولات قطب قادته إلى قلب حركة «الإخوان المسلمين» باعتباره أحد مراجعها الكبرى، فانقطعت علاقتهما نهائيًا، حتى سمع بخبر مشاركة قطب في مؤامرة قلب نظام الحكم، وصدور حكم بالإعدام عليه.
يقول محفوظ: «لم أتوقع أبدا تنفيذ الحكم، وظننت أن مكانته ستشفع له، وإن لم يصدر عفو عنه فعلى الأقل سيخفف الحكم الصادر ضده إلى السجن المؤبد على الأكثر ثم يخرج من السجن بعد بضع سنوات، وخاب ظني ونفذ حكم الإعدام بسرعة غير معهودة أصابتني بصدمة شديدة وهزة عنيفة».
**
بعد ست سنوات من رحيله دخل قطب في سجل محفوظ القصصي حين جسده في شخصية عبد الوهاب اسماعيل في روايته «ميرامار»، وباعترافه فقد قصد محفوظ شخصية سيد قطب، يقول: «الناقد المدقق يستطيع أن يدرك أن في تلك الشخصية ملامح كثيرة من سيد قطب من خلال شخصية عبد الوهاب إسماعيل، وقد كتب عنه: «إنه اليوم لأسطورة، وكالأسطورة تختلف فيه التفاسير، ورغم أنني لم ألق منه إلا معاملة كريمة أخوية، فإنني لم أرتح لسحنته ولا لنظرة عينيه الجاحظتين الحادتين، وكان في الثلاثين من عمره»، واسترسل محفوظ في سرد حياة عبد الوهاب إسماعيل (سيد قطب)، وعلاقته مع ثورة يوليو، وانضمامه إلى «الإخوان المسلمين»، وتغيره وتطور نظرته التي وسمت كل المجتمع بالجاهلية.
ورغم تحفظ محفوظ على بعض هذه التحولات، فإن نجيب محفوظ ظل يكن احتراما وتقديرا كبيرين لسيد قطب، ولم ينس أبدا فضل التنبيه إلى أدبه، ولفت الأنظار بقوة إلى رواياته يقول: «رغم الخلاف الفكري بيني وبين سيد قطب فإنني كنت أعتبره حتى اليوم الأخير من عمره صديقا وناقدا أدبيا كبيرا، كان له فضل السبق في الكتابة عني ولفت الأنظار إليّ في وقت تجاهلني فيه النقاد الآخرون».
**
بقيت لمحفوظ أمنية لم تتحقق وردت في معرض ما كتبه عن قطب في «المرايا»، حين يسأله عن المستقبل، فرد عليه: هل لديك اقتراح؟ فقال: لديَّ اقتراح لكني أخشى أن يكون جاهليا، أقترح أن تعود إلى النقد الأدبي.
بدلًا من أن يخلد اسم سيد قطب في سجل المبدعين الكبار، وربما على غير ما توقع، ارتبط اسمه بتلك الجماعات والحركات التي قامت على فكرة جاهلية السلطة والمجتمع معا، ومخاصمتهما والمفاصلة عنهما، وكانت المقادير قد كتبت سطور تلك النهاية المأساوية.
**